فن الشارع: عن تصدر "الراب" وانتصارات الصوت الرديء

في كتاب جديد لسيد عبد الحميد

Muhammed Mustafa
Muhammed Mustafa
نجم "الراب" المصري مروان بابلو

فن الشارع: عن تصدر "الراب" وانتصارات الصوت الرديء

انبثق فن "الراب" من تزاوج الشعر والإيقاع. كلمة rap هي اختصار لعبارة Rhythm and Poetry فهو فن يعتمد على الكلام الموقع المقرون بالقوافي.

تعود اللحظة الأولى التي ظهر فيها هذا الفن إلى العلن، إلى المغني الجامايكي kool Herk في سبعينات القرن الماضي، وقد أطلق هذا النوع من حي البرونكس النيويوركي حيث قدم عرضا ينطوي على إلقاء عشوائي موقّع ولا يحتوي على قواف بل على عبارات غير منتظمة يتوجه بها المؤدّي إلى الجمهور بشكل مباشر وارتجالي بهدف خلق التفاعل والحماسة.

الكلام المرئي

يهتم الكاتب المصري الشاب سيد عبد الحميد في كتابه "فن الشارع: حكاية عن كتابة الراب والموسيقى" الصادر أخيرا عن "دار صفصافة"، بملاحقة حضور هذا النوع من الفن في الفضاء المصري ونجاحه في احتلال صدارة المشهد وخصوصا في مرحلة ما بعد ثورة 1911 التي خلقت حاجة ملحّة إلى الجديد.

في الفضاء المصري يمكن ربط انتشار "الراب" بالحاجة إلى تعبير مباشر وحي وأداء إيقاعي موسيقي متخلص من القواعد ويتمتع بالمرونة والانسيابية والمباشرة ويستطيع التخلص من أسر آليات الإنتاج الضخمة التي تنتج التوجّه الموسيقي والذوق العام والأنماط الغنائية، وتحكم الأداء وأساليبه وتسيطر كذلك على الكتابة ومزاجها وتحدّد المقبول وغير المقبول.

تسمية الكتاب بـ"فن الشارع" تحيل على البصري وتؤدّي دور الدلالة على طبيعة البحث لناحية النظر إلى فن "الراب"

تسمية الكتاب بـ"فن الشارع" تحيل على البصري وتؤدّي دور الدلالة على طبيعة البحث لناحية النظر إلى فن "الراب" و"التراب" الذي انبثق منه، والذي يعنى أكثر بالتكوين الموسيقي والأداء، على أنه فن يحاول أن يجعل التعبير الكلامي مرئيا ومحسوسا.

التعبير الهجائي

يبث "الراب" موجة معان ومشاعر لا تتفاهم مع سياقات عاطفية وتعبيرات سياسية واجتماعية منظمة ومدروسة، بل تذهب في اتجاه الهجاء والنقد وإعادة النظر في كل شيء كما في معارك "الراب" المعروفة بالـ"ديس" وكذلك في قراءتها للأحوال. وقد تقودنا محاولات البحث عن مرجعيات لها وفق مغازي الكتاب، إلى الشعر العامي الشعبي كما قد تحيل الصراعات بين نجوم الراب على صيغة معارك الهجاء التي كانت سائدة في عصور الشعر العربي الكلاسيكي.

 على الرغم من تلك العلاقة الاحتمالية، فإن علاقة كتّاب قصائد "الراب" بالتراث ليست دونية، إذ لا يتورعون عن استخدام مقاطع من أغاني أم كلثوم في أعمالهم كما فعل "الجوكر" الذي استخدم مقطعا من أغنية "أمل حياتي" في تراك "اختار مكانك" الذي خرج بتوزيع حسين الشافعي.

في الكثير من الأعمال وُظّف التراث الغنائي واستخدمت عناوين ثقافية أو حتى معادلات هندسية وعلمية في سياقات سجالية خلقت استجابة جماهيرية متفاعلة ومرحبة بينما أثارت سخط السلطات.

