المعري في كتب جديدة من اليمن ومصر وسوريا

إعادة صوغ "رسالة الغفران" لتيسير قراءتها

غلاف طبعة قديمة من رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

المعري في كتب جديدة من اليمن ومصر وسوريا

بين وقت وآخر، يتصدى كتاب وباحثون لإعادة تقديم بعض كتب التراث العربي المهمة إلى الأجيال الجديدة، بصيغ سهلة ولغة معاصرة، كما تعمل المؤسسات الثقافية في مختلف بلدان العالم. وفي تجربة قراءة أعمال أبي العلاء المعري (973- 1057)، نستذكر ما قام به طه حسين في إعادة صوغ "اللزوميات" نثرا في كتابه "صوت أبي العلاء"، وما قام به كامل الكيلاني في إعادة صوغ كتاب "رسالة الغفران". وأخيرا صدرت ثلاثة كتب تقدم ملخصات واختيارات من رسالة أبي العلاء الشهيرة.

كوميديا الغفران

للروائي والأكاديمي اليمني حبيب عبد الرب سروري صدر أخيرا عن "دار المحيط" في الإمارات، كتاب بعنوان "كوميديا الغفران"، يقدم فيه ملخصين لأهم ما جاء في كتابي المعري "رسالة الغفران" ودانتي "الكوميديا الإلهية"، مع عمل مقارنة بين محتوى النصين اللذين يلتقيان في أن المؤلفين قاما بدور استعلائي، حددا فيه طبيعة الحياة في ما بعد الموت من خلال تصوير الجنة والجحيم ومن فيهما من شخصيات اختاراها. فالمعري في تصوره الأخروي "يسرد تفاصيل حياة الناس هناك، ويخترع قصصها وأحداثها كما يريد. يلتقي راويه بالشيطان وبسرب متنوع من البشر والكائنات العجائبية، لا سيما بكبار شخصيات الأدب والميثولوجيا والدين والسياسة". ويسرب "رؤيته لمفاهيم غيبية كبرى: الغفران، الشفاعة، التوبة، النعيم، العذاب".

وقال سروري إنه "بهدف جذب القارئ، لا سيما طلاب المدارس"، لقراءة رسالة المعري، حاول تقديمها (وليس إعادة كتابتها) في "صيغة مدرسية مبسطة مصغرة ليست بديلا من النص الأصلي بالطبع، مخففا منها كثيرا من الاستطرادات والاستشهادات الطويلة، على غرار ما تفعل نصوص المناهج المدرسية الغربية وهي تسعى لتقديم كبار الأعمال الأدبية الضخمة الشاقة، في صيغ تبسيطية مقتضبة أنيقة: تنتشل منها كل ما يعيق أو يبطئ من قراءة غير كبار المتخصصين، لا سيما طلاب المدارس والجامعات". ويوضح سروري أكثر بقوله: "أضفتُ أحيانا جملا صغيرة بديلة لما اقتطعته، خففت أيضا من العدد الهائل من الكلمات التي تحتاج إلى شرح معانيها في الهوامش، باستبدالها بكلمات حديثة مناسبة، أو بوضع هذه المعاني في جُملها مباشرة، حتى لا يضطر القارئ إلى الذهاب إلى الهوامش بين كل كلمة وكلمة تقريبا".

يخلص سروري إلى أن مؤلفي دانتي والمعري قطبان مختلفان في الصميم، وإن جمعهما أحيانا نهج مشترك، تفرضه طبيعة الرحلة إلى الآخرة، والتوق للإصغاء الى بوح ساكنيها

وبالنسبة إلى كتاب "الكوميديا الإلهية" لدانتي (1265- 1321)، يقول سروري إنه لم يفعل معه "غير الاتكاء على ترجمتها الحديثة"، من قبل الشاعر والمترجم العراقي كاظم جهاد، التي يصفها بـ"المدججة بالهوامش العلمية والمدخل النقدي الثري"، و"الاستضاءة، في الوقت نفسه، بنصوص المناهج المدرسية الفرنسية التي تعرض للطلاب مقتطفات واسعة من الكوميديا الإلهية على نحو مقتضب تبسيطي أنيق".

غلاف كتاب كوميديا الغفران لحبيب عبد الرب سروري

ويخلص سروري إلى أن مؤلفي دانتي والمعري "قطبان مختلفان في الصميم، وإن جمعهما أحيانا نهج مشترك، تفرضه طبيعة الرحلة إلى الآخرة، والتوق للإصغاء إلى بوح ساكنيها، أو تقاربُ وجهات نظر المؤلفَين حول الطبيعة الإنسانية أحيانا".

