الهبوط في جوهانسبرغ... داخل الشبكة السرية لترحيل الفلسطينيين من غزة

كيف وصل 153 شخصا من القطاع المحاصر إلى أفريقيا الجنوبية؟

رويترز
رويترز
حنان جرار، السفيرة الفلسطينية لدى جنوب أفريقيا، تبتسم لالتقاط صورة لها على متن طائرة في مكان مُعلن أنه جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا، في هذه الصورة المنشورة بتاريخ 13 نوفمبر

الهبوط في جوهانسبرغ... داخل الشبكة السرية لترحيل الفلسطينيين من غزة

في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2025 وصلت إلى جوهانسبرغ طائرة مستأجرة تقل مئة وثلاثة وخمسين فلسطينيا من دون أي وثائق خروج رسمية. في البداية امتنعت السلطات الجنوب أفريقية عن السماح للركاب بدخول البلاد بسبب غياب أختام الخروج على جوازات سفرهم وعدم وجود ترتيبات مسبقة لإقامتهم. لاحقا وافق الرئيس سيريل رامافوزا على استقبالهم لأسباب إنسانية. غير أن الحادثة كشفت عن مسار منظم لرحلات مغادرة للفلسطينيين من غزة، تنفذ عبر قنوات مرتبطة بالجيش الإسرائيلي.

وقد لا يكون اختيار وجهة الرحلة النهائية مصادفة. فأمام رحلة يبدو أنها لم تُنسق مسبقا وجدت الحكومة الجنوب أفريقية، المعروفة بموقفها الداعم للفلسطينيين، نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما. إما السماح بدخول هؤلاء اللاجئين أو ترحيلهم علنا، وهو ما كان سيشكل مأزقا دعائيا فادحا. هذا التردد في استقبال فلسطينيين قادمين من غزة عرّض البلاد لاتهامات بالنفاق، وهو ما قد يكون الهدف من العملية أو أحد أهدافها المحتملة.

يكشف الأسلوب الذي تُنظّم من خلاله هذه الرحلات عن انخراط واسع لمؤسسات الدولة على أكثر من مستوى. حيث ذكر عدد من الركاب أنهم سجّلوا عبر موقع إلكتروني تديره منظمة "المجد أوروبا" منذ يونيو/حزيران 2025، ودفعوا ما بين ألف وخمسمئة، وخمسة آلاف دولار للفرد، لقاء ترتيبات السفر. ومنح من حصل على موافقة من السلطات الإسرائيلية تعليمات واضحة للتجمع في نقاط محددة داخل غزة، ثم نقلتهم مركبات عسكرية إسرائيلية عبر معبر كرم أبو سالم إلى مطار رامون في جنوب إسرائيل. وهناك استقلوا طائرات مستأجرة من دون معرفة دقيقة بالوجهة النهائية.

ووفق ما أورده موقع "ديلي مافريك" الجنوب أفريقي، كان بعض الركاب يحملون تذاكر سفر إلى كندا وأستراليا، فيما اعتقدت الغالبية أن وجهتها النهائية ستكون الهند.

بعد طرح ترمب فكرة إعادة توطين سكان غزة وتحويل القطاع إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس توجيها بإعداد آليات تنفيذية لتحويل هذا المقترح إلى خطوات عملية

وتتبع تحقيق نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية مسار التنسيق الذي يقف خلف هذه العمليات إلى تومر يانار ليند، وهو يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والإستونية ويعد مؤسس شركة الاستشارات "تالنت غلوبوس"، التي أنشئت في عام 2024. وبيّن التحقيق أن ليند نسق عمليات الخروج بالتعاون مع وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق (كوغات)، وهي الجهة العسكرية المسؤولة عن الإدارة المدنية في الأراضي الفلسطينية، كما عمل مباشرة مع مكتب الهجرة الطوعية التابع لوزارة الدفاع الإسرائيلية الذي تأسس في فبراير/شباط 2025. وعندما تواصلت الصحيفة معه أقر بدوره في تسهيل مغادرة الفلسطينيين لكنه رفض الخوض في أي تفاصيل إضافية.

كما ارتبطت منظمة "المجد أوروبا" بشخصين يُحتمل أنهما استخدما كغطاء: عدنان ومؤيد، وقد وُصفا في التقرير بأنهما "منسقا مشاريع إنسانية".

