بعد ظهر يوم الثلاثاء 21 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، تجمع آلاف المتظاهرين في مدينة قابس بالجنوب التونسي. لم تعلن السلطات أعدادا رسمية للمشاركين في الاحتجاجات لكن بعض المنظمات الحقوقية قدرتها بأكثر من مائة ألف مشارك. المدينة تكاد أن تكون أقفلت بالكامل: المحلات والمدارس والمكاتب. خرج الجميع ليطالبوا بحقهم في تنفس هواء نظيف. إنه أكبر احتجاج في تاريخ المدينة، والسابقة هو أنه أول احتجاج جماهيري بيئي في البلاد التونسية.
وراء هذا التحرك الواسع الذي ينم عن تطور في الوعي البيئي، حالات اختناق وتراخ في الأعضاء وصعوبة في التنفس لدى تلاميذ من المدارس الإعدادية في حي "شط السلام" قرب المجمع الكيميائي التونسي. انتشرت فيديوهات إنقاذهم وهم في حالة دوار أو اختناق من قبل فرق الحماية المدنية على وسائل التواصل الاجتماعي، فطفح الكيل، إذ يطالب سكان مدينة قابس، منذ زمن قديم، بتفكيك الوحدات الملوثة لـ"المجمع الكيميائي التونسي".
قصة كارثة بيئية في الجنوب التونسي
أنشئ "المجمع" سنة 1972 بقرار من الدولة التونسية، بهدف تحويل مادة الفوسفات الخام المستخرج من مدينة قفصة المجاورة إلى مشتقات كيميائية ذات قيمة مضافة، خصوصا الأسمدة والحمض الفوسفوري الذي يستخدم في المختبرات والصناعات المعدنية وصناعة المشروبات الغازية ومواد التنظيف، إلى جانب محطة لتفريغ الكبريت، وهو ضروري لإنتاج المشتقات الكيميائية المذكورة، كما أنه مستورد من الخارج. وقع الاختيار آنذاك على مدينة قابس كمقر مركزي للمجمع، نظرا لقربها من الميناء البحري الذي يسمح بتصدير المنتجات واستيراد الكبريت.
اليوم، يشكل المجمع إحدى أكبر المؤسسات الصناعية في تونس وشمال أفريقيا، وبتوسع وحداته إلى مدن أخرى (صفاقس والمظيلة) صار يمثل أحد أكبر مشغلي اليد العاملة الصناعية في البلاد، كما أنه مصدر استراتيجي لعائدات الدولة. لكن لم يرافق هذا التوسع تطور في تقنيات الحفاظ على البيئة ومنظومات المعالجة، ولا في صيانة المنشآت الصناعية التي غدت مهترئة. تتعرض مدينة قابس، جراء ذلك، لانبعاث غازات سامة (ثنائي أكسيد الكبريت، الفلور، الأمونياك)، كما يقوم المجمع بتصريف مباشر للنفايات الصناعية مثل الفوسفوجيبس في البحر، محولا الواحة البحرية الفريدة من نوعها في المنطقة إلى بحر داكن اللون، هجره المصطافون والصيادون، وغدا الدخول في مياهه خطرا على صحة البشر.
من بين الأعراض المبلغ عنها لدى سكان مدينة قابس، حالات سرطان واسعة الانتشار، وصعوبة في التنفس وهشاشة في العظام وتراخ في الأرجل، يجعل المشي صعبا، وحتى في الأعضاء جميعها. ومن بين العاملين في المجمع، صرح البعض بإصابات من نوع الشلل الارتعاشي (داء باركنسون) جراء تنفس مادة الأمونياك.





