"رڤوج" ظاهرة فنية تونسية من التلفزيون إلى المسرح... فالعالمية

قرية متخيلة تعكس الواقع بتعقيداته السياسية والاجتماعية

Imdb
Imdb
ملصق مسرحية "رڨوج"

"رڤوج" ظاهرة فنية تونسية من التلفزيون إلى المسرح... فالعالمية

بعض نصوص "رڤوج" (تنطق "رغوج")، المسلسل التلفزيوني الذي أخرجه التونسي عبد الحميد بوشناق، والذي حوّل إلى عرض مسرحي للمخرج نفسه، صار جزءا من الثقافة التونسية بمعناها الواسع، لا الثقافة الشعبية فحسب. عرض الجزء الأول من المسلسل في شهر رمضان 2024، فغزا البيوت، وتواصلت أحداثه في جزء ثان بعنوان "رڤوج- الكنز" في رمضان من هذه السنة، فاكتسحت نصوصه ومشاهده الواقع والإنترنت في تونس اكتساحا ساهمت فيه لا محالة إدارة ناجحة للتفاعل على شبكات التواصل الاجتماعي.

لكن أن ترى مسرح قرطاج الأثري، وهو يتسع لما بين 8000 و10000 متفرج، غاصا بالجماهير التي تردد مع الممثلين نصوصهم خلال العرض الحامل للعنوان نفسه، وتغني الأغاني التي صاحبت المسلسل وتصيح عند ظهور كل ممثل على المسرح، فتلك حالة فريدة في المشهد الفني التونسي، وجب التمعن فيها والتساؤل عن أسبابها وعما فتن التونسيين بها.

عرض "رڤوج" يجمع بين التمثيل والرقص والغناء في حضور أوركسترا على المسرح وشاشات عملاقة تبث مشاهد من المسلسل أو فيديوهات معبرة.

يجدر تصنيفه بالأوبريت بالمعنى الشرقي الذي أعطاه الأخوان رحباني لأعمالهما المسرحية والغنائية مثل "دواليب الهوا" أو"سهرة الحب" وغيرها. وقد امتلأ، من أجل عرض "رڤوج"، مسرح قرطاج بالكامل ليلة 29 أغسطس/ آب 2025 في إطار "مهرجان قرطاج الموازي" ( Carthage Off)، كما شهد العرض الإقبال نفسه في مختلف المدن التونسية طيلة موسم المهرجانات في هذا الصيف، مثل مهرجان بنزرت وصفاقس وسوسة ودقة والحمامات.

قرية خيالية

متلاعبا بحروف قرية حقيقية في تونس باسم "جوڤار"، خلق عبد الحميد بوشناق قرية تونسية خيالية تدعى "رڤوج"، تنفرد بوفرة الأزهار والورود، ويتميز سكانها بملابس ملونة بوهيمية، في جمالية وموسيقى تذكراننا بأجواء أفلام المخرج الصربي إمير كوستوريتسا. يدير القرية مسؤول إداري فاسد يحمل اسم "الديناري" (صابر الوسلاتي)، وتمارس فيها شخصية "الورل" (عزيز الجبالي) البلطجة، متحالفة مع الإدارة، ويميل بعض السكان إلى مجاراتهما، بينما يميل البعض الآخر إلى نصرة الحق.

قصص التسلط والارتشاء والقهر والعنف بأنواعه متواترة كذلك في هذا المسلسل الذي جمع بين الجيلين القديم والجديد من الممثلين التونسيين


تبدأ القصة بقدوم يوسف (وليد العيادي) من العاصمة إلى القرية، وهو شاب مقامر يرزح تحت الديون ويلاحقه دائنوه، فيأخذه خاله عباس (البحري الرحالي) ليخفيه في رڤوج حيث استقر مع عائلته منذ زمن طويل. بحثا عن وسيلة لتلميع صورته، يكلف "الورل" يوسف ببناء مدرسة لأطفال البلدة في حين أن الأخير لا يدري عن الهندسة والبناء شيئا، ثم يقع يوسف في غرام محبوبة (فاطمة صفر). في هذه القرية، قصص الحب عديدة لكنها صعبة أيضا، تجري بين شخصيات متضادة، مثل الشابة الفلاحة والشجاعة نسيمة (ياسمين الديماسي) والشرطي الشريف والبورجوازي (زياد العيادي)، أو طبيبة القرية شامة (ريم عياد) والفنان عازف الترومبيت بيدرو (محمود السعيدي)، كما قد تنشأ قصص غرام بين شخصيات متشابهة مثل "الورل" وعشيقته روزا (هالة عياد). قصص التسلط والارتشاء والقهر والعنف بأنواعه متواترة كذلك في هذا المسلسل الذي جمع بين الجيلين القديم والجديد من الممثلين التونسيين.

