باحث لبناني يحاول وضع النقاط على حروف النقد الموسيقي العربي

كتاب "في إثر الغواية" لفادي العبد الله

 Aliaa Abou Khaddour
Aliaa Abou Khaddour

باحث لبناني يحاول وضع النقاط على حروف النقد الموسيقي العربي

الغواية التي يطاردها الباحث الموسيقي فادي العبد الله في كتابه "في إثر الغواية" الصادر حديثا عن دار "الكتب خان" في مصر، لا تدرك لأنها لا تنتهي، ولا تني تتشكل وتتماوج وتهتز. تحديد العلاقة مع الموسيقى عبر وسيط الغواية، ينشئ موقعا يتحول فيه الناظر في شؤونها أقرب إلى ما حدده المزاج الشعبي في تناوله لفكرة الغواية ومنطقها بإحالته على المولع بالشيء المستعد لأن "ينقط بطاقيته" كما تعلن أغنية صباح الشهيرة "الغاوي ينقط بطاقيته" التي استقت عنوانها من مثل يضرب لهواة الشيءيبذلون في سبيله كل غال ونفيس.

مفهوم الغواية في الكتاب يردد أصداء ما شاع من توظيفات شعبية مثل تسمية "حمام الغية" التي تطلق على نوع من الحمام يعمل على إغواء الحمام الشارد وجره إلى مسكنه الخشبي أو الطيني، والذي يطلق عليه اسم "الغية"، وبذلك يرتبط الإغواء بفكرة إغراء ما تشرّد وتاه ومنحه بيتا ومسكنا.

يخترق هذا النزوع كل شغل الكتابعلى امتداد صفحاته التي تجاوزت الـ 400 صفحة من القطع المتوسط بالتضاد مع المعنى السلبي والكلاسيكي والمعجمي والأيديولوجي المستقر للغواية بوصفها ضلالا وانحرافا، ليجعلها ولعا وعناية بالتفاصيل واستعدادا لملاحقتها ورصدها بكل هوى القلب وأحكام العقل.

تشابك موقع الباحث مع موقع المريد والعاشق ينتج مادة ثرية غنية وإشكالية، عبر جهد امتد على مساحة ربع قرن

تشابك موقع الباحث مع موقع المريد والعاشق ينتج مادة ثرية غنية وإشكالية، عبر جهد امتد على مساحة ربع قرن من الكتابة في الموسيقى والغناء ما استقر في العام من أسطرة للموسيقى ومحاولات إنطاقها معاني محددة، كما يناقش مفاهيم الأصالة والمؤثرات الصانعة لأمزجة موسيقية معينة والبنى الاجتماعية والتاريخية والسياسية التي مهدت لظهور بعض المشاريع الموسيقية وخصوصياتها، ويحلل ويدافع عن المرح ويكشف مزالق النقد الموسيقي مدافعا عن ضرورة قيام نقد يرد الموسيقى إلى الموسيقى ويقرأها انطلاقا من ذاتها واحتمالاتها ومجالها وحسب.

الأسطرة وحجب الإنجازات

منذ الفصل الأول، "إنصاف الأساطير"، يبدو واضحا كما يؤكد العبد الله لـ"المجلة": "أن هنالك اعتراضا على فكرة 'الأسطورة' نفسها، على عدم دقتها التاريخية وأيضا على تغييبها للمنجز الموسيقي الخاص والمحدد لهؤلاء 'الأساطير'. هكذا يوصلني العمل على سيد درويش وأم كلثوم والسنباطي (في مصر) والرحابنة وسواهم (في لبنان، الفصل الثاني) إلى السؤال عن النسيان ودوره في اختراع الأصالة وتعزيز هويات دول مستحدثة في القرن الماضي وأسرنا في ثنائيات متضادة غير حقيقية (الارتجال والتأليف، الأصالة والتجديد... الخ) ونسيان احتمالات أخرى كانت محتملة أو لا تزال في موسيقانا (الفصل الخامس) بل ومحاربة أشكال الاستمتاع الحقيقي بالموسيقى بما في ذلك كونها أحيانا مصدرا للبهجة والمرح بكل بساطة (الفصل الثالث). شيئا فشيئا يتبدى أيضا الدور الذي لعبه ما سُمّي بالنقد الموسيقي آنذاك في ترسيخ هذه الأوهام وحرف الأنظار عن الموسيقى لصالح الأيديولوجيات والتعصب القومي، وتحويل النقد من عملية إبداعية إلى توزيع شهادات ودرجات في امتحانات الأصالة وفي تحويل النغم إلى خادم وضيع للكلام والمعاني واللغة. هنا أيضا لا ينفك 'نقد النقد' (الفصل الرابع) الذي مارسته وحاولت به كشف هذه الأوهام والكتابات المغلوطة وتاليا إزاحة الستارة التي تحجب عنا إمكان التواصل مع الموسيقى في ذاتها، عن الطرح النقدي الذي حاولته سواء في مسألة نفي تبعية الموسيقى للغة والتعبير، والتدقيق في 'لحظة الطرب' وتشكلها وأساليب الوصول إليها، وكيف يتجلى كل ذلك في فرادة موسيقى قديمة أصبحت بعيدة ومهجورة (الفصل السادس)".

