علي عبد الله صالح والإسلام السياسي... ألاعيب ومجازفات

في لحظة ما أدرك الرئيس اليمني الأرضية المطلوبة للتعاون في الحرب على تنظيم "القاعدة"

أف ب
أف ب
الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح يحيي مؤيديه في العاصمة صنعاء في 22 سبتمبر 1999

علي عبد الله صالح والإسلام السياسي... ألاعيب ومجازفات

مع كل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرّ بها اليمن فإن هذا البلد لا يزال مجتمعا محافظا ذا غالبية قبلية إلى جانب شريحة من المزارعين والعاملين في مجال التجارة مع نسبة من المهاجرين والمغتربين حول العالم.

تغلِب على معظم اليمنيين العاطفة بكل أشكالها الدينية والوطنية والقومية، ويسهل أن يؤثر فيهم بعض الثورات أو القضايا الإنسانية هنا وهناك.

الأمية والفقر وانتشار السلاح وتفشي عادة مضغ نبتة القات لا تزال سمات غالبة وقد خدمت بعض الأنظمة البائدة، كما ساعدت بعض القوى الإقليمية والدولية كثيرا على استمالة هذه الفئة من المجتمع أو تلك لاستثمارها في مشاريعها السياسية ونشر عقائدها الأيديولوجية. ولهذا نجد اليمن في العصر الحديث من أوائل البلدان التي عرفت أفكار وتوجهات جماعة "الإخوان المسلمين" وحركة "القوميين العرب" قبل أن تنتشر في مواطنها الأصلية، كما تأثر اليمنيون بقيام المعسكر الاشتراكي أيضا بأشكال لا يتسع المجال لشرحها.

ومع مطلع السبعينات من القرن الماضي أصبح اليمن عرضة للاستلاب الفكري وضحية للاستقطاب السياسي من قبل تيارات وثورات أخرى في مصر الناصرية وإيران "الخمينية"، ولم تنشأ أحزابه أو تتطور وتنضج على أسس وطنية راسخة، وبالتالي فقد كان لزاما على أي حاكم يأتي إلى سدة الحكم في هذا البلد التعامل مع هذا الواقع بما أمكنه، وقد نجح البعض منهم حينا، ومن بينهم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وأخفق الجميع أحيانا أخرى كثيرة.

صالح ومراقصة الثعابين

حين أطلق على تجربته في الحكم صفة "الرقص على ألْسِنة الثعابين" لا بد أن صالح كان يخص بذلك، في مقدمة خصومه ومنافسيه، ثعابين من يمكن تصنيفهم بجماعة الإسلام السياسي بكل مذاهبه السنية أو الشيعية (الزيدية) أو حتى الجماعات الموصومة بالتطرف التي أفاد منها بقدر ما أفادت منه، روَّضها وروَّضته إلى أن انتهى المطاف بموته المأساوي بلدغة من أحدها.

طوال أغلب سنوات حكمه تعامل صالح مع "الإسلام السياسي" بحذق وصل حد الخبث وبرغماتية بلغت حتى الأنانية، مستعينا به في مواجهة القوى اليسارية ذات الميول السوفياتية أو الماوية وغيرهما، والقومية (البعثية بشقيها المواليين للحزبين العراقي أو السوري) والناصريين، ومستخدما ذلك ورقة في المناورة مع الغرب والتلاعب عليه وابتزازه على أكثر من صعيد سياسي وعسكري ومالي وتسليحي ودعائي.

كان أداء صالح على حلبات الرقص تلك أشد ما لفت انتباهي خلال أكثر من ثلاثة عقود، ولا يزال حتى اليوم، خصوصا حين آخذ بعين الاعتبار تكوينه المعرفي المتواضع عندما جاء إلى الحكم والظروف الصعبة وبالغة التعقيد التي كانت سائدة وقتذاك.