Imdb
وليد العيادي في "رڨوج"

ولا شك أن الجيل الجديد منهم أسهم في تحويل هذا المسلسل إلى ظاهرة فنية، فهم يعيشون منذ بضع سنوات حالة فنية في انسجام فريد. هم في الأصل ممثلون مسرحيون يتشاركون في أعمال مسرحية وحتى سنيمائية تشهد نجاحا ملحوظا، ومن المؤكد أن انسجامهم أفاد المسلسل على أكثر من مستوى، إذ تمكنوا من كتابة جماعية للسيناريو والحوار (صابر الوسلاتي، ياسمين الديماسي، وليد عيادي، عزيز جبالي، هالة عياد إلى جانب عبد الحميد بوشناق)، كتابة طرحت قضايا السلطة والحب والأرض والماء والعلاقات الزوجية والفن، بحذق وطرافة ودون مباشرتية مزعجة.

Imdb
ملصق مسرحية "رڨوج"

وقد جاء اعتراف دولي بهذا العمل في شهر يونيو/ حزيران 2025، حيث حصد جائزة أحسن سلسلة درامية في المهرجان الدولي للأعمال الدرامية في ماتيرا بإيطاليا، بوصفه، كما ذكرت لجنة التحكيم، "أحد أكثر المسلسلات ابتكارا في المشهد الدولي (...) ونظرا إلى الإخراج المتقن والسيناريو الثري (...) وجودته الفنية والتقنية".

بصمة عبد الحميد بوشناق في الإخراج هي ثمرة عمل دؤوب وملكة إبداعية متميزة ومجازفة متواصلة. اشتهر عبد الحميد – وهو نجل المطرب لطفي بوشناق – سنة 2018 بتجربة رائدة، مع أول فيلم رعب تونسي بعنوان "دشرة"، كان في الوقت نفسه أول فيلم ممول بالكامل من القطاع الخاص حيث لم يلجأ بوشناق إلى الدعم الحكومي. ثم أخرج مسلسل "نوبة" بجزأيه الإثنين (2019-2020)، ومسلسل "كان يا ماكانش" (2021)، إضافة إلى فيلمين: "فرططو الذهب" (2021) و"الإبرة" (2023). تميز بوشناق في العديد من أعماله بفطنته وحسن مواكبته للروح التونسية ونكاتها الخاصة، مع تقديم مقترحات مجددة ومبدعة.

الأوبريت

ليست هذه المرة الأولى التي يحول فيها بوشناق مسلسلا من إخراجه إلى عرض مسرحي فرجوي، كما يحلو له أن يسميه، فقد سبق أن اقتبس عرض "عشاق الدنيا" من مسلسل "نوبة" ولا يزال العرض يجوب أنحاء البلاد، لكن يبدو أن مسلسل "رڤوج" وعرضه حققا نجاحا أوسع.

وكان جمهور مسرح قرطاج  خلال عرض "رڤوج" منتشيا كما قد ينتشي جمهور له هوس بنجم غناء روك، وكان يردد مع المسؤول الفاسد "الديناري"، العبارة الفرنسية التي صارت شائعة في تونس اليوم Je mange, tu manges أي "إذا أكلت، فستأكل أنت أيضا" إشارة إلى مطالبته بدفع رشوة، هذا إلى جانب عبارات أخرى روجها المسلسل.

اعتمد بوشناق في عرضه منحى جماهيريا، فهو عرض مليء بالعواطف النبيلة التي تستدر التصفيق الحار، كما هي الحال في جميع مشاهد انتصار الحب أو الأخوة والخير والشجاعة

اعتمد بوشناق في عرضه منحى جماهيريا، فهو عرض مليء بالعواطف النبيلة التي تستدر التصفيق الحار، كما هي الحال في جميع مشاهد انتصار الحب أو الأخوة والخير والشجاعة أو المناداة بالمساواة بين المرأة والرجل، أو عند تكريم العاملات الفلاحيات اللوتي سبق أن أثارت ظروف عملهن الصعبة جدالا سياسيا وتضامنا اجتماعيا في تونس. على الرغم من ذلك، فإن العرض لا يقع في فخ الابتذال، بل يحافظ طيلة الوقت على جمالية مميزة بل وشاعرية أكيدة أيضا، فالأوركسترا تعزف على المسرح أغاني قديمة وأخرى جديدة ألفت خصيصا للمناسبة بمساهمة حمزة بوشناق، شقيق عبد الحميد. يعزز هذه الجمالية أداء الراقصين المحكم تحت إشراف الكوريغراف التونسية أميمة المناعي، بينما ينضم إليهم الممثلون، بين حين وآخر، في بعض اللوحات الراقصة.