العواطف التي يعبر عنها "الراب" المصري ليست رومانسية بل فظة ومباشرة وتقدم خلطة غير متجانسة من الألم والرغبة والقدرية والاحتجاج بطبقات مختلفة ومتباينة عند كل "رابر". "في تاريخ "أبيوسف" (أحد أبرز الرابرز المصريين) لا توجد أغنية رومانسية مناسبة لتصبح هدية في عيد الحب. الحب في كتابة "أبيوسف" لا يأتي إلا مصحوبا بألم أعراض الانسحاب، محاولات للتخلص من أثر علاقة سامة أو جميلة لكن الاكتئاب لم يتركها تكتمل.

لا يغادر تناول السياسي والاجتماعي منطقة انتفاء الانتماء والتموضع ويبقى خارج ألعاب التأييد والتنديد ويعنى بسبر الأحوال بنغمة يطغى عليها القرف والتأفف والتحدي والاكتئاب والحزن الغاضب. يروي الكتاب قصة حلول "الراب" في موقع الصدارة مع احتفاظه بلا سلطويته، فعلى الرغم من تحول نجوم "الراب" إلى وجوه إعلانية وزيادة الطلب عليهم للمشاركة في مهرجانات عالمية والحضور البارز لهم على منصات البث كافة، لكن ذلك كله لم يجعل هذا النوع من الفن يتصلب ويتجه نحو الرسمية ويصبح جزءا من بنية السلطات وتركيبتها بل بقي اعتراضيا على الدوام. موقع التصدر الذي منح له، يمثل احتجاجا على الفن الرسمي والشائع الذي صار عاجزا عن ملاحقة الحاجات التعبيرية المستجدة، ونوعا من انقلاب الذوق العام عليه وعلى مدارسه.

كتابة الأزمة

ترصد موجات "الراب" المصرية الأولى التي ظهرت بين عامي 2003 -2007  سطوة التعبير الكلامي على الأداء والبحث عن كتابة مغايرة تستجيب لتطلعات جيل يحيا في الأزمات ولا يعرف سواها. في هذه المرحلة اختفت الأغنية الكلاسيكية وظهرت موجات تعبيرية تحاول التقاط روح الأزمات والتعبير عنها بموسيقى مغايرة وكلام جديد وأساليب أداء تنحاز إلى الأصوات غير الغنائية التي تبدو كأنها تحتج وتستغيث أو تحاول الصراخ، لكنها تفعل ذلك بثقة عالية وبنوع من التحدّي.

في تلك الفترة كان "الرابر" يحرص على أن يكون كاتبا في الأساس أو شاعرا. قصة أحمد ناصر المعروف بـ"الجوكر" المولود في 1992 وهو أول وأبرز نجوم "الراب" في مصر، تردّد أصداء هذا المزاج، فقد سبق له أن فاز بمسابقة كتابية وهو حرص دائما على اتباع منهج المدرسة القديمة لناحية الإيقاعات البطيئة وأولوية الكلام الذي تميز خلافا لمنطق الأغنية السائدة بكل مراحلها بتجاوز الهم الشخصي والتركيز على الذات إلى مقاربة الشأن العام وخلق أنماط علاقات جديدة مع الجمهور تدخله في صلب عملية الإنتاج، إذ أن شكل الاستجابة مع المقاطع المنشورة والتعليقات عليها على المواقع التي تنشر فيها، يحدّدان إلى حد كبير توجهات "الرابر" والمواضيع التي سيهتم بها.

في الكثير من الأعمال وُظّف التراث الغنائي واستخدمت عناوين ثقافية أو حتى معادلات هندسية وعلمية في سياقات سجالية

ظهرت موجة جديدة بين عامي 2009-2014 وشهدت عودة بعض النجوم المعتزلين بأفكار جديدة، إضافة الى ظهور نجوم  احتلوا الساحة وعبروا عن توجهات مختلفة تخاطب جمهورا يتلقى المنتج الفني عبر منصات البث ووسائل التواصل الاجتماعي التي أدّت دورا بارزا في التعبير عن المزاج العام في مرحلة ما بعد الثورة، حيث برزت الحاجة إلى أنماط تعبيرية وموسيقية يمكنها التعامل مع حاجات مستجدة ومعقدة ومتسارعة.