"الأفغان" اليمنيون والعرب

منذ أول يوم على وصوله السلطة في 17 يوليو/تموز 1978 تحالف صالح مع الإسلاميين على اختلاف انتماءاتهم الحزبية أو المذهبية، وبسبب علاقاته المتوترة مع "النظام الاشتراكي" الحاكم آنذاك في جنوب البلاد فتح صالح الباب على مصراعيه لبعض الجماعات المتشددة لتشكيل ما أطلق عليه "الجبهة الإسلامية" وذلك لمحاربة ما عرف بـ"الجبهة الوطنية" المدعومة من قبل النظام "الشيوعي" في عدن.

أ ف ب
الرئيس علي عبد الله صالح اثناء مشاركته في قمة الدول الصناعية في 9 سبتمبر 2004 في ولاية جورجيا الاميركية

وبعد قيام الوحدة عام 1990 ارتخت القبضة الحديدية لـ"الحزب الاشتراكي" على الجنوب ما دعا مجموعات كبيرة من الإسلاميين اليمنيين والعرب العائدين من أفغانستان وعلى رأسهم النجل الأكبر لآخر سلاطين سلطنة آل فضل في أبين (طارق الفضلي) إلى العودة إلى اليمن وتوجه العدد الأكبر منهم إلى محافظات الجنوب الرخوة أمنيا.

وعندما بدأت نذر المواجهة المسلحة بين صالح وغريمه الزعيم الاشتراكي علي سالم البيض بعد أعوام من الوحدة فقد جرى دمج تلك الجماعات في المجهود الحربي بهدف "الجهاد" ضد الاشتراكيين في الجنوب.

وبعدما انتهت الحرب أراد الإسلاميون قبض ثمن مشاركتهم فيها حيث تم الاتفاق مع بعضهم على الاندماج في الجيش والمجتمع، إذ وافق على هذا كثيرون كان على رأسهم طارق الفضلي. أما المجموعات المتشددة الأخرى فاعتبرت أنها لم تقاتل ضد الاشتراكيين إلا من أجل أن تتمكن بعد ذلك من فرض وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. وقد جرى بعد ذلك اكتشاف علاقة بين هذه المجموعة ورجل الدين المتشدد أبو حمزة المصري المقيم وقتذاك في لندن، حيث كان نجله محمد وابن زوجته ضمن من تم إلقاء القبض عليهم خلال مهمة تدريبية لهم في محافظة أبْيَن للتدرب على استخدام السلاح.

وعندما قامت مجموعة أخرى تدعى جماعة "جيش عدن أبين الإسلامي" بقيادة زين العابدين المحضار باختطاف بعض السياح الغربيين للضغط من أجل إطلاق سراح نجل أبو حمزة ورفاقه، أدت عملية أمنية فاشلة لتحرير المختطفين إلى مقتل البعض منهم.

وفي وقت لاحق قام الجنرال علي محسن الأحمر بمهمة معقدة لإقناع الأفغان العرب بمغادرة اليمن حيث جرى تخصيص أموال طائلة لتسهيل حصولهم على بعض المصروفات وتذاكر السفر إلى الجهات التي يتيسر لهم التوجه إليها بدلا عن تسليمهم إلى بلدانهم.

كم كان يبلغ عدد "الأفغان العرب" في اليمن؟

أبلغني وزير الداخلية آنذاك حسين محمد عرب أن عدد من جرى ترحيلهم من الأفغان العرب بلغ حينها أكثر من واحد وعشرين ألفا، مع هذا فقد تمكن بعضهم، كما قال عرب، من العودة بقدرة قادر على نفس الطائرات التي أقلتهم إلى الخارج لامتناعهم عن مغادرة الطائرة وإصرارهم على العودة إلى اليمن بذريعة رفض استقبالهم من قبل الدول التي توجهوا إليها.

اللعب بالنار مع تنظيم "القاعدة"

في لحظة ما أدرك صالح أن وعي الغرب والولايات المتحدة بتعقيدات الوضع السياسي والاجتماعي والديني في اليمن مشوش وشديد الالتباس وأن هذه هي الأرضية المطلوبة للبناء عليها فيما يتعلق بتعاونه في الحرب على تنظيم "القاعدة" حيث سوف تكون مساعدته أساسية، ويجب أن لا تكون دون ثمن.

