أفكار لتطوير "خطة ترمب" في غزّة… وتجنب "فخ التقسيم"

ثمة مخاطر حقيقية بأن يتحول كل من "مجلس السلام" و"قوة الاستقرار الدولية" إلى أدوات سيطرة

"المجلة"
"المجلة"

أفكار لتطوير "خطة ترمب" في غزّة… وتجنب "فخ التقسيم"

للوهلة الأولى، تظهر "مبادرة نيويورك" كلحظة تفاؤل حذر في التاريخ الطويل والمرهق للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. رغم أن هذه المبادرة، ولدت من قناعة راسخة بأن حل الدولتين يجب أن يظل حجر الزاوية في الدبلوماسية الدولية، فإنها لا تقدم خارطة طريق مفصلة، ​​بل إطارا دوليا وأفقا مشتركا؛ مجرد مجموعة من المبادئ التي تهدف إلى استعادة الشرعية والكرامة، والقدرة على التأثير لكلا الشعبين. ولا تكمن عبقريتها في تقديم نتائج فورية أو حلول سحرية، بل في إعادة تأكيد مبدأ بسيط وبالغ الأهمية: وهو أن أي سلام دائم، لا بد أن يكون سلاما عادلا قائما على الحقوق، ومتعدد الأطراف، ومرتكزا على سلطة الأمم المتحدة.

بيد أن واشنطن، وقبل أن يجف حبر ذلك الإنجاز الدبلوماسي المتواضع، سارعت لملء الفراغ وفق رؤيتها الخاصة: مشروع قرار أميركي لتفعيل أجزاء من خطة ترمب. يسعى المشروع، المغلف بلغة برغماتية، إلى إنشاء أداتين أساسيتين: "مجلس سلام" كآلية حكم انتقالية، و"قوة استقرار دولية" في غزة. ومن شأن هاتين الأداتين أن توفرا ظاهريا الدعامة الأساسية للاستقرار وإعادة الإعمار.

إلا أن الواقع مثير للقلق. فخلف غطائه الإجرائي، ثمة مخاطر بأن يحول القرار خطة ناقصة أصلا إلى إطار عمل مفروض: إطار يعطي الأولوية للسرعة والمظاهر على الشرعية والشمول. وفي محاولته خلق حركة، فإنه يهدد بإحلال الإجراءات التنفيذية محل الإنجاز والتقدم الحقيقي.

من مبادرة السلام إلى مشروع القرار

لم يكن من المفروض أن تحقق "مبادرة نيويورك" للسلام نتائج فورية. فقوتها تكمن في مرونتها: فهي تدعو إلى دبلوماسية منسقة، وحماية إنسانية، وأفق سياسي ذي مصداقية. وهي تربط التقدم بقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشكل واضح وصريح، وتطالب بتقديم تقارير منتظمة وشفافة إلى كل من مجلس الأمن والجمعية العامة. وفي جوهرها، تؤكد المبادرة قدرة النظام متعدد الأطراف على محاسبة جميع الأطراف (الدول وغير الدول على حد سواء) أمام القانون الدولي.

وفي المقابل، استقبل الكثيرون في المنطقة، مشروع القرار الأميركي على أنه اقتراح "إما أن تقبله كما هو أو ترفضه كليا". فهو يختزل صراعا سياسيا بالغ التعقيد في ممارسة إدارية، مانحا "مجلس السلام" تفويضا مطلقا لمدة عامين مع الحد الأدنى من الضمانات، ومجرد إشارات غامضة إلى الانسحاب الإسرائيلي أو التمكين الفلسطيني. قد يبدو الهيكل فعالا على الورق، إلا أنه هش سياسيا، فالكفاءة دون شرعية هي السمة المميزة للسلام المفروض.

ولا ينبغي لأحد أن يغفل حقيقة بالغة الأهمية، فهذا الصراع الممتد لم يأخذ ملامحه ويتشكل على مدى العقود السابقة عبر مفاوضات متكافئة، بل بتفاوت القوة: فقد حولت هيمنة إسرائيل، بدعم الولايات المتحدة، الكثير من مبادرات السلام إلى أدوات احتواء لا تحرير. ونجد في مشروع القرار تكرارا لهذا النمط: فمن خلال تأطيره للحوكمة والاستقرار دون أن يرتكزا على قدرة الفلسطينيين على اتخاذ القرارات أو الحصول على حقوقهم، ثمة مخاطر في أن يرسخ هذا المشروع الاختلال الذي سعت "مبادرة نيويورك" للسلام إلى معالجته.

تكلفة الغموض

يرى المدافعون عن القرار أنه عملي، فهو يركز على الاستقرار وإعادة الإعمار ونزع السلاح. إلا أن البراغماتية من دون الدقة مسار محفوف بالمخاطر. فنص القانون يكتنفه الغموض بشأن الكثير من القضايا الجوهرية: الجداول الزمنية، والمعالم الرئيسة، وآليات التحقق، ونطاق الرقابة الدولية. والأمر الأكثر خطورة هو أنه يتجنب أي إشارة صريحة إلى حل الدولتين، أو إلى مجموعة قرارات مجلس الأمن الملزمة التي تحدد معالم هذه الغاية النهائية.