ولا تتوافر عن هذين الشخصين سوى معلومات محدودة، باستثناء منشور على "فيسبوك" يظهر فيه مؤيد وهو يستقل طائرة، وأرفقه بتعليق قال فيه: "غادرت غزة ولن أعود. تركت أرض الحرب والجوع والجهل... وطنا أصبحت فيه الغربة أرحم من البقاء. طالما القتل مستمر، تُغتال العقول وتُدفن الكرامة... السلام على غزة من بعيد".

أ ف ب
أطفال فلسطينيون يسيرون وسط أنقاض مبنى متضرر تابع لوزارة الأوقاف، كان يؤوي نازحين في حي الزيتون بمدينة غزة في 20 نوفمبر

الأصول السياسية للرحلة

تبلور الإطار التنظيمي الذي تستند إليه هذه العمليات عبر سلسلة من نقاشات سياسية سابقة. ففي سبتمبر/أيلول 2024، عقد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اجتماعا مع مسؤولين في وزارة الدفاع لبحث سبل تفعيل ما يسمى الهجرة الطوعية للفلسطينيين من غزة. وبعد طرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب في فبراير 2025، فكرة إعادة توطين سكان غزة وتحويل القطاع إلى ما وصفه بريفييرا الشرق الأوسط، أصدر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس توجيها بإعداد آليات تنفيذية لتحويل هذا المقترح إلى خطوات عملية.

وبحلول فبراير2025، أنشأ كاتس بشكل رسمي مكتب الهجرة الطوعية التابع لوزارة الدفاع، وهو الجهة المكلفة بـ"تسهيل إعادة توطين سكان قطاع غزة في دول ثالثة بطريقة توصف بالآمنة والمنظمة". وأعلنت الحكومة صراحة أن هذه المبادرة تأتي في إطار المقترح السياسي الذي طرحه ترمب، إذ يتضمن مخطط السلام المؤلف من عشرين نقطة بندا يسمح للفلسطينيين في غزة بمغادرة القطاع طوعا. ومن اللافت أن المخطط ينص أيضا على السماح بعودة الفلسطينيين إلى غزة، غير أن مدى قابلية تطبيق هذا البند لا يزال غير واضح.

قالت وزارة الدفاع إن الهيكل البيروقراطي للمبادرة مصمم ليمنح الأفراد حرية اتخاذ قرارهم بأنفسهم. وأوضح ممثلو "كوغات" أن عمليات الإجلاء تجري بالتنسيق مع الدول التي يفترض أن تستقبل الوافدين، رغم أن التنفيذ يجري أحيانا عبر منظمات وسيطة. غير أن محللين مستقلين لفتوا إلى أن السياق الذي تجري فيه هذه العمليات يرسم حدود هذا "الاختيار،" ويؤثر في طبيعته.

الدوافع وراء هذه الرحلات

ما تزال طبيعة الدور الذي تؤديه الجهات المنظمة في هذه العمليات غامضة إلى حد كبير، سواء أكانت منظمة "المجد أوروبا" تعمل كمقاول يتولى جزءا من المهمة نيابة عن الجيش الإسرائيلي، أو مشروعا تجاريا خاصا يُنسق مع السلطات الإسرائيلية، أو صيغة هجينة تمزج بين الطابعين الرسمي والخاص. لكن المؤكد أن هذه الرحلات تُعد جزءا من مشروع إسرائيلي، أو على الأقل تجري ضمن نطاق سيطرة الحكومة الإسرائيلية، وهو ما يعيد طرح السؤال حول الهدف الحقيقي الكامن وراءها.

"حماس" ترفض التخلي عن سلاحها، والحكومة الإسرائيلية ترفض تقديم أي التزام واضح بإقامة دولة فلسطينية، في حين لا يُبدي الشركاء الدوليون حماسة تُذكر للانضمام إلى القوة الأمنية المقترحة

قد يرى البعض أن هذا السؤال يبدو ساذجا، فالحكومة الإسرائيلية تعمل، بلا مواربة، على دفع الفلسطينيين إلى الرحيل. وقد عبّر عدد كبير من المسؤولين في اليمين الإسرائيلي المتطرف، بل ومن خارجه أيضا، عن هذه النوايا صراحة، من دون أي محاولة لإخفائها.

ومع ذلك، فإن الفكرة القائلة إن إسرائيل تحاول إجلاء سكان غزة عبر برامج سرية كهذه، وبواسطة وسطاء غامضين، تبدو بعيدة عن المنطق. فمن الصعب تخيل أن "بيبي" يعتقد فعلا أنه قادر على تفريغ غزة من سكانها رحلة تلو أخرى. وعلى الأرجح هذا ليس الهدف أصلا. فرئيس الوزراء الإسرائيلي معروف بكثير من الصفات، لكن العيش في عالم خيالي ليس إحداها.

