مئوية عاصي الرحباني: متحف الحنين

Andrei Cojocaru
Andrei Cojocaru

مئوية عاصي الرحباني: متحف الحنين

بيروت: قبل مئة سنة، في مثل هذا اليوم 4 مايو/ أيار من العام 1923، ولد مؤسس الأغنية اللبنانية الحديثة ورائدها بصوت المغنية فيروز في مطلع خمسينات القرن العشرين: عاصي الرحباني، الذي ولد أخوه الأصغر وتوأمه الفني منصور سنة 1925، في قرية أنطلياس الساحلية على مسافة 8 كلم شمال بيروت.

نجومية باهرة وأليمة

الركن الثالث في نواة "المؤسسة الفنية الرحبانية - الفيروزية" الرائدة في الخمسينات، أي نهاد حداد التي سميت فيروز، تتضارب الروايات في تعيين مكان ولادتها سنة 1935. وكذلك الروايات عن أصل والدها وديع حداد، قبل وفادته إلى لبنان:

- بعض الروايات الصحافية تقول إنه سرياني كاثوليكي من قرية فلسطينية في جوار الناصرة.

- أخرى تعيده إلى مدينة حلب السورية، أو إلى المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا.

- ثالثة تعرّج به إلى بلاد حوران جنوب سوريا.

- رابعة تقول إنه أرمني هرب من مجازر الأتراك بالأرمن في الحرب العالمية الأولى وبعدها.

لكنّ الأكيد أن الرجل حلَّ في الديار اللبنانية مهاجرا، شأن أفراد وعائلات وجماعات مشرقية مسيحية كثيرة غالبا ما توافدت إلى لبنان وبيروت، حيث وجدت "ملاذا آمنا"، وفق "الأدبيات اللبنانية". ومنها كتابات ميشال شيحا (1891- 1954) الآشوري الكلداني العراقي الأصل، قبل وفادة والديه إلى العاصمة اللبنانية، ومشاركته في وضع أسس دستور دولة لبنان الحديثة.

تزوج وديع حداد من اللبنانية المارونية ليزا البستاني، ابنة قرية الدّبيّة على ساحل جبل لبنان الجنوبي. وتتضارب الروايات حول مكان إقامة الزوجين وولادة ابنتهما البكر نهاد. الأكيد أن لأسرة فيروز بيتا عتيقا خربا في الدبيّة، يذكِّر بتلك الأيام الخوالي للريف اللبناني و"حضارته" الزائلة المندثرة. والأرجح أن المخرج السينمائي المصري واللبناني الأصل يوسف شاهين (1926- 2008) استمد من بيوت الدبية ديكور فيلم "بياع الخواتم" الرحباني - الفيروزي الذي أخرجه وعُرض سنة 1964. وكانت الطفلة والصبية نهاد حداد قد عاشت طفولتها وصباها في غرفة متواضعة من منزل تراثي الطراز المعماري في محلة زقاق البلاط البيروتية، حيث تعلمت في مدرسة رسمية للبنات. وكانت منشدة في جوقتها التي أنشأها مدرّس الموسيقى البيروتي محمد فليفل (1899- 1985) الذي أدخلها منشدة كورس في الإذاعة اللبنانية أواخر الأربعينات. وفي الإذاعة عينها التقت الشاب عاصي الرحباني الذي كان يعمل عازفا وملحنا فيها.

موقع رائج
العروسان عاصي وفيروز

وكان والد فيروز عامل مطبعة متواضعا. وفي ذاك المنزل التراثي العتيق توفي قبيل حروب لبنان الأهلية (1975). وتحدثت الصحف آنذاك عن تخزينه في منزل وحدته المهجور أكداسا من مجلات فنية نشرت أخبارا وتحقيقات عن "أمجاد" ابنته. كأنه أدمن جمعها في عزلته وانقطاعه وشيخوخته كمقتنيات متحف شخصي يكنّي عن اعتزازه الأليم بابنته. بالهالة النجومية الجماهيرية الباهرة والمعبودة التي اكتنفت شخصيتها وصورها، فجعلتها غريبة عنه غربة طبقية واجتماعية وثقافية أليمة. وحتى اليوم لم تتحقق القرارات والدعوات الكثيرة التي أرادت تحويل ذاك المنزل التراثي العتيق المهمل في زقاق البلاط متحفا فنيا "لأمجاد" فيروز: "سفيرة لبنان إلى النجوم" والذي هوى أخيرا من سموات الأحلام والأوهام والحنين إلى قيعان البؤس والخواء والشقاء.

