عام في البيت الأبيض… ترمب الذي يصدم الجميع ويؤكد سطوته الرئاسية

توسيع صلاحيات الرئاسة على نحو منفرد وغير مسبوق

أ.ف.ب/ رويترز/ المجلة
أ.ف.ب/ رويترز/ المجلة

عام في البيت الأبيض… ترمب الذي يصدم الجميع ويؤكد سطوته الرئاسية

يبدو عاما طويلا جدا منذ فوز الرئيس دونالد ترمب بمنصبه في البيت الأبيض بعد هزيمته منافستَه الديمقراطية كامالا هاريس في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي. طوال هذا العام، منذ توليه سلطاته الفعلية كرئيس للولايات المتحدة الأميركية، غيّرت سياسات الرجل وسلوكه الكثير في أميركا وخارجها، على نحو مدهش في السرعة والمدى والزخم الذي لا يزال يتواصل.

لعل التَغير الأهم الذي أحدثه الرجل داخلي ويتعلق بمعنى السلطة التنفيذية التي يترأسها ومركزية منصب الرئيس فيها وذلك عبر توسيع صلاحيتها على نحو منفرد وغير مسبوق يختبر بشدة مفهوم الفصل بين السلطات الذي اعتاد الأميركيون التفاخر بتنفيذه العريق في بلادهم، وصولا إلى إعطاء المحاضرات للآخرين من غير الأميركيين بخصوص ضرورة تبنيه وتطبيقه في بلدانهم.

بدأ توسيع صلاحيات الرئيس مبكرا في ظل الرئاسة الثانية لترمب ففي الثامن عشر من فبراير الفائت، وقع ترمب أمرا تنفيذيا رئاسيا تحت عنوان "ضمان المساءلة لجميع الوكالات"

بدأ هذا التوسيع مبكرا في ظل الرئاسة الثانية للرجل ففي الثامن عشر من فبراير/شباط الفائت، وقع ترمب أمرا تنفيذيا رئاسيا تحت عنوان "ضمان المساءلة لجميع الوكالات". يهدف هذا الأمر إلى وضع المؤسسات الفيدرالية بضمنها المؤسسات المستقلة، التي تشمل هيئات فيدرالية كثيرة كالاتصالات والتجارة وفرص العمل المتساوية والانتخابات، تحت إشراف الحكومة، وهو ما يخالف الفكرة الأساسية من إنشاء الكونغرس لهذه المؤسسات. فجوهر هذه المؤسسات قطاعي وتنظيمي، بمعنى أنها تصدر التعليمات التي تُنظم القطاع الذي تشرف عليه كالانتخابات والاتصالات والتجارة على أساس القوانين التي يشرعها الكونغرس.

في هذا الخصوص تنحصر سلطة الرئيس تقليديا بترشيح رؤساء هذه المؤسسات وأعضاء مجالس إداراتها إلى مجلس الشيوخ للتصويت عليهم ضمن قواعد متفق عليها ومنصوص عليها في قوانين (كما في اشتراط ألا يُرشح الرئيس أغلبية أعضاء مجالس إداراتها من حزب واحد، في حالة المؤسسات التي تشترط وجود مجالس الإدارة هذه).

باستثناء هذه الترشيحات لا يستطيع الرئيس عادة التدخل في عمل هذه المؤسسات، لكن إدارة ترمب تُصر على أن هذه المؤسسات تخضع لإشراف الرئيس وتنفيذ إرادته في ما يبدو معركة قانونية وسياسية ما تزال مفتوحة لتحدي الأمر التنفيذي الرئاسي.

السلطة التنفيذية التي يتسع مداها

ينطلق ترمب ومساعدوه في تبرير هذا الأمر الرئاسي، الإشكالي في جوهره، من إيمانهم، الذي لا يعلنونه صراحة، بنظرية "السلطة التنفيذية الموحدة" (Unitary Executive Power) وهي نظرية محافظة وخلافية تُفسر الدستور الأميركي على أساس منحه الرئيس، في المادة الثانية منه، سلطة احتكارية كاملة في إدارة السلطة التنفيذية، من دون تدخل من الكونغرس في أعمال الرقابة والمتابعة لعمل هذه السلطة أو أي دور للمؤسسات المستقلة (ترفض الإدارة اعتبار هذه المؤسسات مستقلة وتطالبها بحسب الأمر التنفيذي بتقديم نسخ إجراءاتها التنظيمية للإدارة لمراجعتها والموافقة عليها).

رويترز
البيت الأبيض، واشنطن العاصمة، في 10 أبريل 2025

وعلى نحو يخالف القانون، قامت الإدارة بفصل أعضاء مجالس في بعض هذه الهيئات من الحزب الديمقرطي (اثنين من هيئة التجارة الفيدرالية، وعضو مجلس في الهيئة التنظيمية النووية) ما قاد إلى تحدي هذه القرارات في المحاكم.