ويقدم سروري نبذة مختصرة عن المعري، ثم يعرض مقتطفات من أفكاره معتمدا على كتاب "اللزوميات"، كما عمل من قبل هادي العلوي في كتابه "المنتخب من اللزوميات: نقد الدولة والدين والناس". ويرى أن فهم "رسالة الغفران" سيتحقق للقارئ حين يتعرف إلى فلسفة المعري وأفكاره. وفي قراءة متفحصة يتناول سروري الرسالة، بعد أن يورد مقتطفات منها، كاشفا على كثير من جوانبها الأسلوبية والفنية، ومنها ملاحظته أن مفهوم الغفران شكل "هوسا رئيسيا في كل حوارات الرسالة". فتجلى في عنوان الكتاب "وفي سؤال: لماذا غُفر لك؟ الذي ركز عليه ابن القارح في أحاديثه مع من رآهم في الجنة. ولماذا لم يُغفَر لك؟ الذي ناقشه مع أصحاب الجحيم". ويتتبع سروري أوصاف الجنة وطبقات ساكنيها وملذاتها وتنوعها، وما قابل ذلك في الجحيم. ويشير إلى وجود راو خارجي للرواية هو المعري، وراو داخلي هو ابن القارح.

ويلاحظ، أن غنى كتاب سروري في مقدماته وقراءته لحياة وفلسفة المعري ومقارنته مع "الكوميديا الإلهية" يتجاوز ما أراده له المؤلف في أن يكون تبسيطا وتسهيلا لـ"رسالة الغفران".

غلاف كتاب مختارات من رسالة الغفران للكاتب أحمد رجب شلتوت

صياغات جديدة

يكتفي الكاتب المصري أحمد رجب شلتوت بتقديم "مختارات من رسالة الغفران" لعلها تساهم في إحياء ذكرى أبي العلاء المعري. ففي الكتاب الصادر أخيرا عن "وكالة الصحافة العربية" في القاهرة، يختار المؤلف مجموعة من النصوص والحكايات التي وردت في الرسالة مع هوامش تشرح بعض المفردات اللغوية القديمة.

يلاحظ شلتوت أن أوصاف الجنة في الرسالة استقاها المعري من القرآن الكريم وقصة الإسراء والمعراج، وهي ملاحظة تبدو مهمة للذين يغفلون المرجعية الشكلية للرسالة

يُعرّف شلتوت بالمعري ومكانته في الثقافة العربية، وكيف تميز بجملة من الأفكار، حتى أنه طلب أن يُكتب على قبره "هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد". ويعني أن أباه بزواجه من أمه "أوقعه في دار الدنيا". ويقول إن المعري كان "قوي الذاكرة، عجيب الحفظ والفهم".

أما عن "رسالة الغفران" فيقول إن أبا العلاء كان في الستين من عمره حين أملى الرسالة. ولا يقطع بعدم تأثر دانتي برسالة أبي العلاء المعري، كما عمل حبيب سروري، إذ يقول إن "الكوميديا الإلهية" تكاد "تكون منقولة عنها، فكرة وفي الكثير من التفاصيل. وهذا الأمر لا يزال لغزا أدبيا محيرا إلى اليوم". كما يشير إلى تأثر الشاعر الإنكليزي جون ملتون به في قصيدته الشهيرة "الفردوس المفقود".

ويلاحظ شلتوت أن أوصاف الجنة في الرسالة استقاها المعري من القرآن الكريم وقصة الإسراء والمعراج، وهي ملاحظة تبدو مهمة للذين يغفلون المرجعية الشكلية للرسالة، وأبرزها قصة الإسراء والمعراج.

غلاف رسالة الغفران بتحرير فرحان بلبل

وكان الكاتب السوري فرحان بلبل (1937- 2025) قدم قبل سنوات ما أسماه "صياغة معاصرة لنص أبي العلاء المعري" في كتاب احتوى على الرسالة وصدر عن "دار ممدوح عدوان" في دمشق.

امتاز هذا الكتاب بمعرفة صاحبه بالكثير من مكامن اللغة الحديثة، مع وجود بعض المفردات التي قد يجهلها كثيرون من الأجيال الحديثة، كاستخدام كلمة "الراح" بدلا من "الخمرة".

