برز من جديد الانقسام السياسي والمجتمعي إثر صدور تقرير أعدته وزارة الداخلية الفرنسية عن تغلغل "الإخوان المسلمين والإسلام السياسي" في فرنسا التي يتبوأ فيها الإسلام الموقع الثاني بعد الكاثوليكية. وذلك ما يزيد من إشكاليات الاندماج ويشكل مخاطر أمنية واجتماعية آنية ومستقبلية، من وجهة النظر الفرنسية. لذا أكد وزير الداخلية برونو ريتايو أن "الجمهورية تخوض معركة ضد اختراق الشبكات الإسلاموية".
لكن المبالغة بحجم "التهديد" وجعله أحد محاور المزايدات الانتخابية والسياسية، يسلطان الأضواء على هشاشة المجتمع وعلى عدم قيام السلطات بدورها المتوخى.
ومما لا شك فيه أن انخراط اليمين المتطرف واليسار الراديكالي في هذا الجدل يسهم في تفاقم الاستقطاب والخلط بين "الإسلام كدين والإسلاموية كأيديولوجيا". ولا يمكن استبعاد انعكاسات التلاعب المحتمل على تماسك النسيج الفرنسي. يتطلب الأمر إذن مقاربة مختلفة مبنية على الإحاطة بحيثيات تطور وضع الكيانات الاجتماعية والدينية والثقافية في أوساط مسلمي فرنسا وانتماءاتهم السياسية، بالإضافة لعدم الاكتفاء بالأبعاد الأمنية في المعالجة واعتبار ملف الإسلام في فرنسا مسؤولية الجمهورية في المقام الأول، مع ما يصحب ذلك من إجراءات لتعزيز المواطنة والمساواة والاندماج، ولمكافحة العنصرية والإسلاموفوبيا وتغلغل "الإسلاموية" والتطرف الفكري والإرهاب.
خلفيات التقرير
تسرب تقرير وزارة الداخلية الفرنسية عن اختراقات "الإسلام السياسي" أواخر شهر مايو/أيار الماضي قبل إقرار نشره رسميا، وهذا التقرير كان قد طَلب إعداده وزير الداخلية السابق ووزير العدل الحالي جيرار دارمانان في ربيع 2024، وأشرف عليه وعلى صياغته الدبلوماسي فرانسوا غوييت (المستعرب والسفير السابق في دول عربية عدة) والجنرال باسكال كورتاد، (شغل سابقا منصب محافظ ووظائف إدارية عليا)، واستند إلى لقاءات ومقابلات وشهادات مع أكثر من أربعين أكاديميا وباحثا ومسؤولا إسلاميا، وبالتعاون مع أجهزة الاستخبارات والإدارات المعنية بمراقبة "الإسلام السياسي".
وركز المعنيون على جدية البحث الذي استغرق أكثر من عام من العمل الميداني، لكن مصادر المعارضة اليسارية تربطه ببعض الجهات الخارجية المناهضة لجماعة "الإخوان المسلمين"، إلا أن مصادر أخرى تركز على أن هذا التقرير استوحى طروحات وأفكار الباحثة فلورنس بيرغود بلاكلر عن "خطر شبكات الإخوان"، من دون إنكار تأثير خبيرين آخرين هما برنار روجييه وجيل كيبيل.
واللافت أنه جرى تسريب التقرير بعد أقل من أسبوع على انتخاب حزب الجمهوريين (اليمين التقليدي) لوزير الداخلية برونو ريتايو رئيسا له، وبدا كأن زعيم اليمين المكرس يريد بدء خوض سباقه الرئاسي لعام 2027 تحت يافطة محاربة الإسلام السياسي، تماما كما أدار بتشدد ملف العلاقة الأمنية مع الجزائر.
في المقابل، ضمن سياق إثبات إيمانويل ماكرون موقعه القيادي (رئيس الجمهورية له مجال حصري في السياسة الخارجية والدفاع، ويشارك الحكومة السياسة الداخلية) قرر ماكرون عقب اجتماع لمجلس الدفاع والأمن الوطني نشر التقرير وطلب من الحكومة صياغة مقترحات جديدة ستتم مناقشتها في مجلس الدفاع المقبل في شهر يونيو/حزيران الحالي.