يشرح الكاتب العلاقة بين تناول شخصيات فنية وبين البناء النظري والمفاهيمي والنقدي: "لست أحسب المسافة بعيدة بين المقالات التي تتناول شخصيات مشهورة وتلك التي تتناول نظريات ومفاهيم. عندما تسعى إلى كتابة ذات مغزى يتجاوز التأريخ والحكايات لا بد من تنقيب فكري يسمح بالعثور على مداخل لتناول هذه الشخصيات. هذه عملية مستمرة ودائرية في رأيي. من خلال التعمق في تناول أشخاص وأنماط فنية نحبها، يصير من الضروري بناء مفاهيم لإغناء هذه التناول، وبالعكس سيسمح التفكير النظري بالعودة إلى تناول الحالات المحددة من زوايا مختلفة. وأظن أن هذه العملية الدائرية هي ما كان يقود كتابتي عن الموسيقى على مدى ربع قرن وأكثر".

سيد درويش: سيرة مختلقة

أغرق سيد درويش في سيرة متوهمة تجعله فنان الشعب ورائد الأصالة ومخلص الغناء العربي من عثمانيته وتحكي قصصا خيالية عن مظلومية وإنكار بينما يعدّ أكثر فنان احتفي به سواء في العهد الملكي أو في العهود اللاحقة.

سيّد درويش

في أعمال الرجل نزعة الى التجديد، وقلة إنتاج ضمن القوالب الكلاسيكية، وعناية بالتأليف للمسرح والتلحين لأصوات عادية لا تملك قدرات خارقة، وكل ذلك نابع من تراكم سلسلة تأثيرات يحضر فيها الكلاسيكي والتراثي مهضوما ومستوعبا وممتزجا مع عناصر عالمية وأوروبية لناحية التفكير والبناء، فسيد درويش كان مطلعا على الفنون الموسيقية الغربية وطامحا لدراستها بشكل متعمق.

ترتبط تجربة سيد درويش بثلاثة عناصر هي طبيعة جملته التي ابتعدت عن آلية بناء الجمل المطولة مثل داود حسني وغيره، وتطور المسرح الغنائي إلى مجال السينما، واختراع الذات والأنا في الغناء، مما أتاح الفرصة لتركيب أكثر تعقيدا وعمقا للأغاني الفولكلورية لا تتطلب أصواتا عريضة لتقديمها.

حاولت كشف هذه الأوهام والكتابات المغلوطة وتاليا إزاحة الستارة التي تحجب عنا إمكان التواصل مع الموسيقى في ذاتها

فادي العبد الله

نما وعي سيد درويش الموسيقي في البيئة الإسكندرانية المنفتحة على جملة من المؤثرات والموسيقات في لحظة ظهور صوت الفرد المعبر عن أناه، وتكمن أهميته في منحه أدوارا غير تقليدية للموروث، مما شكل البنى الأساسية للجمل الموسيقية التي جاءت بعده. يمكن وصفه بأنه صانع استماعنا المعاصر، إذ بات الاستماع الى ما قبله يتطلب الجهد والتدريب، بينما الاستماع الى ما بعده يحيل عليه. ويمكن تلمّس أصداء مشروعه القائم على تبسيط الخطاب النغمي في أعمال فريد الأطرش ومحمد فوزي والرحابنة ومحمد الموجي ومحمد عبد الوهاب.

أم كلثوم الآنسة والشيخة والمقرئة

يكشف التقصي عن ألقاب ظهرت في مراسلات أم كلثوم حين كانت لا تزال في قريتها طماي الزهايرة مثل "مقرئة السيرة النبوية الشريفة" و"الشيخة"، وكانت تغني أغاني الذكور الصعبة استجابة لذلك المزاج الريفي، الذي يغاير التجربة القاهرية التي انتقلت فيها إلى غناء يختلف في طبيعته وتكوينه، ولا تزال الذاكرة تحتفظ منه بأغنية "الخلاعة والدلاعة مذهبي" التي أثارت غضب جمهورها.

