من ولادة قيصرية عسيرة، خرجت الوحدة اليمنية يوم 22 مايو/أيار عام 1990 بعد مخاض طويل من حروب وثورات وأزمات، وبعد سنوات عجاف من جفاف القيم وتفاقم مشاعر العداء والكراهية بين النظامين السابقين الحاكمَين في شطري البلاد، وعقب فصول عاناها اليمنيون من جحيم المعاناة والخوف والاعتقال والتشرد، ونتاج زمن عصيب من الاستقطابات الحادة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
وجاء توحيد شطري البلاد فجأة، رغم المقدمات والاتفاقات التي سبقته، وشاءت الأقدار أن يتحقق هذا الحلم التاريخي سريعا، بقرار يمني شجاع وإرادة وطنية صادقة في وقت شهد فيه العالم انهيارا متسارعا للنظام الدولي عقب نهاية الحرب الباردة.
كان لعامِلَي المفاجأة والسرعة التي تحققت بهما الوحدة آثارهما الإيجابية والسلبية على حد سواء، وذلك في رسم وتحديد المسارات التي قطعها هذا الإنجاز، بدءا من "الوفاق" ومرورا بـ"الخناق" وانتهاء بالحرب التي أشعلتها محاولة الانفصال عام 1994 وما أسفرت عنها من نتائج أدت إلى ما أصبح عليه حال الوحدة المأساوي اليوم.
كانت نقاشات الكثير من النخب اليمنية منذ أربعينات القرن الماضي وحتى تسعيناته قد خلصت إلى أن "الوحدة" ليست فقط الخيار الوحيد أمام اليمنيين للمّ شتاتهم وتوحيد طاقاتهم وتوفير مواردهم، ولكن أيضا لإدارة اختلافاتهم في إطار نظام سياسي واجتماعي تعددي.
أواخر ثمانينات القرن الماضي كان الاتحاد السوفياتي، الحليف الرئيس الوحيد للنظام الاشتراكي في عدن، آخذا في التفكك وقريبا من الانهيار الكامل لتجد كل الأنظمة اليسارية، المعتمدة عليه، ظهرها مكشوفا وتعيش قلقا من مآلات ذلك بعد أن يصبح النظام الدولي أحادي القطب بزعامة المعسكر الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة، الخصم الأيديولوجي العتيد السابق.
البِيْض وشهادة للتاريخ
عن هذه المرحلة تحدث الزعيم الجنوبي الاشتراكي، علي سالم البيض، بصراحة شديدة قبل شهور عن أحوال الجنوب والنظام السياسي الذي كان على رأسه والدوافع التي اضطرّته شخصيا إلى الذهاب نحو الوحدة الاندماجية قائلا: "كنا في اليمن الجنوبي معتمدين على الاتحاد السوفياتي، يُؤكِّلنا ويُشرِّبنا، وبعدها تفكك الاتحاد السوفياتي فوجدنا أنفسنا أكبر تجمع للفقراء في العالم". ويضيف: "طرقنا كل الأبواب، لكنها كانت مقفلة لأننا ماركسيون، فتوجهنا لإخواننا في صنعاء، وطالبناهم بالتوحد معهم عشان نعيش ونأكل لقمة عيش، صحيح أن الوحدة اليمنية كانت مطلبا جماهيريا كبيرا لكن الفقر والجوع والديون التي بلغت على اليمن الجنوبي أكثر من اثني عشر مليار دولار أميركي هي الدافع الرئيس للوحدة الاندماجية".
وفي لحظة فارقة من التاريخ أدركت مثل كثيرين غيري أن صالح توصَّل إلى قناعة بأن خلاص البلاد من أزماتها في الشمال والجنوب إنما يكمن في الهروب نحو الوحدة، وتشاء الأقدار هنا أن تتلاقى بوصلته مع نظيرتها لدى الزعيم الجنوبي السابق علي سالم البِيْض، ولم نعلم كيف جرت مياههما في قناة واحدة.
أطلق صالح حينها إشارات في هذا الاتجاه لكنها كانت تبدو مبهمة حتى لدى خاصته، لكنها بدأت تتضح أكثر في جلساته التي حضرت بعضا منها، ففي طريق العودة من إحدى قمم مجلس التعاون العربي الذي ضم بلاده إلى جانب العراق ومصر والأردن تحدث صراحة: "إننا نستطيع إذا توحدت بلادنا أن نكون أكثر وزنا داخل المجلس ونستفيد منه أكثر". واتضح لاحقا أن ثمة اتصالات كان يجريها مع البيْض في سرية تامة لضمان وصولهما إلى تفاهم محدد قبل طرح الأمر على حزبيهما في صنعاء وعدن.
محطة حاسمة
بعد سلسلة من الاتفاقات الوحدوية الموقعة خلال العهود السابقة بين قيادات الشطرين الشمالي والجنوبي، السابقة واللاحقة، جاء اتفاق عدن التاريخي يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 بين الزعيمين، البيض وصالح، أشبه بمعجزة شهد كاتب هذه السطور جوانب منها حيث تبدل الحال تماما، وذلك بالمصادفة مع ذكرى اليوم أو الساعات التي رحل فيها آخر جندي بريطاني من عدن يوم 30 نوفمبر عام 1967.
اصطحب صالح معه وفدا كبيرا من مستشاريه السياسيين إلى جانب قوات حماية تزيد على 400 ضابط وجندي بكامل سلاحهم وعتادهم، وكانت الأصابع على الزناد خشية انفجار الموقف في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق.
انسحب الزعيمان، صالح والبيض، من اجتماع كان يضم كبار مستشاريهما، واستقلّا سيارة كان يقودها الأخير، ثم اتجها نحو نفق جولد مور، حيث طلبا من حراستيهما البقاء عند مدخل ومخرج النفق ومنع المرور منه، ليتسنى لهما التفاوض وحدهما.