عندما جرى الهجوم على المدمرة الأميركية "كول" في ميناء عدن في 12 أكتوبر 2000 وأدى إلى مقتل 17 من جنود المارينز وجرح عشرات آخرين كان صالح موجودا بالمدينة

ولا أدري كصحافي مراقب من الذي تلاعب في النهاية أكثر بالآخر، هل الأميركيون الذين اتخذوا من نشاط "القاعدة" في اليمن ذريعة لتدخل أمنى واستخباري وسياسي واسع النطاق تحول معه اليمن في نهاية عام 2011 إلى ما يشبه محمية أمنية أميركية لمحاربة الإرهاب، وبات ينظر فيها إلى سفير واشنطن لدى اليمن على أنه حاكم مدني بلا حرب، ودون أن تدفع بلاده أي ثمن لوصايتها الجديدة على القرار السياسي في اليمن؟ أم صالح الذي يعتقد البعض أنه أنشأ غير بعيد عن علم الأميركيين طريقة في التعامل مع "القاعدة" بما يكفل بقاءها فزاعة لتخويف بعض الدوائر الأميركية وابتزازها ماليا وعسكريا.

"الإخوان المسلمون"

عند مجيئه إلى السلطة ربطت صالح علاقة جيدة مع قيادات سياسية سابقة في حركة "الإخوان المسلمين" الذين تعاونوا معه في تأسيس حزب "المؤتمر الشعبي العام" ليصبح مظلة يعمل تحتها مختلف ألوان الطيف الحزبي المعتدل، واستمر شهر العسل هذا  حتى انفراطه مرحليا بعد إعلان التعددية السياسية إثر قيام الوحدة في مايو/أيار 1990، وذلك بعد إيعاز أو اتفاق بين صالح والزعيم القبلي واسع النفوذ الشيخ الراحل عبدالله بن حسين الأحمر القريب من الجماعات ذات التوجه الإسلامي السياسي، وذلك لتأسيس ما عرف لاحقا بحزب "التجمع اليمني للإصلاح" واستراتيجيا بعد اندلاع الثورة الشبابية الشعبية التي انضمت إليها هذه الحركة عام 2011 حتى تنحى صالح مجبرا عن السلطة.

"تجمع الإصلاح"

لم تكن هناك ثقة في جدية نوايا صالح لتمهيد الملعب لحياة سياسية تعددية فعلية من خلال جعل القوى الإسلامية تكتلا وازنا يضفي على نظام حكمه صفة التعدد والتنوع قدر ما كانت هناك رغبة مشتركة لدى الطرفين بأن يريح كلاهما الآخر ويستريح من عبء تحالفهما السياسي غير الجدي أو الصادق. وهكذا كانت محاولة صالح لإبقاء الكل مجرد بيادق على مربع الشطرنج الذي أجاد اللعب عليه معظم سنوات حكمه، حيث لم ينكر صالح ذات يوم أنه استخدم "الإخوان المسلمين" في بادئ الأمر للتخلص من خصومه اليساريين والقوميين حتى جاء الدور على هؤلاء لينفض يده منهم، لكن محمد اليدومي الأمين العام لـ"التجمع اليمني للإصلاح" اعتبر أن "الإخوان المسلمين" هم من استخدم صالح حتى التخلص منه وليس العكس، نافيا أن تكون لـ"الإصلاح" علاقة بالتنظيم الدولي لـ"الإخوان المسلمين".