على الرغم من أن عاصي يكبر منصورا بسنتين، عاش الأخوان حياتهما كلها منذ الطفولة كتوأمين في كنف الطبيعة والمجتمع الريفيين، الساحليين والجرديين اللذين طبعا بقوة ذاكرتهما وحساسيتهما ومخيلتهما

طفولة الساحل والجرد

عاش الأخوان عاصي ومنصور الرحباني طفولتهما في أنطلياس الساحلية التي نزح إليها أهل والدهما، حنا عاصي، من قرية رحبة الجردية الشمالية، فحملوا اسمها كنية عائلية: آل رحباني. ومن أنطلياس هرب حنا من مطاردة العساكر العثمانيين قبل الحرب العالمية الأولى (1914- 1918). لذا يسميه ابنه منصور "طيّاحا"، أي متنقلا بلا إقامة ثابتة في شبابه. وهو سليل عائلة مسيحية أرثوذوكسية، ومن مواليد سنة 1882 في طنطا المصرية التي هاجر إليها والده، شأن كثرة من اللبنانيين والشوام. وعاد حنا الرحباني إلى أنطلياس بعد الحرب الأولى، فتزوج من صبية مارونية هي سعدى صعب التي تصغره بـ 40 سنة، ووفدت عائلتها إلى القرية الساحلية من قرية ضهور الشوير على سفوح جبل صنين، حسب الرواية الرحبانية.

على الرغم من أن عاصي يكبر منصورا بسنتين، عاش الأخوان حياتهما كلها منذ الطفولة كتوأمين في كنف الطبيعة والمجتمع الريفيين، الساحليين والجرديين اللذين طبعا بقوة ذاكرتهما وحساسيتهما ومخيلتهما. وكان والدهما - المتطبع بطبع "قبضاي" شعبي أو "شيخ شباب" ريفي - قد أنشا في قريته الساحلية مقهى قرب نبعها المسمى باسمها "فوّار أنطلياس". وجعل المقهى ملتقى أمثاله وصحبه من محبي الطرب والقبضايات، ولـ "العائلات المحترمة" التي كان عليها في "بسطها (سرورها) وانشراحها" أن "تتقيّد بأصول اللياقة والأخلاق الحميدة"، حسبما كتب على لافتة علّقها على مدخل المقهى، وفق شهادة منصور الرحباني.

عن عازفي آلة البزق - أمثال محي الدين أبو عيون وزكور جمّال البيروتيين اللذين كانا يترددان إلى "مقهى الفوّار"، فيعزفان ويغنيان ويتراويان مع صاحبه حكايات عنترة العبسي والزير سالم وسيف بن ذي يزن - ورث عاصي ومنصور آلتي بزق كانت أنغام أوتارهما تملأ المقهى وسمع الأخوين، مختلطة بأصوات القبضايات وحكايات يتراوونها عن عتماتِ ليالٍ قبل نور الكهرباء: أطلقتُ النار على فلانٍ. جنود الأتراك أطلقوا النار علينا، فهربنا في الجرد. وكانت أغاني سيد درويش وأم كلثوم وأبو العلا محمد ومحمد عبدالوهاب تتخلل سهرات المقهى الطويلة. والد الأخوين كان يخاف عليهما من رواد مقهاه ومن نفسه ومهنته وطبعه. في غرفة سطحها قرميد تعلو المقهى عزلهما فراحا يمضيان أوقاتا طويلة مستوحدين مستمعين ومشاهدين. وروى منصور أن والده حطم مرة طاولات في المقهى ورماها في النهر، لأن دبورا لسع عاصي أثناء نزهتهما في الجوار القريب.

ومن عزلتهما في الغرفة العالية، كان الأخوان يسترقان النظر إلى سيدات يمشين نحو المقهى بعد خروجهن من السيارات. ولم تكفّ مخيلة عاصي في تلك العزلات عن اختراع حكايات عن أناس بلا أعمار، فيرويها في مدرسة الراهبات التي يذهب إليها مع منصور يرافقهما أحد عمال المقهى.

