مع كل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرّ بها اليمن فإن هذا البلد لا يزال مجتمعا محافظا ذا غالبية قبلية إلى جانب شريحة من المزارعين والعاملين في مجال التجارة مع نسبة من المهاجرين والمغتربين حول العالم.
تغلِب على معظم اليمنيين العاطفة بكل أشكالها الدينية والوطنية والقومية، ويسهل أن يؤثر فيهم بعض الثورات أو القضايا الإنسانية هنا وهناك.
الأمية والفقر وانتشار السلاح وتفشي عادة مضغ نبتة القات لا تزال سمات غالبة وقد خدمت بعض الأنظمة البائدة، كما ساعدت بعض القوى الإقليمية والدولية كثيرا على استمالة هذه الفئة من المجتمع أو تلك لاستثمارها في مشاريعها السياسية ونشر عقائدها الأيديولوجية. ولهذا نجد اليمن في العصر الحديث من أوائل البلدان التي عرفت أفكار وتوجهات جماعة "الإخوان المسلمين" وحركة "القوميين العرب" قبل أن تنتشر في مواطنها الأصلية، كما تأثر اليمنيون بقيام المعسكر الاشتراكي أيضا بأشكال لا يتسع المجال لشرحها.
ومع مطلع السبعينات من القرن الماضي أصبح اليمن عرضة للاستلاب الفكري وضحية للاستقطاب السياسي من قبل تيارات وثورات أخرى في مصر الناصرية وإيران "الخمينية"، ولم تنشأ أحزابه أو تتطور وتنضج على أسس وطنية راسخة، وبالتالي فقد كان لزاما على أي حاكم يأتي إلى سدة الحكم في هذا البلد التعامل مع هذا الواقع بما أمكنه، وقد نجح البعض منهم حينا، ومن بينهم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، وأخفق الجميع أحيانا أخرى كثيرة.
صالح ومراقصة الثعابين
حين أطلق على تجربته في الحكم صفة "الرقص على ألْسِنة الثعابين" لا بد أن صالح كان يخص بذلك، في مقدمة خصومه ومنافسيه، ثعابين من يمكن تصنيفهم بجماعة الإسلام السياسي بكل مذاهبه السنية أو الشيعية (الزيدية) أو حتى الجماعات الموصومة بالتطرف التي أفاد منها بقدر ما أفادت منه، روَّضها وروَّضته إلى أن انتهى المطاف بموته المأساوي بلدغة من أحدها.
طوال أغلب سنوات حكمه تعامل صالح مع "الإسلام السياسي" بحذق وصل حد الخبث وبرغماتية بلغت حتى الأنانية، مستعينا به في مواجهة القوى اليسارية ذات الميول السوفياتية أو الماوية وغيرهما، والقومية (البعثية بشقيها المواليين للحزبين العراقي أو السوري) والناصريين، ومستخدما ذلك ورقة في المناورة مع الغرب والتلاعب عليه وابتزازه على أكثر من صعيد سياسي وعسكري ومالي وتسليحي ودعائي.
كان أداء صالح على حلبات الرقص تلك أشد ما لفت انتباهي خلال أكثر من ثلاثة عقود، ولا يزال حتى اليوم، خصوصا حين آخذ بعين الاعتبار تكوينه المعرفي المتواضع عندما جاء إلى الحكم والظروف الصعبة وبالغة التعقيد التي كانت سائدة وقتذاك.
"الأفغان" اليمنيون والعرب
منذ أول يوم على وصوله السلطة في 17 يوليو/تموز 1978 تحالف صالح مع الإسلاميين على اختلاف انتماءاتهم الحزبية أو المذهبية، وبسبب علاقاته المتوترة مع "النظام الاشتراكي" الحاكم آنذاك في جنوب البلاد فتح صالح الباب على مصراعيه لبعض الجماعات المتشددة لتشكيل ما أطلق عليه "الجبهة الإسلامية" وذلك لمحاربة ما عرف بـ"الجبهة الوطنية" المدعومة من قبل النظام "الشيوعي" في عدن.

وبعد قيام الوحدة عام 1990 ارتخت القبضة الحديدية لـ"الحزب الاشتراكي" على الجنوب ما دعا مجموعات كبيرة من الإسلاميين اليمنيين والعرب العائدين من أفغانستان وعلى رأسهم النجل الأكبر لآخر سلاطين سلطنة آل فضل في أبين (طارق الفضلي) إلى العودة إلى اليمن وتوجه العدد الأكبر منهم إلى محافظات الجنوب الرخوة أمنيا.
وعندما بدأت نذر المواجهة المسلحة بين صالح وغريمه الزعيم الاشتراكي علي سالم البيض بعد أعوام من الوحدة فقد جرى دمج تلك الجماعات في المجهود الحربي بهدف "الجهاد" ضد الاشتراكيين في الجنوب.
وبعدما انتهت الحرب أراد الإسلاميون قبض ثمن مشاركتهم فيها حيث تم الاتفاق مع بعضهم على الاندماج في الجيش والمجتمع، إذ وافق على هذا كثيرون كان على رأسهم طارق الفضلي. أما المجموعات المتشددة الأخرى فاعتبرت أنها لم تقاتل ضد الاشتراكيين إلا من أجل أن تتمكن بعد ذلك من فرض وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. وقد جرى بعد ذلك اكتشاف علاقة بين هذه المجموعة ورجل الدين المتشدد أبو حمزة المصري المقيم وقتذاك في لندن، حيث كان نجله محمد وابن زوجته ضمن من تم إلقاء القبض عليهم خلال مهمة تدريبية لهم في محافظة أبْيَن للتدرب على استخدام السلاح.
وعندما قامت مجموعة أخرى تدعى جماعة "جيش عدن أبين الإسلامي" بقيادة زين العابدين المحضار باختطاف بعض السياح الغربيين للضغط من أجل إطلاق سراح نجل أبو حمزة ورفاقه، أدت عملية أمنية فاشلة لتحرير المختطفين إلى مقتل البعض منهم.
وفي وقت لاحق قام الجنرال علي محسن الأحمر بمهمة معقدة لإقناع الأفغان العرب بمغادرة اليمن حيث جرى تخصيص أموال طائلة لتسهيل حصولهم على بعض المصروفات وتذاكر السفر إلى الجهات التي يتيسر لهم التوجه إليها بدلا عن تسليمهم إلى بلدانهم.
كم كان يبلغ عدد "الأفغان العرب" في اليمن؟
أبلغني وزير الداخلية آنذاك حسين محمد عرب أن عدد من جرى ترحيلهم من الأفغان العرب بلغ حينها أكثر من واحد وعشرين ألفا، مع هذا فقد تمكن بعضهم، كما قال عرب، من العودة بقدرة قادر على نفس الطائرات التي أقلتهم إلى الخارج لامتناعهم عن مغادرة الطائرة وإصرارهم على العودة إلى اليمن بذريعة رفض استقبالهم من قبل الدول التي توجهوا إليها.
اللعب بالنار مع تنظيم "القاعدة"
في لحظة ما أدرك صالح أن وعي الغرب والولايات المتحدة بتعقيدات الوضع السياسي والاجتماعي والديني في اليمن مشوش وشديد الالتباس وأن هذه هي الأرضية المطلوبة للبناء عليها فيما يتعلق بتعاونه في الحرب على تنظيم "القاعدة" حيث سوف تكون مساعدته أساسية، ويجب أن لا تكون دون ثمن.