أ ف ب
صورة غير مؤرخة للرئيس علي عبد الله صالح ورئيس البرلمان اليمني الشيخ عبد الله الاحمر في صنعاء

دافع صالح عن حق حزب "الإصلاح" في ترشيح أحد أبرز رموزه ورئيس مجلس شوراه عبد المجيد الزنداني لعضوية مجلس الرئاسة، حيث كانت هناك اعتراضات وتحفظات على شخصه المثير للجدل على خلفية ماضيه "الجهادي" في أفغانستان وعلاقته بمؤسس تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، وقد رفض صالح بقوة مطالب أميركية حثيثة لتسليم الزنداني للتحقيق معه بهذا الشأن. ثم أمر صالح بمنح الزنداني مساحة كبيرة من الأرض شمال شرقي صنعاء لإنشاء ما عرف بـ"جامعة الإيمان" التي كان توجهها مثارا لانتقادات واسعة خصوصا من قبل معارضيه اليساريين والقوميين.

الزنداني وجامعة الإيمان

في مرحلة تالية دافع صالح بقوة عن الزنداني، حيث امتدح في خطاب له خلال افتتاحه لـ"جامعة الإيمان" برئاسة الزنداني الجامعة ونفي عنها وعن مؤسسها وطلابها صفة التطرف قبل أن يعود بعد أعوام لاتهامها بتخريج المتشددين الإسلاميين متناسيا دعمه السابق لها.

حادثة المدمرة "كول"

في ديسمبر/كانون الأول 1992 هاجم مسلحون تابعون لـ"القاعدة" فندق "غولد مور" الساحلي حيث كان ينزل فيه عدد من العسكريين الأميركيين كانوا في طريقهم إلى الصومال، ولم يلفت هذا الحادث انتباه الحكومة اليمنية كما ينبغي إلى أن الجماعات الإسلامية المتشددة العائدة من أفغانستان بدأت نشاطا منهجيا وخطيرا ومتزايدا.

وعندما جرى الهجوم على المدمرة الأميركية "كول" في ميناء عدن في 12 أكتوبر/تشرين الأول عام 2000 وأدى إلى مقتل 17 من جنود المارينز وجرح عشرات آخرين كان صالح موجودا بالمدينة، وقد تصادف حينذاك وجود أحد المصورين المرافقين لصالح بالقرب من موقع الحادث فوصل إليه خلال خمس عشرة دقيقة وتمكن من التقاط المشاهد الأولى للحادث.

 وقد هرعت فور سماعي بالحادث إلى عدن وحصلت على تلك الصور سرا مقابل مبلغ صغير من المال، ولا أدري كيف عرف صالح بذلك فأمر بمنعي من بثها قبل اطلاعه عليها، لكنني كنت قد أرسلت ما أمكن التقاطه من مشاهد.

فاجأ الشيخ الأحمر الجميع بموقفه الرافض للتدخل الأميركي في اليمن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهو الرجل الذي يفترض أنه يرتبط بمصالح طويلة الأمد مع واشنطن

بادر صالح ومسؤولوه الأمنيون والإعلاميون اليمنيون إلى نفي وقوع أي هجوم على المدمرة، مؤكدين أن انفجارا وقع من داخلها، وقد كنت أرجح في تحليلاتي الصحافية فرضية الهجوم الإرهابي عليها، وكنت أعرف أن الهدف من استبعاد صالح لهجوم على المدمرة من خارجها هو نفي أي وجود لتنظيم "القاعدة" بغية عدم إعطاء الأميركيين مبررا لمزيد من التدخل في بلاده، غير أن صالح استمر في نهجه هذا حتى إزاء الاعتداء على ناقلة النفط الفرنسية "ليمبورغ" عام 2002.
كان فندق عدن الرئيس بالمدينة قد امتلأ بجنود البحرية الأميركية الذين وصلوا بسرعة شديدة للتحقيق في ملابسات الحادث ومعهم كامل معداتهم وكلابهم وباستثناء وجودي وأحد المصورين معي وبعض موظفي الفندق، لم يكن أحد في المبنى الذي تحول إلى ما يشبه ثكنة عسكرية أميركية.