GettyImages
أم كلثوم، باريس، نوفمبر 1967

كانت أم كلثوم ذلك كله قبل أن تصبح "كوكب الشرق" وتتربع على عرش الغناء إثر اجتماع سلسلة ظروف وتحولات، مثل لقائها الشاعر أحمد رامي والملحن محمد القصبجي، وتقديمها أغنيات تجمع بين الطابع الشعري الرومانسي والمشروع التلحيني التجديدي، في ظل نمو سوق أسطوانات زهيدة الثمن، وانتشار واسع للغرامافون، وشبكة مستمعين تتشكل من ذلك الجمهور الريفي الذي عرفها شيخة وآنسة ومقرئة، ومن ذلك الذي تخاطبه انطلاقا من شبكة علاقاتها الممتدة من الريف إلى الأريستوقراطية القاهرية. بذلك كانت أم كلثوم بنت عصرها وزمانها التي استفادت من انهيار المسرح الغنائي الذي لم تشارك فيه إطلاقا وأفول نجم مطرباته اللواتي كن يملكن خامات صوتية باهرة، ويقدمن غناء مسرحيا تفوق عليه المزاج الرومانسي والدرامي الذي كانت تقدمه، والذي ساهم لاحقا بعد سلسلة من التجارب في تكريسها على قمة الغناء العربي.

بحثا عن بليغ حمدي

سقط الموسيقار بليغ حمدي في صورة مصطنعة له تصفه بأنه ملحن أم كلثوم الشاب، كما وقع في اعتباره "أمل مصر" في الموسيقى في لقب تبناه عبد الحليم حافظ وذاع وانتشر. يظهر أمام الصور المصطنعة عصيا على التصنيف والقراءة وغير قادر على الصمود أمام المراجعة والمقارنة. فكونه قد لحن لأم كلثوم في عشريناته، لا يجعل منه ملحنا شابا بالعودة إلى تجارب سيد درويش الذي قدم منجزا ضخما من الأعمال في مرحلة الشباب، وكذلك بالمقارنة بعبد الوهاب الذي قدم حصيلة ضخمة من الألحان له ولغيره في الثلاثين والأربعين من عمره. كذلك فإن لقب "أمل مصر" في الموسيقى ينطوي بنفسه على عناصر لا يمكن ردها إلى شغل بليغ نفسه. فالرجل بدأ بالنسج على منوال زكريا أحمد، كما أن ألحانه، وفق ما يصفها الكاتب، مفككة في غالبها ويندر أن نحفظ له ما يتجاوز المطلع، وإذا كان قد عرف شهرة في غناء كبار النجوم مثل أم كلثوم وعبد الحليم ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد من ألحانه، فإنه كذلك قدم مئات الألحان التي لا يذكرها أحد مثل ألحانه لجلال حمدي وتوفيق فريد.

Alamy
بليغ حمدي

يقع الظلم في المقارنة بفريد الأطرش وعبد الوهاب لأنه كان مقتصرا على تلحين الأغاني العاطفية وحسب، ولم يكن مطربا ولم يقدم أفلاما سينمائية، وكذلك فإن شغله اللحني كان ضيقا ولا يشمل الأنواع التي قاربها فريد الأطرش، وعبد الوهاب، مثل القصائد والأوبريت والدويتو وغيرها. ذلك الظلم أعاق النظر إلى التجربة في واقعها الذي ولد من مزاج الستينات والسبعينات من القرن الماضي التي أطلقت روح البوهيمية في الفن والحياة ويمكن استعمالها لوصف منطق حياة بليغ وطريقة تفكيره وعمله التي جعلته، وفق صاحب "في إثر الغواية" لا يتجاوز الشذرات، ويكاد يقتصر على جمل بديعة مثل الجملة التي عزفها سمير سرور على الساكسوفون في أغنية "فات الميعاد". ما يبقى من بليغ هو ذلك التفكير الشذري الذي يمكن البناء عليه وتطويره. الظلم الذي لحق ببليغ يكمن في حصر تجربته في الجانب التقني، ففي نهاية المطاف لا مفر من الاعتراف بأن منحى شغله خلق صوتا مختلفا عن الصوت المألوف في الأغنية الشرقية في زمنه.