لا ينتبه الأميركيون العاديون لهذا الجدل القانوني والسياسي الذي يبدو نخبويا لهم إلا في الحالات التي تمس حياتهم اليومية أو تتعلق ببعض اهتماماتهم. جاء أحد الأمثلة النادرة لهذا الاهتمام الشعبي عبر قضية أحد مقدمي البرامج السياسية الساخرة، جيمي كيمل، في محطة "إيه بي سي" المشهورة. اعتاد كيمل في برنامجه على السخرية من الرئيس ترمب وقاعدته السياسية (ماغا)، وهو الأمر الذي يثير انزعاج الأخير كثيرا، خصوصا بعد اتهام كيمل هذه القاعدة بالاستثمار السياسي في مقتل أحد دعاتها، شارلي كيرك، في حادثة جنائية حاولت الإدارة إخراجها من سياقها الإجرامي العادي المرتبط بفعل فردي لشاب مضطرب نفسيا إلى اتهام واسع ومتكرر بأن "اليسار المتطرف" هو الذي صنع جو الاستقطاب والكراهية العام ما قاد إلى قتل كيرك، المشهور بخطابه اليميني المتشدد.

لا ينتبه الأميركيون العاديون للجدل القانوني والسياسي الذي يبدو نخبويا لهم إلا في الحالات التي تمس حياتهم اليومية أو تتعلق ببعض اهتماماتهم

على نحو سريع أطلق أحد أنصار ترمب، بريندن كار، رئيس هيئة الاتصالات الفيدرالية (إف سي سي) التي تشرف على إعطاء تراخيص البث وتردداته للمؤسسات الإذاعية والتلفزيونية، تهديدا علنيا للقناة: "نستطيع أن نفعل هذا بالطريقة السهلة أو الطريقة الصعبة. تستطيع هذه الشركات أن تغير سلوكها أو تتخذ إجراءات بحق كيمل، وإلا فسيكون على (إف سي سي) أن تقوم بشيء ما"، ليضيف قائلا على نحو يخرق بشكل صارخ مَهمة الهيئة التي يديرها إن "لدى (إف سي سي) قضية قوية لمحاسبة كيمل ومحطة الـ(إيه بي سي) ومنظومة ديزني (الشركة المالكة لمحطة إيه بي سي) على المعلومات المضللة التي تنشرها".

في ظل هذه الضغوط التي تضمنت سحب محطات تلفزيونية محلية اشتراكها في المحطة المشهورة، سارعت هذه الأخيرة لإيقاف برنامج كيمل الساخر "لأغراض المراجعة"، وهو القرار الذي مدحه ترمب علنا. أثار سلوك "إف سي سي" ردة فعل واسعة وغاضبة، بين إعلاميين وكتاب ومؤسسات مدافعة عن حرية التعبير حتى بين مشرعين جمهوريين وجدوا في سلوك هذه الهيئة الفيدرالية سابقة خطيرة بخصوص تكميم الأفواه والتضييق على حرية التعبير. بعد أيام قليلة عاد كيمل إلى عمله ليستأنف بث برنامجه الشهير في ما بدا هزيمة علنية لكن جزئية، لسعي الإدارة إلى استخدام المؤسسات المستقلة لتحقيق أهداف سياسية، وليس لأغراض تنظيمية نص عليها القانون.

رويترز
دونالد ترمب يوقع أمرا تنفيذيا بشأن التعريفات الجمركية، في حديقة الورود بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 2 أبريل 2025.

وفي أول بث له بعد عودته، واصل كيمل سخريته من ترمب..

ترمب والاستنفار الدائم للطوارئ

يكمن جزء من تغيير وجه أميركا في العام الأول من عهد ترمب في قدرة الرجل على استخدام قوانين الطوارئ لإعادة تشكيل الوقائع وتأكيد سلطة الحكومة الاتحادية في سياقات مختلفة لم يفكر بها أو يمارسها رؤساء سابقون. ظهر هذا بقوة منذ الأيام الأولى باستخدامه الطائرات العسكرية لترحيل مهاجرين إلى بلدان أخرى وفي نشره قوات فيدرالية في مدن أميركية من دون طلب أو موافقة حكام الولايات التي فيها هذه المدن.

ولعل آخر هذه الأفعال هو استخدام القوة العسكرية الأميركية ضد فنزويلا في ما يبدو سعيا ضمنيا لإسقاط النظام هناك بالتذرع بمكافحة المخدرات عبر قصف زوارق يُعتقد أنها تهرب المخدرات إلى أميركا، من دون وجود أدلة رصينة على مثل هذا التهريب. يستفيد الرئيس هنا من قوانين الطوارئ المختلفة التي تمنحه سلطة استخدام الموارد الفيدرالية، بضمنها القوات المسلحة، للتعاطي مع قضايا محلية أو قطاعية تختص بها عادة مؤسسات فيدرالية محددة، كما في مكافحة المخدرات أو منع الهجرة القانونية، من خلال اعتبار هذه القضايا تحديات تهدد الأمن القومي الأميركي.