 نما هذا التوجه الى أن انبثق عنه النوع الذي تصدر المشهد حاليا وهو الـ trap الذي يعتمد على البناء الموسيقي وتحكمه عملية إنتاج تتطلّب وجود المنتج الموسيقي، ويتجه أكثر نحو ملاحقة التطورات في عالم الموسيقى ويهتم بمفاهيم الترفيه والعرض ويعنى بفكرة الإبهار المشهدي، ويقدم موسيقى إلكترونية بالكامل يمكن ألا تحتوي على اي صوت من آلة حية.

الكلام في كل الأطوار بقي القيمة المرجعية التي تحكم مزاج العمل وتحدّد توجهه، فبعد معارك "الراب" التي كانت سائدة في المرحلة الأولى، سيطر مزاج عام يلاحق الأحداث انطلاقا من الشخصي الناطق باسم الجماعة.

قدّم نجوم موجة "الراب" الثانية والـ"تراب" نوعا من القصائد العاطفية التي تبنى على ثيمات الاكتئاب واليأس لتكون كلام جيل انبثق في معظمه من الطبقات المتوسطة التي كانت تحمل آمال التغيير فووجهت بواقع متجهم ومغلق.

 نجومية واتهامات

تلك النجومية الكبرى التي نالها "الرابرز"، لم تجعلهم يتعاملون مع الشهرة على غرار كل النجوم، بل يلاحظ أنهم بدوا غالبا خائفين منها وقلقين من أثرها وغير مقتنعين بعناوينها. برزت ظاهرة يمكن أن نسميها بالنجوم المعادين للنجومية، الذين لا يعتقدون أنهم يقفون على أرض صلبة بل يغرقون في رمال متحركة. من هنا نفهم تلك القصة المتكررة للاعتزال والعودة التي تطبع سيرة معظم نجوم "الراب" المصريين.

تلك القصة قد تستخدم كحيلة ترويجية، لكنها تنطوي في الوقت نفسه على شعور بأن مجال القول ليس مفتوحا ولا نهائيا، بل يبدو على العكس من ذلك ضيقا ومحدودا ولا يستند إلى مرجعيات ثابتة يسهل تكرارها إلى الأبد، كما هو حال السائد في الغناء الشائع بكل أنواعه.

بعد معارك "الراب" التي كانت سائدة في المرحلة الأولى، سيطر مزاج عام يلاحق الأحداث انطلاقا من الشخصي الناطق باسم الجماعة

 يتطلب الاستمرار في إنتاج "الراب" ملاحقة سيلان متسارع من الأحداث والانفعالات العامة والشخصية وتركيب نظام معان خاص لها بشكل يكاد يكون مستحيلا. فغزارة الإنتاج الباهرة لدى "الرابرز" التي تترافق مع ميل إلى حذف "التراكات" السابقة والحرص على دفع الجمهور إلى التعرف اليهم من خلال الجديد، تقدّم بيانا عن فن يعترف بضعفه، وقد يكون ذلك هو سره والمجال الذي يفسر شعبيته بردّها إلى أنه يتماهى في طبيعته مع أحوال الناس وسيرهم.

وقد ترافقت الشعبية الجارفة لفن "الراب" مع حشد من الاتهامات بتشويه صورة البلد، وتشويه الذوق العام والإساءة إلى قيم الأسرة المصرية. ذلك كله خلق اشتباكات دائمة مع نقابة المهن الموسيقية التي تعاملت مع نجوم "الراب" كمجموعة من المارقين ووضعت الكثير من العراقيل أمامهم وحاربتهم من دون قدرة على لجم حضورهم وانتشارهم.

إنهم أبناء المنصات والبث المباشر والإنتاج المستقل وليسوا أبناء الإذاعة ولجان الاستماع. من هنا قد تكون هجمة النقابة قد ساهمت في تكريس طابع الاستقلالية والتمرد الذي يميزهم، ونقلت العلاقة مع منتجهم من ميل إلى مزاج فني معين لتحولها إلى موقف. اللافت أنه مع التضييق على حفلاتهم وظهورهم الجماهيري في مصر، كانت شهرتهم تتنامى عالميا، وينجحون في اقتحام اهم المسارح العالمية في الوقت الذي تصعب فيه إقامة حفلات لهم في بلدهم.