أ ف ب
المدمر الاميركية "كول" بعد الهجوم الذي شنه تنظيم "القاعدة" عليها في 12 اكتوبر 2000 في ميناء عدن

ولم تمض سوى سويعات حتى كان مزيد من العسكريين الأميركيين يصل تباعا إلى مطار عدن وعشرات من جنود المارينز المدججين بأنواع غير مألوفة من الأسلحة ينتشرون في محيط الفندق والشوارع حوله. 
وقد استوعب صالح أهمية أن يبدي تعاونا كاملا مع التحقيقات لكنه تنبه بدهائه إلى إمكانية عمل شيء يجعل الأميركيين يسحبون جنودهم من المدينة، فأمر بالسماح لجنود المعسكرات الموجودة في محيط الفندق بأخذ إجازة والتجول بثيابهم التقليدية وأسلحة الكلاشينكوف في شوارع المدينة، وفسر مسؤولون أمنيون يمنيون ذلك للأميركيين بأن هؤلاء مجرد مواطنين مدنيين عاديين وأن السلاح في اليمن واحد من مظاهر الزينة الشخصية، وقد فضل الأميركيون بعد ذلك سحب ضباطهم وجنودهم من الفندق والمدينة وإبقاءهم على ظهر سفن حربية في المياه الدولية بدلا من المخاطرة بإبقائهم وسط (غابة) من السلاح.
غير أن موقف صالح من مسألة الحرب على الإرهاب تبدل مئة في المئة عقب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وظلت العواقب الوخيمة لموقفه المتضارب حيال الغزو العراقي للكويت ماثلة أمام عينيه وعندما جرت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر لم يكن أمامه من خيار سوى إظهار التعاون اللامحدود أو المشروط مع الأميركيين خلال المرحلة الأولى من الحرب على تنظيم "القاعدة".
قام الأميركيون بتوسيع وجودهم الاستخباري في اليمن، وسمح صالح بفتح مكتب تابع لمكتب التحقيقات الفيدرالي بالسفارة الأميركية بصنعاء. وربما اعتقد صالح أنه يمكن له الإفادة إلى أبعد مدى ممكن في استغلال مخاوف الأميركيين من وجود متنام لعناصر "القاعدة" في اليمن.
وقد أخذ صالح يروج بعد ذلك بنفسه لهذه المخاوف، وتحول الأمر إلى استراتيجية عمل وطنية تعمل عليها كل أجهزته معتقدا أنه بإظهاره الشراكة الكاملة في الحرب على الإرهاب سيحصد ملايين الدولارات وسيجلب كل المؤسسات الغربية لتمويل "معركته" في الحرب على الإرهاب.

موقف الأحمر

فاجأ الشيخ الأحمر الجميع بموقفه الرافض للتدخل الأميركي في اليمن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهو الرجل الذي يفترض أنه يرتبط بمصالح طويلة الأمد مع واشنطن.
ذهبت إليه بناء على طلبه، وكان عائدا للتو من جلسة ترأس فيها اجتماعا لمجلس النواب اليمني أسهب خلالها رئيس الوزراء الراحل عبد القادر با جمال في قراءة تقرير عن "المخاطر المتزايدة" لتنظيم "القاعدة" في اليمن، داعيا إلى دعم دولي لمساعدة صنعاء.
اعتبر الأحمر أن صالح وحكومته يسيران بالبلاد نحو الهاوية بمحاولتهما تصوير اليمن على أنه أصبح ملاذا آمنا لإرهابيي "القاعدة"، واتهم صالح وفريقه الحكومي بمحاولة استغلال الأميركيين على حساب السيادة والمصالح الوطنية العليا للبلاد، كان الرجل غاضبا رغم إدراكه مسبقا رد الفعل المحتمل على كلامه الذي قمت بإذاعته على الفور.
ما أستنتجه هو أن صالح لا يمكنه في تلك الظروف تجاوز مخاوفه وتحفظاته العميقة، لكنه كثيرا ما كرر للأميركيين، علنا وسرا تلويحاته للأميركيين بعدم رضاه على تعاملهم معه وتذكيرهم بأنه لا يزال يحتفظ في يده بمزيد من الأوراق في حربهم على الإرهاب.