ثمة مخاطر حقيقية بأن يتحول كل من "مجلس السلام" و"قوة الاستقرار الدولية" إلى أدوات سيطرة بدلا من أن يكونا أدوات انتقالية

وهذا الإغفال يحمل دلالات أبعد، فهو يشير إلى تردد عميق في ربط العمل بالقانون. وفي ظل غياب هذا المرتكز، ثمة مخاطر حقيقية بأن يتحول كل من "مجلس السلام" و"قوة الاستقرار الدولية" إلى أدوات سيطرة بدلا من أن يكونا أدوات انتقالية: ينحصر دورها في إدارة متاهة من الفراغ غير محددة المدة بدلا من تمكين تقرير المصير.

الدبلوماسية الإقليمية والبحث عن التوازن

واستجابة لذلك المشروع، بدأت عدة عواصم إقليمية بصياغة إطار عمل مختلط: إطار يدمج التركيز العملي للخطة الأميركية مع الأساس المعياري لمبادرة نيويورك. وهم لا يهدفون للمواجهة مع واشنطن، بل للاستقطاب أو البحث عن خيار مشترك، بهدف التعامل البناء مع الولايات المتحدة، مع إعادة تأكيد دور الأمم المتحدة كضامن للحياد والشرعية.

رويترز
تعرض الشاشات عدد الأصوات أثناء تصويت أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة على القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، في مقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك، الولايات المتحدة، سبتمبر 2025

إنهم كمن يسير في حقل ألغام، قلة منهم ترغب في إبعاد الولايات المتحدة، ذات النفوذ والموارد الأكبر التي لا يمكن الاستغناء عنها، لكنهم في الوقت نفسه غير مستعدين لتأييد عملية تُهمش القانون الدولي أو الإرادة الفلسطينية. يكمن التحدي في إبقاء خطة ترمب مقيدة سياسيا بعملية متعددة الأطراف، حتى مع مقاومة واشنطن لقيودها.

لا يؤيد مشروع القرار الأميركي فكرة التقسيم بشكل صريح ومباشر، إلا أنه يسمح بتطبيقها

تجنب "فخ التقسيم"

من أخطر الأفكار التي طرحتها إسرائيل مؤخرا، والتي أيدتها الولايات المتحدة ضمنيا، هي فكرة تقسيم غزة، سواء إداريا أم إقليميا، تحت ستار إرساء الاستقرار. وهو ما سيكون خطأ فادحا. فالتقسيم سوف يرسخ الاحتلال، ويفتت الهوية الفلسطينية، ويقضي على إمكانية قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيا وقابلة للحياة. وبعيدا عن حل المشكلة، سوف يعزز الانقسامات ذاتها التي جعلت السلام حلما بعيد المنال لأجيال عديدة. لا يؤيد مشروع القرار الأميركي فكرة التقسيم بشكل صريح ومباشر، إلا أنه يسمح بتطبيقها.

يتعين على المجتمع الدولي أن يقاوم إغراء الحلول السريعة التي تستبدل العدالة طويلة الأمد بالهدوء المؤقت. ويبقى السبيل الوحيد المستدام للتقدم والاستمرار، هو استعادة كيان سياسي فلسطيني موحد في ظل سلطة مدنية شرعية، من خلال عملية تفضي إلى دولة معترف بها، لا إلى وضع مشروط دائم.

بديل بناء

للمضي قدما، لا بد من تعديل مشروع القانون الأميركي بدلا من رفضه رفضا قاطعا. وثمة تعديلات ملموسة يمكن أن تحوله من أداة أحادية الجانب إلى أساس متعدد الأطراف وموثوق:

1. إشارة صريحة إلى حل الدولتين، مع ربط واضح بالضفة الغربية.

2. وضع شروط تمنع إجراء تغييرات أحادية الجانب على الوضع الإقليمي لقطاع غزة.

3. المساءلة والمتابعة بمشاركة كل من مجلس الأمن والجمعية العامة. ينطوي الدور العملي والتنفيذي للجمعية العامة على أهمية بالغة. حيث يمكنها من تعزيز مسارات متوازية، كتأمين الحماية الإنسانية، والدبلوماسية الإقليمية، وإطلاق عملية سياسية رسمية عادلة قائمة على الحقوق، بالإضافة إلى التنسيق مع الجهات الفاعلة الإقليمية لمواصلة الضغط من أجل اتخاذ تدابير ملموسة وجداول زمنية محددة. يمنح تأييد الجمعية العامة لإعلان نيويورك شرعية سياسية عالمية، لا يستطيع مجلس الأمن وحده تقديمها؛ عندما تكون الجمعية العامة صاحبة "اليد العليا" وتأخذ المسألة على عاتقها، سوف يحافظ هذا على منبر عالمي للمتابعة، وتقديم التقارير، واتخاذ خطوات الاعتراف، والضغط في حال تعثُّر المجلس أو انقسامه.

