أثارت التصريحات التي أدلى بها الرئيس دونالد ترمب خلال الأسبوع الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثاني جدلا واسعا، والتي حث فيها الجمهوريين على التحرك للقضاء على "الفليبستر" (Filibuster) أو "التعطيل البرلماني المتعمد"، وهو إجراء برلماني غالبا ما يساء استخدامه بواسطة الأقلية في الكونغرس الأميركي بمجلسيه النواب والشيوخ لتعطيل إصدار التشريعات التي أقرتها الأغلبية.
وكانت بداية تلك التصريحات منشورة على منصة "تروث سوشيال" (Truth Social) المملوكة لترمب نفسه في الرابع من نوفمبر، ثم سرعان ما تحول الحَثٌّ إلى توجيه صريح لقيادات الحزب الجمهوري لاتخاذ الطرق المناسبة للقضاء على ذلك التعطيل البرلماني في الخامس من نوفمبر خلال كلمته التي ألقاها في أحد اجتماعات الحزب الجمهوري في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، بشأن التعليق على خسائر الحزب الجمهوري لنتائج انتخابات بعض المجالس التشريعية وبعض المناصب التنفيذية لعدة ولايات أبرزها خسارة الحزب الجمهوري لانتخابات عمدة مدينة نيويورك والتي فاز بها المرشح الديمقراطي زهُران ممداني، المنتمي لفصيل أقصى يسار الحزب الديمقراطي.
تعيد هذه التصريحات فتح ملف بالغ التعقيد، يتقاطع فيه القانون الدستوري مع الممارسة البرلمانية والتاريخ السياسي الأميركي، إذ إن هذه ليست التصريحات الأولى لترمب بشأن الفليبستر، حيث سبق وأن دعا إلى إلغائه خلال حملته الانتخابية، لكن التصريحات الجديدة تأتي في خضم الاستقطاب السياسي الحاد الذي يشهده الكونغرس، خاصة قبيل إنهاء فترة الإغلاق الحكومي الأميركي (Government Shutdown)، وهي تلك الفترة التي لا يتمكن فيها الحزبان من التوافق على مشاريع القوانين المتعلقة بالتمويل والميزانيات، والتي غالبا ما يُعزى سببها إلى التعطيل الذي يفرضه الفليبستر، وما يؤديه من الفشل في تمرير الميزانية العامة للدولة بأغلبية بسيطة.
وهو ما يطرح عدة تساؤلات جوهرية حول ذلك الموضوع، أهمها: ما المقصود "بالفليبستر أو التعطيل البرلماني المتعمد"؟ وما أسسه الدستورية والقانونية؟ وهل يعتبر هذا الإجراء مشروعا أم إنه يدخل ضمن الحيل والألاعيب التي تستغل الثغرات الإجرائية في الدستور والقوانين؟ كيف يمكن لهذ المبدأ أن يصبح أداة للجمود السياسي والمساومات التشريعية؟ وهل هناك وسيلة مضادة يكفلها الدستور والقانون للحيلولة دون ذلك ووقف أثره؟ وماذا يقصد "بالخيار النووي البرلماني" في هذا الصدد؟ وما هو موقف المحكمة الأميركية العليا في سوابق أحكامها القضائية من هذا الإجراء؟
خلفية أزمة "الفليبستر" في الكونغرس
في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 وخلال أواخر حملته الانتخابية تعهد الرئيس دونالد ترمب ليلة الانتخابات في خطابه الشهير بـ"وعود قُطعت، وعود ستُنفذ"، بالالتزام بعدة وعود انتخابية لقاعدة ناخبيه، كان أبرزها القضاء على "الفليبستر" وما يسببه من تعطيل برلماني غير مبرر، يستعمله الطرف الخاسر في الانتخابات لمنع الطرف الفائز من تنفيذ وعوده، وهو ما أثار جدلا واسعا في حينه، حي اتُهم الرئيس الأميركي بأنه يهدد حرية التعبير التي كفلها الدستور وأنه يمهد الطريق بتعهده إلى السيطرة على الحكومة الأميركية وإحلال الطغيان بدلا من الديمقراطية. وهو ما دفع الكثير من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ من الحزب الجمهوري، كان أبرزهم زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور، جون ثون، بالتعهد بعدم المساس بمبدأ الفليبستر في حالة فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية.
ومع تواصل الصدام بين الحزب الديمقراطي من ناحية والحزب الجمهوري وإدارة الرئيس ترمب خلال السنة الأولى من فترته الرئاسية الثانية، والذي بلغ ذروته خلال الفترة من بداية أكتوبر/تشرين الأول حتى 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، عندما توصل الرئيس ترمب لتوقيع اتفاق ينهي أطول فترة إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة بإجمالي (43) يوما، وقد أرجع ترمب السبب في هذا الإغلاق لمبدأ الفليبستر، فذكر في تصريحاته لقيادات الجمهوريين أنه "قد حان الوقت لهم أن يفعلوا ما يجب عليهم فعله لإنهاء الفليبستر، وأن الإبقاء عليه سيكلفهم السيطرة على الكونغرس والبيت الأبيض في الدورات الانتخابية القادمة، لذلك يجب القضاء عليه حتى ولو اضطروا لاستعمال (الخيار النووي)، وكانت هي الطريقة الوحيدة للقيام بذلك، وأضاف أنه إذا لم يقم الجمهوريون بذلك سيكونون في وضع سيئ، ولن يستطيعوا تمرير أي تشريع لمدة ثلاث سنوات وربع، وأنه بإنهاء الفليبستر سيحصل الحزب الجمهوري على كل شيء تتم الموافقة عليه، كما لم يحدث مطلقا في تاريخ الكونغرس".

تعريف التعطيل البرلماني وأصل مصطلح "الفليبستر" ومدلوله
كلمة "فليبستر" (Filibuster) ذات أصل هولندي تعني "القرصان"، مما يعكس أثر مدلوله على التشريع بأنه "قرصنة" للعملية التشريعية، وقد وردت إلى الإنكليزية عن طريق الفرنسية والأسبانية، وخلال القرن التاسع عشر أصبحت تعني "المعطل" أو "المماطل"، ويقصد "بالفليبستر أو التعطيل البرلماني المتعمد" بوجه عام، بأنه أسلوب برلمان إجرائي تكتيكي تستخدمه أقلية ما في مجلس تشريعي لإعاقة أو منع التصويت على مشروع قانون أو قرار أو التصديق على ترشيح ما، وذلك من خلال الاستمرار في النقاش والكلام لفترة غير محدودة، أو تقديم عدد لانهائي من التعديلات، بهدف "استنفاد" الوقت أو الضغط على الأغلبية، بما يؤدي إلى منع طرح مشروع القانون أو القرار للتصويت أو إجبار الأغلبية على التنازل عنه أو سحبه، مستفيدين من بعض القواعد الإجرائية للمجالس التشريعية التي لا تحدد مدة للكلام لكل عضو، ولـ"الفليبستر" نوعين، النوع الأول هو "التقليدي"، وفيه يقوم أحد الأعضاء بإلقاء خطابات مطولة في قاعة المجلس، أما النوع الثاني وهو "الصامت" وهو المعمول به في أغلب برلمانات العالم منذ السبعينات، ويتم بمقتضاه عرقلة التشريع دون الحاجة للخطابة، ولكن بمجرد التهديد باستخدامه.