كان واضحا من هذا أن خطة صالح لمقايضة تعاونه في الحرب على الإرهاب بحصوله على مزيد من الدعم المالي والسياسي الأميركي لم تنجح، فقد تعامل الأميركيون مع صالح ببرغماتية شديدة وظل اهتمامهم يتركز على كل ما له علاقة بالحرب على "القاعدة" فقط، ولم يظهروا أي استجابة لمطالب صالح الاقتصادية لمكافحة التطرف والفقر اللذين يؤديان إلى الإرهاب كما ظل يردد، ولا مطالبه السياسية لدعم حربه على المتمردين الحوثيين في صعدة على الرغم من أنهم تبنوا بقوة شعار "الموت لأميركا"، بل لقد تجاهل الأميركيون في بدايات تلك الحرب اتهامات صالح لإيران بدعم الحوثيين وقالت واشنطن إنه لا دلائل قوية لديها على ذلك.
أخطأت بعض الطائرات الأميركية دون طيار أهدافها في اليمن أكثر من مرة واحدة وذهب مدنيون أبرياء ضحية تلك الأخطاء وتسبب ذلك في حرج بالغ لكل من صالح والأميركيين على حد سواء وكان واضحا أن تلك الأخطاء ما كان لها أن تتكرر لولا أن معلومات خاطئة كانت قد أعطيت للأميركيين.
وأبلغني أحد مصادري شبه الموثوقة أن هجوما سابقا لتلك الطائرات فشل في قتل عنصرين من تنظيم "القاعدة" بسبب مغادرتهما للموقع المستهدف قبل ذلك الهجوم بدقائق فقط، وأنه لم يكن أي مسؤول يمني على علم بالهجوم سوى الرئيس صالح وشخص آخر.
إذا صح أن الرئيس صالح أعطى معلومات خاطئة للأميركيين عمدا فإن ذلك في تقديري لن يكون إلاّ لتحقيق أحد أمرين:
-    إما الرغبة في المحافظة على حياة بعض القيادات الهامة لـ"القاعدة" في اليمن لإبقاء "فزاعة القاعدة" ورقة بيد صالح.
-    وإما أن صالح رغب في توريط الأميركيين في أخطاء تثير السخط والكراهية عليهم وتدفعهم إلى تخفيف ضغوطهم عليه. والواقع أن الأميركيين لم يكونوا ليسكتوا ولو لثوان إزاء تلك الأخطاء، كما أن صالح دفع الكثير من رصيده السياسي بسببها خصوصا بعد مقتل نحو أربعين مدنيا في قرية المعطلة بمحافظة أبين أو مصرع نائب محافظ مأرب جابر الشبواني الذي كان صالح نفسه أوفده للتفاوض مع بعض عناصر "القاعدة" لتسليم أنفسهم فقتل الشبواني بينما نجا قادة "القاعدة". 

صالح وهيلاري كلينتون

كانت ثمة نقاط تحول كثيرة في علاقات صالح بالأميركيين. لقد كانوا يعرفون أنه يتلاعب بهم ويبتزهم وأنه ينتصر على جبروت قوتهم بدهائه وسعة حيلته، ولكن لا خيار أمامهم في ذلك الحين سوى التعامل معه، حيث قالت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون في مذكراتها: "خيارات صعبة" ما يلي:
"كانت علاقة أميركا بالرئيس صالح رمزا للخيار المحيّر الذي تعانيه سياستنا في منطقة الشرق الأوسط، كان فاسدا ومستبدا، لكنه التزم أيضا محاربة تنظيم "القاعدة"، والمحافظة على وحدة بلاده المنقسمة. قررت إدارة أوباما التغاضي عما يزعجنا في سياسة صالح، لنزيد المساعدات العسكرية والتنموية لليمن، ونوسع تعاوننا في مكافحة الإرهاب".