موقع رائج
عاصي الرحباني عازفا

وانقلبت حال العائلة من بعض اليسر إلى العوز. فباع حنا الرحباني مقهاه وانتقل بعائلته إلى "المنيبيع" على سفح صنين قرب ضهور الشوير. هناك افتتح مقهى صغيرا، حينما صارت العائلة تتألف، إلى عاصي ومنصور، من سلوى وناديا والياس وإلهام، إضافة إلى جدتهم لأمهم التي كانت مشاكسة، قوية الشكيمة، جردية الطبع، و"ضرّيبة عصا" محترفة في المشاجرات. وهي من بثّت في حفيديها روح الفولكلور الجبلي وتراثه: حكايات عن الليل والجن والمكاريين والحطابين والرعاة والنواطير، ومشاجرات الجبليين على تقاسم مياه الري، والمواويل والعتابا والزجل والقرادي. وبعدما "كنا نمضي ساعات في عزلات مقهى انطلياس - روى منصور - متأملين في صمت حركة النمل الدؤوبة، انطلقنا في الشوير وعينطورة والمنيبيع برفقة رعاة ماعز وحطابين وعاملين في مقالع الحجارة والمكاريين وبغالهم. وتعلمنا سنة أو اثنتين في إحدى مدارس بكفيا، حيث أبدى المدرّس إعجابه بمواضيع الإنشاء العربية التي كان يكتبها عاصي. وحتى أواخر الثلاثينات استمرت العائلة على هذه الحال، حتى باع حنا الرحباني مقهاه في "المنيبيع" وعاد إلى أنطلياس، فافتتح في ساحتها دكانا صغيرة.

موقع رائج
فيروز وعاصي ومنصور الرحباني

النادي المحلي والإذاعة

في كنيسة أنطلياس ونادي شبانها وشاباتها تعلم الأخوان عزف الموسيقى على راهب فرنسي. والأب بولس الأشقر أسس في النادي جوقة فنية، فانتسبا إليها وشاركا في عروض مسرحية بلدية. كانا مولعين بألعاب السيرك والسحر والتنويم المغناطيسي وأخبار "الدكتور داهش" الغرائبية. ولما ساءت أحوال عائلتهما المادية، فكر منصور في دخول سلك الرهبنة، لكنه عُيّن سنة 1943 شرطيا في بيروت. أما عاصي فعُيّن  شرطيا بلديا في انطلياس، وعمل عازف كمان في ملاهي بيروت الليلية. وعمل الأخوان عازفين في إذاعة بيروت وإذاعة "الشرق الأدنى" التي انتقلت من حيفا إلى قبرص عقب "نكبة" 1948 الفلسطينية التي هجّرت كثرة من العازفين الفلسطينيين، منهم صبري الشريف وكامل قسطندي اللذان أسسا لـ "الشرق الأدنى" مكتبا فنيا في بيروت. لكن هذه الإذاعة توقفت عن العمل أثناء حرب السويس سنة 1956، فاستقطبت إذاعة بيروت معظم العاملين فيها: صبري الشريف المتزوج من مصرية حاز الجنسية اللبنانية، وصار أحد أركان "المؤسسة الرحبانية - الفيروزية". حليم الرومي الفلسطيني (والد المغنية ماجدة الرومي) تزوّج من لبنانية وعمل طوال حياته في التلحين للإذاعة اللبنانية. وهو من أطلق على نهاد حداد اسمها الفني فيروز وعرّفها بعاصي الرحباني في الإذاعة.

لحّن الرحبانيان أغاني باللهجة الجبلية اللبنانية، فلم تقبل مغنيات الإذاعة أداءها، لعدم ملاءمتها الذوق الغنائي السائد آنذاك. فؤاد قاسم، أحد موظفي الإذاعة المقرب من رئيس الحكومة رياض الصلح (1894- 1952) كان شغوفا بتلك اللهجة في الغناء، فأراد إدخالها في البرامج الإذاعية. استحضر الرحبانيان شقيقتهما سلوى لأدائها، وأطلقا على اختهما اسما فنيا (نجوى). لكنها اعتزلت الغناء فور زواجها عبدالله الخوري الذي لقّب نفسه بـ"عبدالله الأخطل" نسجا على منوال والده الشاعر بشارة الخوري الشهير بـ"الأخطل الصغير".

كتب الرحبانيان عالم الريف الهارب أو الزائل، كأنهما يرسمان مشاهد بصرية أيقونية ثابتة في الزمن، خالية من التحولات والتناقضات الدينامية القلقة والمضطربة في حياة البشر وعلاقاتهم

الراديو والتمدن

لم يكن أحد يحدس أن يؤدي لقاء منشدة الكورس الخجولة المتواضعة (فيروز) بعازف الكمان العصامي عاصي الرحباني في الإذاعة اللبنانية وزواجهما سنة 1951، إلى ولادة ظاهرة - مؤسسة فنية تصدّرت الذائقة الغنائية اللبنانية والعربية الجديدة طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

نجم ذلك عن عوامل عدة متداخلة:

تزامن إطلاق الأخوين رحباني أعمالهما الغنائية في صوت فيروز مع توسيع البث الإذاعي، وشيوع جهاز الراديو في بيئات وفئات اجتماعية واسعة في لبنان والبلدان العربية. ثم ظهرت الأسطوانات المدمجة، وجهاز راديو الـ"ترانزيستور" الصغير المحمول، قبل انتشار أشرطة الـ"كاسيت" الصغيرة المسجلة.