في كل سجل المفاجآت بإنجازاته أو الوعد الذي يحمله بإنجازات مستقبلية، تنفرد الحرب الروسية-الأوكرانية باستعصائها على التفكيك أو التحريك أو حتى إمكانية الإنهاء عبر صدمات ترمب وتحولاته الكثيرة

من هنا أيضا، إرسال ترمب القوات الاتحادية لـ"فرض الأمن" في مدن كبرى مثل لوس أنجليس في ولاية كاليفورنيا بحجة حماية المؤسسة القطاعية، دائرة الهجرة، لاعتقال المهاجرين غير القانونيين. الأمر ذاته ينطبق على استعمال ترمب للتعريفات الجمركية لإعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية لأميركا مع كل دول العالم تقريبا، بضمنها الحلفاء والجيران، وذلك بالاستعانة بقانون الصلاحيات الاقتصادية الدولية الطارئة لعام 1977، من أجل تعديل ميزان التبادل التجاري الأميركي مع هذه الدول، في خروج لافت وصادم عن مفهوم حرية التجارة والتنافس المفتوح فيها الذي يُعتبر جزءا رئيسا من الثقافة السياسية الأميركية ومن السياسات الخارجية للإدارات الأميركية المتتابعة على مدى الزمن. يستطيع الكونغرس أن يرفع هذه الصلاحية عن الرئيس لاستخدام قوانين الطوارئ المختلفة، لكن يبدو مستبعدا أن يحدث هذا في ظل الكونغرس الحالي الذي يهيمن عليه الجمهوريون.

استراتيجية الصدمات في السياسة الخارجية

يظهر تأثير ترمب دوليا أكثر عبر سياسة خارجية ينتهجها الرجل تقوم على الجرأة الصادمة وإحباط التوقعات بشأن السلوك المقبل للولايات المتحدة، ضمن استراتيجية تدور حول تعمد المفاجآت التي تضعف قدرة الأطراف الأخرى على التهيؤ لما قد تقوم به الولايات المتحدة. التعاطي مع الملف النووي الإيراني كان أحد الأمثلة البارزة بهذا الصدد، بدءا من إعادة فرض ترمب العقوبات القصوى على إيران وتهديدها بضربات عسكرية مدمرة إلى عرضه لها تفاوضا مباشرا على كل الملفات الخلافية لعقد صفقة كبرى لحسم الخلافات بين الطرفين، مرورا بسماحه لإسرائيل بقصف الجمهورية الاسلامية بشدة ثم قراره بمشاركة أميركا في هذا القصف على نحو محدد، وليس انتهاء بفرضه وقف إطلاق نار مفاجئ بين هذه الأطراف الثلاثة، فيما لا تزال ثمة فصول أخرى في سجل المواجهة الأميركية-الإيرانية.

أ.ف.ب
القادة في قمة السلام في شرم الشيخ، في 13 أكتوبر 2025

برزت هذه القدرة الترمبية على مفاجأة الجميع تقريبا في ملف غزة أيضا، فمن دعوته الأولى والصادمة إلى إخلاء قطاع غزة من ساكنيه الفلسطينيين، بلا إمكانية عودتهم له، وتحويله إلى "ريفييرا" للسياحة في تماه مقلق مع أشد خطابات اليمين الإسرائيلي عنصرية، إلى فرض اتفاق سلام معقد يفتح الأفق السياسي لدولة فلسطينية مستقبلية، أدار ترمب معادلة سياسية صعبة وشديدة التداخل ما يزال العالم يتابع فصولها المختلفة بكثير من الترقب والقلق والأمل.

حس المفاجأة كان حاضرا كذلك في تعاطيه مع الملف السوري واتخاذه قرارات حاسمة بسرعة لافتة، كلقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، ورفعه العقوبات الاقتصادية الأميركية عن سوريا وصولا إلى الضغط على إسرائيل لكي توقف قصفها لسوريا، ثم فتحه مسارا تفاوضيا بين البلدين ما تزال نتائجه غير واضحة.

في كل سجل المفاجآت هذا بإنجازاته أو الوعد الذي يحمله بإنجازات مستقبلية، تنفرد الحرب الروسية-الأوكرانية باستعصائها على التفكيك أو التحريك أو حتى إمكانية الإنهاء عبر صدمات ترمب وتحولاته الكثيرة. ففي آخر المطاف يبدو أن عناد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وصبره وسعيه لاستيعاب ترمب قد تفوقت على قدرة الأخير على تحقيق النتائج عبر استراتيجية الصدمات.

font change

مقالات ذات صلة