الرحابنة والهوية الموسيقية اللبنانية

كانت بلاد الشام في اللحظة التي أطلق فيها الرحابنة مشروع إنشاء الهوية الموسيقية اللبنانية تبدي ما خلا حلب رغبة ملحة في مواجهة سطوة الغناء المصري والسيطرة المصرية على سوق الأسطوانات، ففي كل المنطقة من لبنان إلى فلسطين ودمشق كان الغناء المصري طاغيا الى درجة أن مغنيا وعازف بزق بيروتيا مثل محيي الدين بعيون كان يقدمه.

لم تفلح محاولات التأسيس المترددة الأولى على يد سامي الصيداوي ونقولا المتني التي حاولت وضع اللهجة والمزاج البدويين في مواجهة موسيقى وغناء مصر، في خلق مشروع متكامل الأركان. جاءت تجربة الأخوين رحباني في مناخ كان يتلهف لاستقبالها واحتضانها، وعملت على وضع الموروث الجبلي والقروي والزجلي في إطار مديني جديد، ومزجه بمؤثرات غربية ضمن منطق يقوم على ضبط أداء العازفين وحناجر المغنين والعناية بالتوزيع الموسيقي.

كانت أم كلثوم بنت عصرها وزمانها التي استفادت من انهيار المسرح الغنائي الذي لم تشارك فيه إطلاقا

عالج الرحابنة أنواعا موسيقية مختلفة من القصائد والموشحات انطلاقا من ذلك النهج ونجحوا في خلق كم هائل من الأنماط الغنائية التي يمكن استعادتها والبناء عليها، ونجحوا في الاستقلال عن موسيقات القاهرة وبغداد وإسطنبول بالابتعاد عن مصادرها القائمة على التجويد والتواشيح الإسلامية واستلهام الموسيقى الكنسية، ويسجل لهما النجاح في ضبط ذلك المشروع وتعميق بناه التأسيسية، ولكن لم يتم الأمر من دون خسائر تتمثل في التضحية بـ"الطرب الرحباني" لأن نظام الضبط والإحكام يغلق باب الحرية الصانعة للطرب.

GettyImages
زياد الرحباني

أدخل الرحابنة انساقا جمالية شعرية أكثر رحابة وتحررا مما كانت قد كرسته الشعرية المصرية. رمزية سعيد عقل وضعت في مواجهة رومانسية أحمد رامي التي بقيت مرتبطة بالأطر التقليدية للشعر العربي، وكذلك فإن التعاون مع كبار شعراء العامية اللبنانية نقل تلك الروح إلى الكلام المغنى وبث فيه روحا جديدة مستقاة من التأثر بقوة الكلمة في المجال الديني. فإذا كان الكلام يبدو في التجارب المصرية على هامش الصوت واللحن، فإن التجربة الرحبانية جعلته يحتل موقعا مميزا في المتن.

المرح حاجة ومشروعا

ترتبط موسيقى المرح والضحك في الذاكرة بما أرساه حميد الشاعري في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين. لا يمكن وفق تحليل فادي العبد الله رد ذلك إلى التوزيع الموسيقي الذي يرجح أن غيره هو من كان يقوم به، ولكن في مفهوم "المنتج" المسؤول عن الصوت في حالته النهائية بعد الميكساج. هذا البعد يميز الشاعري ويمكن ملاحظته من خلال تشابه الصوت في كل أعماله.

وفي ما يخص طبيعة المشروع يسجل له أن لا أحد قبله اتخذ بث المرح والضحك غاية في حد ذاتها مستبعدا كل ما ترسخ على مدى عقود من نزعات رومانسية وسخرية نقدية سياسية. مثل هذا المزاج لم يكن موجودا في الغناء العربي عموما وفي الغناء اللبناني خصوصا الذي كان قد سبقه في استعمال الإيقاعات والآلات الغربية لكنه لم يخلق تجربة متكاملة تتبنى غاياته نفسها.

أطلق في فضاء الغناء العربي مجموعة أغنيات لا تتطلب قدرات كبيرة انتشرت بأصوات حنان ومحمد فؤاد ومصطفى قمر وهشام عباس وسيمون وإيهاب توفيق وحكيم ومحمد محيي وعلي حميدة وعمرو دياب، ونجح في إزاحة نجوم الاحتفالات الرسمية مثل محمد ثروت وعلي الحجار ومحمد الحلو من الواجهة بعدما بات معيار الخامة الصوتية غير مهم.

