منذ فجر الوعي البشري، ظل الزمن أكثر المفاهيم استعصاء على الفهم. ليس لأنه يتدفق بصمت فقط، بل لأننا نختبره من الداخل قبل أن نقيسه من الخارج. يربط الإنسان الزمن بالدقائق والساعات، لكنه يعيش زمنا آخر — زمنا خفيا، وداخليا، وينظم الإحساس بالجوع والنعاس والانتباه والعاطفة والذاكرة والمرض. هذا الزمن ليس الزمن الفلكي، ولا نتيجة دوران الأرض، بل هو زمن بيولوجي ذاتي، تعمل به كل خلية من خلايا الجسم، وتخضع له جميع أعضائه، من القلب إلى الكبد إلى الدماغ.
في عمق الأنسجة، وفي صمت لا يسمعه أحد، تدور ساعات مجهرية مكونة من جينات تتشابك في حلقات تنظم ذاتها ذاتيا. تعلو وتخفت في دورات تمتد لأربع وعشرين ساعة — متزامنة مع الضوء والظلام، اليقظة والنوم، والنشاط والراحة. كأن الكائن الحي يحمل في داخله أرضا صغيرة تدور حول شمسها.
هذه الساعة الداخلية ليست رفاهية بيولوجية، بل هي شرط للحياة نفسها. فهي التي تجعل الخلايا تعرف متى يجب أن تعمل، ومتى يجب أن تتوقف، ومتى ينبغي أن تعيد ترتيب نفسها أو تزيل مخلفاتها أو تعالج أضرارها. حتى الدماغ — مقر الوعي والذاكرة — لا يمكنه العمل خارج هذا النظام الزمني. فالذاكرة لا تكون في أي وقت، والتركيز لا يصل ذروته في أي لحظة. حتى النوم ليس مجرد فقدان للوعي، بل عملية جراحية كبرى تنظم عبرها الخلايا وظائفها وتعيد التوازن إلى الوصلات العصبية.
هكذا يتضح أن الزمن البيولوجي ليس مجرد ساعة داخلية — بل نظام هوية. فما نحن إلا كائنات زمنية قبل أن نكون كائنات عاقلة. وهنا تبرز المفارقة المؤلمة: إذا كان الزمن هو ما يجعل الدماغ قادرا على بناء الذاكرة والوعي، فماذا يحدث حين يصاب الدماغ بمرض يفسد زمنه الداخلي؟
من هنا يدخل مرض ألزهايمر باعتباره ليس فقط اضطرابا في الذاكرة، وإنما تغير جذري في بنية الزمن داخل الدماغ. تشير الدراسات الحديثة إلى أن الأعراض الأولى لا تبدأ بفقدان الذكريات كما نعتقد، بل باختلال الإيقاعات اليومية — تغير النوم، والانفعال الليلي، وتراجع الوظائف المسائية، وتدهور الوعي الزمني. وكأن الزمن داخليا يبدأ أولا في الانكسار، ثم تتوالى خسارة الذاكرة والهوية.
اضطراب الساعة البيولوجية
الأكثر إثارة أن الخلايا المسؤولة عن تنظيف الدماغ من اللويحات — مثل الخلايا الدبقية الصغيرة (الميكروغليا) والخلايا النجمية — تعمل بطريقة تعتمد على الإيقاع اليومي. تعمل بكفاءة عالية خلال الليل إذ تلتهم الفضلات البروتينية وتزيل تراكمات الأميلويد. لكن عندما تضطرب الساعة البيولوجية، لا تعود هذه الخلايا تعرف متى يجب أن تعمل — فتتجمد وظيفيا، ويتحول الدماغ إلى بيئة تتراكم فيها اللويحات بلا حراسة.
عند الإصابة بذلك المرض، يصبح السؤال العلمي والفلسفي معا واضحا وصادما، هل يبدأ ألزهايمر حقا عندما يتوقف الدماغ عن تذكر ذاته — أم عندما يتوقف عن معرفة الوقت؟
إن دراسة الإيقاع البيولوجي داخل الدماغ تكشف عن حقيقة مذهلة، أن المعركة في ألزهايمر ليست فقط مع لويحات تعيق الذاكرة، بل مع خلل في الزمن ذاته — زمن الخلايا، وزمن الوعي، زمن الإنسان. وبهذا الإدراك، يصبح البحث العلمي اليوم ليس مجرد محاولة لفهم المرض، بل محاولة لإعادة الزمن إلى الدماغ — في محاولة لإنقاذ الذاكرة، والهوية، والذات.

