معضلة "الزعامة" عند إسلاميي الجزائر... صراع على المرجعية

أدخلت الأحزاب في متاهات الصراع السياسي المتجدد

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رئيس حزب جبهة العدالة والتنمية الجزائري، عبد الله جاب الله، زعيم حركة مجتمع السلم، المعروفة سابقًا باسم حركة مجتمع السلم الإسلامية (حماس)، الشيخ محفوظ نحناح.

معضلة "الزعامة" عند إسلاميي الجزائر... صراع على المرجعية

يمكن للمراقب للحياة السياسية في الجزائر أن يُشخص خلافات حادة تعصف بقادة الأحزاب السياسية الإسلامية على خلفية تصريحات أدلى بها الشيخ عبد الله جاب الله زعيم جبهة العدالة والتنمية والوجه الإسلامي البارز، بعدما قدم نفسه "المؤسس الفعلي لتيار (الإخوان المسلمين) في البلاد، عوض ما هو دارج من أن الراحل محفوظ نحناح كان السباق لذلك".

صحيح أن هذا التصريح المقتضب أثار سيلا مهولا من الردود والبيانات بين قادة التيار الإسلامي في البلاد حول من يملك الحق التاريخي لنشر الفكر الإسلامي أو الإسلام السياسي في الجزائر غير أنه في المقابل أكد وأثبت أمرا في غاية الأهمية وهو إشكالية "الزعامة" عند الإسلاميين وكيف أثرت سلبا عليهم وأبقتهم مشتتين وهذا التشتت يعود إلى ثمانينات وتسعينات القرن العشرين.

تضارب الروايات والشهادات

بين سطور كلام جاب الله يمكن قراءة الكثير حول "الزعامة" لدى الإسلاميين، ولو أخذنا نماذج معينة لوجدنا أن حركة مجتمع السلم (أكبر الأحزاب الإسلامية المعارضة في الجزائر) لن تتنازل عن الزعامة والقيادة وأنصارها يدافعون دائما عن روايتهم التاريخية لتأسيس التيار الإسلامي وبالنسبة لهم الشيخ محفوظ نحناح هو "المؤسس الفعلي لجماعة "الإخوان المسلمين" في الجزائر وهو من عمل على بناء قاعدة صلبة للدعوة الإسلامية، وهو ما أكده الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم المعروفة اختصارا بـ"حمس"، أبو جرة سلطاني، في شهادته حول الموضوع، إذ قال إن عبد الله جاب الله ركز على طرد التيار الشيوعي من الجامعة، بينما كان نحناح يعمل على بناء قاعدة صلبة للدعوة الإسلامية، كما قال إن النشاط الدعوي تقاسم الساحة الجغرافية بين الرجلين دون اتفاق مسبق.

وحسب الشهادة التي أدلى بها أبو جرة سلطاني فإن "جناح جاب الله استند إلى قاعدة عالمية الفكرة وإقليمية التنظيم دُون غطاء ولا تزكية"، بينما تبنى فريق نحناح شمولية الفكرة والتنظيم بدعم وتزكية من التنظيم العالمي منذ عام 1974، قبل أن يقطع السجن هذا الارتباط.

أما الشيخ جاب الله فيقدم نفسه من أوائل من سعى في هذا المسار الذي كان ثمرة تأثره بمراجع وكتب وافدة من مصر بالخصوص وهي تمثل أدبيات جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تعاني من التهميش في سنوات السبعينات، وهو قال إن "تبنيه لهذا الفكر نابع من اطلاعه على مؤلفات منظري الحركة من دون أن يكون له ارتباط تنظيمي بالتنظيم الدولي أو بالمؤسسة بمصر".

وفي خضم حديثه المطول، نفى جاب الله "إعلان نفسه كممثل رسمي لجماعة (الإخوان)، بل كان صاحب المبادرة في إدخال هذه الفكرة للجزائر ضمن إطار عمل جماعي بدأه عام 1974". وأشار إلى أن "الجماعة التي قادها لم تكن جزءًا من أي تنظيم طلابي إخواني في الجامعات قبل عام 1985، مؤكدا أن ما كان سائدا آنذاك كان مجرد أفكار وليست تنظيمات رسمية"، وحسبه دائما "لم يكن هُناك أي تنظيم طُلابي ينتمي للإخوان داخل الجامعات سوى جماعته التي عرفت باسم جماعة جاب الله قبل عام 1985"، وحاول إبراز الاختلافات الجوهرية في أساليب العمل الدعوي والتعليمي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

أدخلت عقدة "الزعامة" الأحزاب الإسلامية في متاهات الصراع السياسي المتجدد

ومن الشخصيات الدعوية التي سلط عليها الضوء جاب الله: محفوظ نحناح وهو داعية وسياسي جزائري، أسس حركة مجتمع السلم (حمس) ذات التوجه الإسلامي وتولى رئاستها حتى وفاته، والشيخ محمد بوسليماني مفكر ومصلح وداعية معاصر وواحد من أهم أعلام الحركة الإسلامية بالجزائر، لكنه في المقابل لفت إلى أن تحركاتهما كانت كأفراد لا كتنظيمات، موضحا أن الجامعة الجزائرية كانت آنذاك خالية من أي تنظيم دعوي منظم قبل منتصف الثمانينات.