 نجح الرحابنة في الاستقلال عن موسيقات القاهرة وبغداد وإسطنبول بالابتعاد عن مصادرها القائمة على التجويد والتواشيح الإسلامية

تلك الأصوات التي كان أصحابها يظهرون في فيديو كليبات تخالف المنطق السائد والجامد وتركّب قصصا قد تغاير ما يقوله الكلام، كانت تجد قوتها في التلاشي والذوبان الذي يتيح للمستمع الحلول مكانها، وترتبط بنسب مع الأصوات الصانعة للحنين في الذاكرة مثل عبد الحليم ونجاة وفيروز، فلا حنين اليوم في استعادة أحمد عدوية، لأن شخصيته تحتل صوته القوي الواضح والواثق، بينما تصنع تجربة الشاعري حنينا ورغبة في استعادتها لأنها كانت في خامتها الضعيفة تلاحق الرقة.

الحنين يصنع من موقع الفرد في تلك التجربة التي تجعله واحدا من الشلة وشريكا في إنتاج تجربتها وموسيقاها وفي صناعة غاية المرح والضحك.

مآزق النقد

يفترض النقد العربي عصرا ذهبيا ويثبته في المرحلة الممتدة بين عامي 1925 و1975 انطلاقا من محورية عبد الوهاب وأم كلثوم، ويضع نفسه في حالة انقطاع عما جاء قبله وانعدام التأثير في ما بعده. حتى درس تأثير دخول الأسطوانات على الساحة يقتصر على ما كان ينتج في القاهرة وبيروت، ولا يلتفت إلى تجارب العراق والخليج والمغرب والسودان.

تناول تجربة ناقد مثل الياس سحاب، يبرز أثر الأيديولوجيا السياسية في تفكيك النظرة النقدية إلى الموسيقى، إذ يرد كل تجارب بلاد الشام إلى مرجعية الموسيقى المصرية التي كانت قد فرضت نفسها بقوة الإنتاج السينمائي والإذاعي، وعملت على إقصاء كل التجارب التي تغايرها ولم تقبل إلا من خضع لشروطها مثل صباح ونور الهدى ووردة، في حين رفضت كل صوت يعكس بيئته المحلية مثل وديع الصافي.

يدرج سحّاب صوت فيروز الذي اختير ليكون ناطقا بمشروع الأغنية اللبنانية وفق التصور الرحباني، في ما يسميه المدرسة الوهابية الأسمهانية، واصفا أداءها بأنه يضم مفاهيم الرقة والشفافية والهمس. يبدو هذا الرأي مستهجنا في نظر الكاتب الذي يسأل "ماذا تعني بالضبط الشفافية في الغناء؟ أما الهمس فهل في أسمهان مثال له يضرب؟ ثم أن إقران عبد الوهاب بأسمهان في الأسلوب غريب بالنظر الى مجرى غنائها العام وتدريبها وملحنيها الأساسيين (داود حسني والقصبجي)".

كل ذلك يبين مآزق النقد التي يشكل نقدها اعتراضا على منطق النظر في الموسيقى وإشكالياتها، وهو هدف يستغرق كل الكتاب. يصرح العبد الله لـ"المجلة" معتبرا "أن الهم النقدي يشكل هدف الكتاب وغايته، لم تكتب هذه الفصول جميعا بتسلسل زمني أو وفق خطة مسبقة، بل كانت نسيجا تغزله السنون ويمسك بعضه بعضا ويلونه. لكن الخيط الخلفي الناظم لهذا النسيج جميعا كان في ظني البحث عن موقع صادق للنقد الموسيقي، أي موقع يحفظ استقلالية الموسيقى (عن الأيديولوجيات والقوميات وسطوة اللغات) وكرامة النقد كعمل خلّاق يسمح بالنظر إلى الموسيقى بوصفها عملية معقدة تتداخل فيها عوامل المجتمع والتقنية والسياسات والأمكنة والاقتصاد، لكنها تظل في الوقت نفسه عملية فردية وذائقة لا تخضع إلا إلى تجربتها الذاتية. هذا يجعل النقد يتفادى السقوط في الحنين وفي الطغيان، كلّ طغيان، وفي عبادة التطور أو التراث. يجعله أكثر قدرة على الدفاع عما لا ينبغي التفريط به من جمال، دون أن يعمى عن ضرورة الجديد في الموسيقى وحتميته. من مثل هذا الموقع يجب على النقد أن يدلّ على الجمال، وأن يعين عليه، أو على الأقل أن يقول إن متعة الموسيقى تحتاج إلى أن نستحقها، بالإنصات والتركيز والتفكر في وجودها الصوتي نفسه ومن خلال نسيجه نرى العالم الأكبر الذي أنتجها".                                 

font change

مقالات ذات صلة