الغاية الأقرب للواقع هي استرضاء حلفائه في اليمين المتطرف، الذين لا يمكن اعتبار دعمهم للهدنة الراهنة مضمونا. فقد أبدى كل من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش قلقهما من استمرار وقف إطلاق النار.

أ ب
عائلات تشاهد الطائرات على مدرج مطار جوهانسبرغ مطار تامبو، الاثنين 29 نوفمبر 2021

لقد دخلنا أيضا مرحلة جديدة من الهدنة، وقد يكون لذلك ارتباط مباشر بسياق هذه العمليات. فالاتفاق جرى تصميمه بقدر كبير من الغموض، خصوصا في ما يتعلق بالبنود بعيدة المدى. ورغم أنه نجح في وقف القتال وأفضى إلى الإفراج عن رهائن، فإنه أغفل قضايا أساسية، من بينها نزع سلاح حركة "حماس"، وطبيعة دور القوة الأمنية الدولية المزمع نشرها في غزة، ومستقبل الإدارة المدنية، والمسار المحتمل للعودة إلى حل الدولتين.

ونتيجة لذلك، وجدنا أنفسنا أمام مأزق حقيقي. فـ"حماس" ترفض التخلي عن سلاحها، والحكومة الإسرائيلية ترفض تقديم أي التزام واضح بإقامة دولة فلسطينية، في حين لا يُبدي الشركاء الدوليون حماسة تُذكر للانضمام إلى القوة الأمنية المقترحة، بينما يواصل الجيش الإسرائيلي انتشاره في نصف مساحة القطاع.

وقد يؤدي هذا الجمود إلى انهيار الهدنة، إلا أنه من الواضح أن الرئيس ترمب حريص على الحفاظ عليها، وقد راهن على سمعته الشخصية من أجل تحقيق ذلك، إلى حد التفكير في ترؤس مجلس جديد للإشراف على تنفيذ الهدنة وإعادة إعمار غزة.

تسلط حادثة جوهانسبرغ الضوء على الديناميكيات الأوسع للنظام الناشئ لترحيل الفلسطينيين من غزة

ورغم أن احتمال انهيار الاتفاق لا يزال قائما، فإن الأرجح هو استمراره، ولو مؤقتا، في حالة رمادية يتنافس فيها الطرفان على كسب اليد العليا.

وفي هذا السياق، حيث تدور لعبة سياسية قذرة بين خصمين عنيدين، قد تُستخدم هذه الرحلات كأداة ذات هدف مختلف: توجيه رسالة إلى حركة "حماس" بأن الوقت ليس في صالحها، وفي الوقت نفسه، فرض ضغط غير مباشر على من يزعمون دعم الفلسطينيين، لدفعهم نحو التأثير على قرارات الحركة.

تسلط حادثة جوهانسبرغ الضوء على الديناميكيات الأوسع للنظام الناشئ لترحيل الفلسطينيين من غزة.
فرغم تقديم هذه العملية كتحرك إنساني طوعي، إلا أنها تعكس تقاطعا معقدا بين سياسات الحكومة الإسرائيلية، ودور الوسطاء من القطاع الخاص، والتنسيق غير الواضح مع الدول المستقبِلة.
أما بالنسبة لجنوب أفريقيا، فقد كشفت الحادثة عن الحساسية السياسية التي تواجهها الدول التي تعلن دعمها للقضية الفلسطينية، حين تُوضع أمام مسؤوليات عملية تتعلق باستقبال المهجّرين.
وبالنسبة لإسرائيل، تُمثل هذه الرحلات أداة عملية تنسجم مع نقاشات سياسية طويلة الأمد بشأن تسهيل الهجرة، حتى وإن ظل نطاق البرنامج وأهدافه النهائية غير واضحة.

في ظل هدنة هشة وغير محسومة، تشكل هذه العمليات أيضا نوعا من الإشارة السياسية، سواء في الداخل الإسرائيلي أو تجاه جهات خارجية مثل "حماس" والشركاء الدوليين. وسواء كانت هذه الرحلات تمثل بداية لاستراتيجية أوسع، أو تُستخدم كأداة محدودة لتفريغ الضغوط السياسية، فإنها تكشف عن كيفية تحول الخروج من غزة إلى جزء من صراع أوسع على النفوذ والرواية وملامح مستقبل هذا النزاع.

font change

مقالات ذات صلة