ومن الأصوات المُؤيدة لما ذهب إليه جاب الله، النائب الإسلامي السابق محمد صالحي، معتبرا أن أقواله "صحيحة"، سواء قيلت في وقتها أو تأخرت، مشيرا إلى أن التنظيم الذي كان ينشط في سنوات السبعينات والمعروف محليا بجماعة "الشرق" كان يعتمد على المنهج الإخواني المصري والسوري، من الناحية التنظيمية، وبنسبة 80 في المئة من الناحية المرجعية الفكرية، واستند هذا الجناح على أعمال مفكرين كبار في الحركة الإسلامية، مثل حسن البنا، وسيد قطب، ومحمد قطب، وعلي جريشة، ويوسف القرضاوي (الرئيس السابق والمؤسس للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)، ومحمد الغزالي، وعصام العطار (داعية إسلام سوري)، ومحمد أحمد الراشد، وعبد الكريم الصواف.

أ.ف.ب
ناشطون من الاتحاد الإسلامي للعمال (SIT)، المقرب من الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS)، يشاركون في تجمع حاشد في 16 مايو1991 بساحة الفاتح بالجزائر العاصمة.

وهناك أيضا الجبهة الإسلامية، فترى نفسها من أهل الحق بـ"الزعامة"، وتستند في ذلك على الحاضنة الشعبية التي كانت تتمتع بها مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات لا سيما بعد الفوز الكاسح الذي حققته في الجولة الأولى للانتخابات التشريعية التي جرت في عام 1991 لكنها ألغيت، وغيّر هذا الحدث التاريخي مجرى الأحداث في الجزائر خلال تلك الفترة.

داء "الزعامة"

وقد أدخلت عقدة "الزعامة" الأحزاب الإسلامية في متاهات الصراع السياسي المتجدد، وينظر المحلل السياسي أحسن خلاص إلى تصريحات جاب الله التي تمحورت في مجملها حول ظهور وتطور ما يسمى "الصحوة الإسلامية" وانتشار الدعوة في المساجد والجامعات لتحل محل ما يعرف بـ"الإسلام التقليدي" الذي كانت ترعاه الدولة والبيئة الصوفية والزوايا، ينظر إليها على أنها "جدل ظل مخفيا أو مكبوتا داخل هذه التيارات، والشيخ جاب الله كان يحاول من ورائها دفع التهم التي لصقت به، ومنها: حب الزعامة فهو يعرف دائما إعلاميا بالإخواني الباحث عن الزعامة في الجزائر".

من الطبيعي أن تُثير هذه التصريحات جدلا عميقا بالنظر إلى الفراغ الفكري الذي يعيشه تيار "الإخوان المسلمين" في العالم بل وتشتته الجيوسياسي بين تركيا وقطر ومصر

ومن منظور التحليل السياسي، يقول المتحدث إنه "كان من الطبيعي أن تُثير هذه التصريحات جدلا عميقا بالنظر إلى الفراغ الفكري الذي يعيشه تيار (الإخوان المسلمين) في العالم بل وتشتته الجيوسياسي بين تركيا وقطر ومصر، وخلاصة القول: إنها عبارة عن عملية اجترار في ظل انسداد الفكر وغياب القدرة على الإبداع وتقديم الحلول والمقترحات بشأن الراهن".

وكانت شهادة جاب الله (زعيم حركة النهضة الإسلامية سابقا) قد ولدت ردود فعل عنيفة وخلفت جوا مشحونا تخللته تراشقات كلامية حادة بين "الإخوان"، ويعكس هذا المشهد العداوات العميقة بين قادة الحزبين الإخوانيين في الجزائر (حركة مجتمع السلم وجبهة العدالة والتنمية)، حيث تغيب كل أشكال التضامن والتوافق السياسي بين أحزاب العائلة الواحدة وهذا الوضع لا يقتصر على مرحلة التأسيس في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بل يمكن الإشارة إلى اجتماعات العمل السياسي المشترك على غرار ندوتي  "مزافران" الشهيرة للمعارضة والتي دعت إلى تنحي الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة بسبب العجز الصحي، والمؤتمر الآخر الذي جمع أهم أقطاب المعارضة من أجل بحث خارطة طريق للخروج من الأزمة التي كانت تعيشها البلاد عام 2019 وانعقد في عين البنيان (غرب العاصمة الجزائرية) وشهدت هذه الاجتماعات حسب شهادة أحد الحاضرين صراعات بين قادة الأحزاب الإسلامية المشاركة وصلت حتى إلى التهديد بالانسحاب.

وفي تعقيبه على تضارب الروايات حول من يملك الحق التاريخي في تمثيل "الإخوان" في الجزائر، يجزم جدو فؤاد، أستاذ وباحث بقسم العلوم السياسية والإعلام بجامعة بسكرة في جوابه أن "شهادة الشيخ جاب الله لا يمكنها أن تقدم لنا رؤية شاملة عن بداية الصحوة في الجزائر وموقع كل من الشيخ محفوظ نحناح وجماعة (الشرق) وجماعة (الجزأرة) ضمن هذا التاريخ المُتشابك". ويقودنا الجدل المثار حاليا حول تأسيس "الإخوان" بين الفكر والتنظيم حسب خلاص للحديث عن ظاهرة تفكك التيار الإسلامي الجزائري إلى عدد كبير من الأحزاب، وقد حدث ما يُسمى، على حد قوله، "الانفجار التوليدي"، وهو ما يصعب تحديد من نشر فكر "الإخوان" في الجزائر ومن يملك الحق التاريخي لنشر هذا الفكر في البلاد.

font change