وقال بلبل إنه استبدل "الكلمات الغريبة البائدة بألفاظ عادية يفهمها القارئ العادي. وهذا الاستبدال تم مع الحرص الشديد في الحفاظ على نسق تركيب الجملة عند المعري وعلى تشبيهاته الرائعة التي تنبئ عن مخيلة واسعة".

وإذ قام بإعادة صوغ بعض التراكيب والجمل، فإن ذلك من أجل أن "تتخلص من معاظلتها التي كان بعضها دليل الفصاحة والبلاغة في ذلك العصر". وحولها "إلى تراكيب وجمل سهلة هي مقياس الفصاحة والبلاغة في هذا العصر. وذلك دون الإخلال بأسلوب المعري أو بأسلوب ابن القارح". ويرى أن ما قام به هو امتداد لما عمله كامل الكيلاني في ثلاثينات القرن العشرين.

ويوضح أن "رسالة الغفران" تتكون من قسمين "القسم الأول رحلة في الجنة والنار، والثاني تعقيبات على ما ورد في رسالة ابن القارح من قضايا لغوية وشعرية وإخبارية".

shutterstock
تمثال أبو علاء المعري

تقدير المعري

على الرغم مما أثارته الموجة السلفية ضد أفكار المعري وشعره، فإن المعري ظل يحظى بتقدير كبير في الأوسط الثقافية العربية منذ مطلع القرن العشرين، فألفت عنه عشرات، إن لم تقل مئات، الكتب والأبحاث، ويكفي أن نذكر أن طه حسين قبل ما يقرب من قرن كان يدرس كتبه ورسائله في الجامعة، وألف عنه كتب: "صوت أبي العلاء" و"مع أبي العلاء في سجنه" و"تجديد ذكرى أبي العلاء"، حيث شرح أفكاره ولخص بعضها و"ترجم" بعضها الآخر إلى لغة حديثة، كما قال في استخدامه المختلف لكلمة "ترجمة". ومثل تحقيق عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ"، وهي تلميذة طه حسين، لـ"رسالة الغفران"، أهم إنجاز عن الرسالة التي أصدرتها عام 1950، بعد أن كان إبراهيم اليازجي حققها من قبل، وصدرت طبعتها الثانية في القاهرة عام 1907.

هناك إشكاليات اجتماعية ترتبط بحال الواقع العربي الذي نحا في بعض جوانبه إلى مواقف مضادة للنقد الفكري، وهو النقد الذي يعد أبو العلاء المعري أحد أعلامه البارزين

وتعد مقترحات القراءة الأخيرة إضافة مهمة إلى ما سبق من تلخيص وشرح لهذا العمل المهم، من خلال طبعات كثيرة وأعمال دراسية، حيث كانت الرسالة من مقررات الثانوية في عدد من البلدان مثل مصر وتونس، قبل أن تتراجع هذه الأخيرة قبل ثلاث سنوات وتلغي الدرس من المنهج التعليمي بدعوى التخفيف المنهجي على الطلاب.

Wikipedia Commons
المعري في مقر إقامته كما رُسم في كتاب عام 1965

ويبدو، في مسألة تلقي أعمال المعري، أن هناك إشكاليات اجتماعية ترتبط بحال الواقع العربي الذي نحا في بعض جوانبه إلى مواقف مضادة للنقد الفكري، وهو النقد الذي يعد أبو العلاء المعري أحد أعلامه البارزين في الثقافة العربية.

قال طه حسين في كتابه "صوت أبي العلاء" إن أبا العلاء كان فيلسوفا عميق الفلسفة "صادق النظر في أمور الحياة والأحياء" وأنه "كان سيء الظن بنفسه، سيء الظن برأيه، وهذه آية التواضع ومعرفة الإنسان قدر نفسه. وكان أبو العلاء سيء الظن بالناس محبا لهم مع ذلك رفيقا بهم". ورأى طه حسين أن من حق أبي العلاء أن يحبه الناس ويعجبوا به "حبا وإعجابا لا يقومان على الغرور والافتخار بالماضي القديم والاعتزاز بالتراث المجيد، فلم يكن أبو العلاء يحفل بشيء من هذا، وإنما يقومان على قراءة آثاره وفهمها ونقدها. وليس من المهم أن نقبل آراءه ومعانيه، فهذا أهون الأشياء"، فالحياة "في تغير مستمر، والعقل في رقي متصل، والإنسان متواضع مهما تبلغ به الكبرياء".

font change

مقالات ذات صلة