جماليات الصوت الرديء

ينظر إلى فترة التسعينات غنائيا على أنها المرحلة التي أشاعت الأصوات الغنائية الضعيفة والهشة وعمّمتها كبديل من مرحلة الأصوات العريضة والواثقة، ودافعت عن جمالية التلاشي والذوبان. الجديد الذي أطلقته موجات "الراب" التي نمت بعد انحسار تلك الموجة، يتجاوز ذلك إلى منطقة صادمة تماما، إذ أطلقت جمالية الصوت الرديء الذي لا يمتلك أي مقومات غنائية وأحلّته في صدارة المشهد وجعلته الناطق الرسمي باسم المرحلة.

يتصدر نجوم "الراب" الرائج حاليا بإمكانات صوتية معدومة ومزعجة وعدائية. في السابق وفق مؤلف الكتاب "كان يجب أن تمتلك صوتا جميلا لتحلم بالغناء ومن ثم الحفاظ عليه وتدريبه". انتفاء الحاجة إلى الصوت الجميل واستبداله بالصوت الرديء المناقض لمنطق الغناء، يحتمل الكثير من النقاش حول منطق "الراب"، وإذا كان من المقبول استبدال كتلة تجارب غنائية وموسيقية بخيارات تعادي فكرة الصوت أساسا، فإن نجاح التجربة في تسيد المشهد يفرض قراءة في الأسباب والعناوين.

الصوت الرديء الذي يسود في "الراب" حاجة عامة تستجيب لنزعات التطابق مع أنماط العيش المعاصر وتلتقطها. بطولة النص التي لا تزال قائمة حتى مع الأشكال الجديدة التي تدمجه بالموسيقى الإلكترونية وتدفعه في اتجاه المشهدية الممسرحة والاستعراضية، يمكن أن تجعل النقاش حول الصوت بلا معنى في الأساس.

في الحقيقة، يذهب جل نجوم "الراب" المعروفين في مصر من "الجوكر" إلى "أبيوسف"، و"ويجز"، ومروان بابلو، وشاهين، إلى اعتبار الصوت مدخلا لقراءة الكلام وتقديمه.

 حقق ذلك المنتج الصوتي الرديء تراكمات لافتة في الكم وفي الاستمرار في التصدر مما يفرض التعامل معه كعنوان تعبيري عن هموم أجيال قلقة

الأمر نفسه ينطبق على الفيديو كليبات والظهورات الإعلانية الحافلة بالتحشيد البصري. لا يفقد الكلام المقدم بصوت رديء قدرته على حمل المادة بأسرها بل تتجلى كل العناصر الأخرى للعمل كأنها تلحق به وتترجمه.

رداءة الصوت في هذا المقام تؤدّي دورا جوهريا، فهي رافعة النوع والأساس الذي يبني عليه هويته والتي تجعله جديدا بالكامل ومختلفا بشكل جوهري وصداميا مع التراث الصوتي والغنائي العربي.

من يستمع إلى أي من مشاهير "الراب" في مصر يعثر على رداءة الصوت كقيمة مشتركة وعمومية تجمع بين أصحاب هذا النوع وكأنها عقيدة، ويتجلى هذا الأمر بشكل خاص في نتاج "أبيوسف" الذي نجح في إطلاق أكثر من 400 تراك بصوت يمتاز برداءة لافتة وناتئة.

حقق ذلك المنتج الصوتي الرديء تراكمات لافتة في الكم وفي الاستمرار في التصدر، مما يفرض التعامل معه كعنوان تعبيري عن هموم أجيال قلقة ومتوترة ومحاصرة بأزمات مفتوحة وبسلطات سياسية وثقافية تقفل أبواب التعبير، فباتت تجد في الصوت المشحون بالعدائية والرفض والمعادي للحساسيات الصوتية وأساليب المدارس الغنائية والموسيقية والتعبيرية صوتها الفعلي.

font change

مقالات ذات صلة