ويكيبيديا
المخرج عبد الحميد بو شناق

كيف استهوى بوشناق الجمهور التونسي؟

ما كان لافتا للانتباه خلال هذا العرض الذي لم يخل من الرموز والتلميحات السياسية، هو تحمس الحضور للمشاهد التي تؤكد إيمان سكان "رڤوج" ببلدتهم، إذ صفق طويلا عندما كررت شخصية نسيمة: "انتم تهدوا ونحنا نبنو" (أنتم تهدون ونحن نبني). وما يبدو أكثر إثارة، هي حماسة الجمهور في كل مشهد يشيد بانتصار الحب، وذلك في بلد يعم فيه اليوم شعور بالمرارة في ظرف سياسي واقتصادي واجتماعي معقد، وفي انتشار لافت للسخرية إلى جانب العنف بأنواعه.

يبدو أن بوشناق، الذي لا يخفي رومنسيته على الرغم من اتسام العديد من أعماله بالعنف، عرف كيف يستهوي قلوب التونسيين، وأجاد المزج بذكاء بين التجاري والإبداعي، كما أنه سعى إلى مخاطبة وعيهم بهويتهم من خلال تكريم عدد من الفنانين التونسيين الراحلين على الشاشات العملاقة المنصوبة على المسرح، والتكريم المطول لمغني الراب كافون الذي شارك في المسلسل قبل أن يغيبه المرض.

shutterstock
مسرح قرطاج في تونس

ولا يفوتنا أن أحد العناصر المهمة في نشأة هذه الظاهرة الفنية، هو استثمار بوشناق في بناء عالم مواز، عالم "رڤوج"، مثبتا مرة أخرى صحة النظرية القائلة بأن السرديات الأكثر نجاحا هي تلك التي تخلق عالما مغلقا (جودي آرتشر وماثيو جوكرز، " شفرة الأكثر مبيعا" – Jodie Archer & Matthew Jockers, The Bestseller Code,). وثمة في السرد الأدبي، أمثلة عديدة على ذلك، منها نجاح كتب "هاري بوتر" للكاتبة ج.ك. رولينغ، والأعمال الفانتازية لتولكين مثل "سيد الخواتم". ويظهر أن عبد الحميد بوشناق واع بأهمية هذه الخاصية السردية، كيف لا وقد صرح ممثلو "رڤوج" بأنه أجبرهم جميعهم قبل تصوير المسلسل على قراءة الرواية الكلاسيكية للواقعية السحرية "مائة عام من العزلة" لغابرييل غارثيا ماركيز، وهي الرواية التي تدور أحداثها في قرية ماكوندو الخيالية.

أجبر المخرج جميع الممثلين قبل تصوير المسلسل على قراءة الرواية الكلاسيكية للواقعية السحرية "مائة عام من العزلة" لغابرييل غارثيا ماركيز

يمكن القول إن الوصفة بجميع عناصرها ناجحة، إذ كان تجاوب الحضور استثنائيا خلال عرض "رڤوج" ولم ينغص عليه نشوته، لا تجاوز الحضور عدد المقاعد في مساحة الكراسي المجاورة للخشبة والمناوشات التي نشأت عن ذلك قبل العرض وبعد انطلاقه، ولا الأعطاب المتكررة في ميكروفونات الممثلين، ولا حتى عثرات بعض الممثلين المبتدئين.

فاطمة صفر في "رڨوج"

قال لي البعض إن المسلسل فتنهم وأقنعهم بأن الأمل لا يزال موجودا، وفهمت أنهم استشفوا هذا الأمل من تكاتف سكان "رڤوج" في الجزء الأول من أجل بناء مدرسة، ومن  تعاضدهم في جزئه الثاني من أجل البحث عن كنز القرية الذي سيكتشفون أنه ينبوع ماء، وهو بالفعل كنز في بلد صارت فيه انقطاعات الماء متواترة. لكن احتفاء المسلسل بالحب مع توظيف رمزية مبدعة، قد يكون أكثر ما لمس قلوبهم وزرع فيها الأمل مجددا، ولو أضفنا ذلك إلى ما أسر لي به أحدهم، حيث أنه عاد إلى الكتابة بعد مشاهدة المسلسل، ربما تأكدنا نهائيا أننا أمام ظاهرة فنية حقيقية.

font change