4. انتقال محدد زمنيا إلى السلطة المدنية الفلسطينية، تحت إشراف دولي مع حماية إنسانية واضحة، وإجراءات لإصلاح الحكم، وترتيبات الإيرادات التي تضمن الاستقلال المالي الفلسطيني، ومسار يمكن التحقق منه نحو إقامة الدولة.

الواقع غير المريح

لا بد من الاعتراف أن قلة قليلة فقط لديها أوهام بأن واشنطن ستتبنى هذه التغييرات. إن مشروع القرار، بصيغته الحالية، مجرد "إجراء شكلي أو استعراضي"؛ لفتة نحو التعددية وليس التزاما حقيقيا بها. وكما هو الحال في قوة حفظ السلام متعددة الجنسيات والمراقبين (MFO) التي أُنشئت بعد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، قد ينتهي الأمر بـ"قوة الاستقرار الدولية" المتصوَّرة إلى مجرد انتشار رمزي بدلا من أن تكون آلية تحويلية.

أ.ف.ب
فلسطينيون يتجهون إلى مدينة غزة عبر "ممر نتساريم" من النصيرات وسط قطاع غزة في 11 أكتوبر 2025

وقد زعم البعض أن الولايات المتحدة، بعد أن سعت جاهدة للحصول على تفويض من الأمم المتحدة لخطة ترمب، كما طالب الكثيرون، مع علمها التام بأن فرص نجاحها ضئيلة، سوف تشرع، كما فعلت مع قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات في الماضي، في إنشاء "قوة الاستقرار الدولية" سواء من الدول الراغبة، أو الأسوأ من ذلك، من المتعاقدين. يبدو أن الخيار الأول مستبعد كليا، فلن ترغب أي دولة في تعريض مواطنيها للخطر، نظرا لأن التفويض المزمع يتضمن نزع سلاح "حماس". أما الخيار الثاني، فسوف يكون كارثة حقيقية بكل المقاييس.

وفي هذا السياق، لا ضير من التذكير بمبدأ بالغ الأهمية: إن عدم التوصل إلى حل لهو بالتأكيد أفضل من حل سيئ. إن تفويضا معيبا لن يفشل في إرساء السلام فحسب، وإنما سيقوض مصداقية الدبلوماسية المستقبلية أيضا. بيد أن الأمل ما زال يلوح في الأفق. وكما شهدنا في مناسبات سابقة، يمكن للرئيس ترمب أن يغير رأيه. وقد أشارت واشنطن إلى أنها ليست على عجلة من أمرها. وحددت مهلة زمنية قدرها أسبوعين. وهذا يسمح للدول العربية التي يمكن لها أن تؤثر على الولايات المتحدة، بإقناع الرئيس ترمب بإعادة النظر في موقفه.

استعادة الأفق

تبقى "مبادرة نيويورك" لإرساء السلام، رغم عيوبها، المنصة المشتركة الوحيدة القادرة على توحيد الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية حول غاية نهائية مشروعة. فهي تعيد فتح نافذة دبلوماسية نادرة، إلا أن هذه النافذة لن تبقى مفتوحة إلى الأبد. لن يبنى السلام عبر مخططات أحادية الجانب أو مجالس حكم مرتجلة. وإذا ما قُيِّض له أن ينبثق، فسيكون ذلك من خضم عملية تجمع بين الواقعية والشرعية؛ عملية ترسي الاستقرار على الأرض دون التنازل عن الأفق.

ومشروع القرار الأميركي، بصيغته الحالية، سيفشل حتما في اجتياز هذا الاختبار، غير أنه ما زال يحمل فرصة في ثناياه: إذا جرى تعديله وأُعيدت صياغته واستعاد بعض التوازن؛ لاستعادة الهدف الأساسي للدبلوماسية، الذي يتجسد في تحويل القوة إلى مبادئ، والخطاب إلى حقوق.

ستحدد الأسابيع المقبلة ما إذا كان المجتمع الدولي قادرا على توجيه هذه المبادرة الأميركية نحو نتيجة متوازنة، أم إنها ستعمق الجراح والانقسامات التي تسعى إلى علاجها

الاختبار الحقيقي

ستحدد الأسابيع المقبلة ما إذا كان المجتمع الدولي قادرا على توجيه هذه المبادرة الأميركية نحو نتيجة متوازنة، أم إنها ستعمق الجراح والانقسامات التي تسعى إلى علاجها. تعيد مبادرة نيويورك فتح أفق دبلوماسي، مهما كان خافتا، فيما يهدد مشروع القرار الأميركي، بصيغته الحالية، بإغلاقه.

وفي الشرق الأوسط، كان التاريخ قاسيا على أولئك الذين يخلطون بين الإدارة والحل. ويكمن التحدي الحقيقي اليوم، في التأكيد على أن تتمكن الدبلوماسية، ولو لمرة واحدة، من مقاومة هذا الإغراء.

font change

مقالات ذات صلة