الانتفاضة الشعبية


في السنوات الأخيرة من حكمه أضعفت حركة الاحتجاج المتصاعدة في جنوب البلاد سيطرة صالح على أنحاء واسعة من محافظات الجنوب فعاد تنظيم "القاعدة" إلى الظهور بقوة أكبر في تلك المناطق إلى درجة السيطرة التامة على محافظة أبين بكاملها واتضح أن قوات مكافحة الإرهاب التي عمل الأميركيون على تدريبها وتسليحها غير قادرة على التوغل في مناطق الجنوب خشية أن يبدو الأمر كأنه حرب أخرى على الجنوب تحت شعار الحرب على "القاعدة". ثم جاء اندلاع الثورة الشعبية في شمال البلاد وامتدادها إلى بعض محافظاتها الشرقية ليقنع صالح بالإبقاء على مجمل قوات الحرس الجمهوري والأمن المركزي ومكافحة الإرهاب في صنعاء لحراسة ما تبقى من مؤسسات نظامه.

مع مرور الوقت وتكرار المواجهات وجد صالح في حرب صعدة مستنقعا لاستنزاف حليفه التقليدي الجنرال الأحمر في أوحاله وإنهاك قواته

"الحوثيون"... من التحالف إلى الحرب

مثلما لعب صالح على حبال الحركات الجهادية المسلحة وحركة "الإخوان المسلمين" فقد فعل الشيء نفسه مع أسرة آل الحوثي الشيعية في محافظة صعدة شمالي اليمن. 

أ ف ب
احدى بوابات صنعاء القديمة في صورة تعود الى 19 اكتوبر 1993

في بداية الأمر غض صالح النظر عن أنشطة أسرة الحوثي، وأقنعه البعض في مرحلة تالية بضرورة دعمها لضمان ولائها واحتواء نشاطها أولا، وثانيا لتشجيعها على إحياء علوم المذهب الشيعي الزيدي المعتدل الذي تدين به غالبية سكان الجزء الشمالي من البلاد.ولا دليل على أن صالح قدم في البدء أي نوع من الدعم للحوثيين، لكنه عندما كان في طريقه برا إلى مكة لأداء شعائر الحج وتوقف لأداء صلاة الجمعة في صعدة، وفوجئ عقب الصلاة بترديد بعض المصلين شعارات سياسية مناهضة للولايات المتحدة التي كان دخل معها في اتفاق شراكة وتعاون في الحرب على الإرهاب، ولربما استفزته تلك الشعارات بقوة، ولم يكن يدرك أن الحوثيين تحولوا من جماعة دينية إلى حركة سياسية مسلحة، وقد جرت مناوشات بينها وبين قوات الأمن قادت في وقت لاحق إلى مواجهات واسعة مع قوات الجيش.اعتقد الرئيس صالح أن القضاء على القائد السياسي والميداني للحركة النائب حسين بدر الدين الحوثي من شأنه القضاء عليها، غير أنه اتضح في جولات تالية من الحرب أن إنهاء هذه الحركة أصبح مستحيلا دون حل سياسي. ومع مرور الوقت وتكرار المواجهات وجد صالح في حرب صعدة مستنقعا لاستنزاف حليفه التقليدي الجنرال الأحمر في أوحاله وإنهاك قواته، وقد ترددت أنباء عن تمرير صالح أسلحة للحوثيين وكل ذلك كي يتسنى لصالح إشغال محسن حتى يتفرغ هو لتعزيز قوات الحرس الجمهوري التي يتولى نجله العميد أحمد قيادتها بدعم أميركي لمحاربة الإرهاب تمهيدا لإزاحة الأحمر وهزيمة الإسلاميين الذين اتفقوا على مناهضة ذلك. وتطور الأمر إلى شرخ عميق في العلاقة بين صالح والأحمر وقاد بعد اندلاع الثورة ضد صالح عام 2011 إلى انشقاق الأخير بكامل قواته إلى جانب معارضي صالح.

font change