ترافق هذا مع حراك وتحولات اجتماعية - سياسية واسعة عاصفة، أبرزها: تكاثر الانتقال من الأرياف إلى المدن. اتساع قاعدة التعليم. نكبة فلسطين، وظهور أحزاب وحزبيات حديثة (السوري القومي الاجتماعي، القوميون العرب، البعث، والعروبة الجماهيربة الناصرية). تزايد الطلب على الترقي الاجتماعي. رسوخ سفور النساء وخروج مئات منهن إلى العمل والحياة العامة. ونجم عن هذه الظواهر الجديدة بروز "الشخصية الذاتية" والميل إلى الفردية والاختلاط بين الجنسين.

الجديد الذي أتت به أغنية الرحبانيين الفيروزية، وكان ملائما لتلك التحولات، هو لون من الغناء المختلف عن اللون السائد في الربع الثاني من القرن العشرين في لبنان والبلدان العربية. حسب عاصي ومنصور "كانت كلمات الأغاني تقريرية مباشرة ومدارها: العزول، الحسود، الوصال، الهجر، البكاء، والندب... من دون أن تقل مدة الأغنية عن نصف الساعة". ويقول منصور: "بدأنا حياتنا الفنية معتبرين أن ليس لدينا موسيقى ولا كلمات أغنية، وعلينا البدء من الصفر. فرحنا ندمج ونمزج لإيجاد لون جديد من الغناء". لقد مزجا كل أنواع الموسيقى التي سمعاها: من إيقاعات الفولكلور المحلي. إلى الموسيقى الشعبية العفوية. إلى التراتيل الكنسية. وصولا إلى الموسيقى الأوروبية التي كانت تصل إما مسجّلة على أسطوانات مدمجة، وإما عبر الإذاعات. والأرجح أن هذه الأخيرة هي المصدر الغالب.

موقع رائج
منصور وعاصي الرحباني وبينهما فيروز

يجمع المتابعون على أن الرحبانيين أعادا طوال حياتهما الفنية توزيع مئات الأغاني الأجنبية، ووضعا لها كلاما عربيا بالمحكية اللبنانية. وصبري الشريف الذي وضع إمكانات إذاعة "الشرق الأدنى" في تصرفهما، كان يبحث عن العازفين المهرة في حانات الزيتونة البيروتية التي يعمل فيها كثرة من العازفين الأجانب. فأغانٍ مثل "البنت الشلبية"، "يا مايلة عالغصون"، كان المستمعون المحليون يحسبون أن موسيقاها مستمدة من التراث المحلي. لكنها في الحقيقة كانت ألحان أغانٍ أجنبية لا تتجاوز مدة الواحدة منها الدقائق العشر. وعلى هذا المنوال وزع الرحبانيان مئات الألحان من الأغاني الأجنبية توزيعا جديدا، ووضعا لها كلاما عربيا باللهجة اللبنانية.

في معاكستها الذوق الفني السائد، بدأت الظاهرة الرحبانية - الفيروزية تثير السخط في بيروت ودمشق، بعدما سهّل مدير إذاعة دمشق أحمد العسة وكذلك نشأت التغلبي بثَّ أغانيهما من الإذاعة الدمشقية. وكان على رأس موجة السخط المجمع اللغوي العلمي العربي في دمشق، فاعتبر أن تلك الأغاني "تشوه اللغة العربية والذوق العام".

 

صور أيقونية للريف

لصوت فيروز "الفردي" والمتفرد، الهادئ والخافت، الطالع من الظلال والصدى صنع الرحبانيان أغانيهما. بل من صوتها استمدا مناخات تلك الأغاني. وكان مرجع كلماتها الاجتماعي طبيعة الريف وعالمه وتراثه: من الزجل والمعنى والموال والميجنا والعتابا والحكايات الشعبية في جبل لبنان وساحله. لكنهما استعادا ذلك التراث الشعبي مصقولا بذائقة شعرية جديدة مستمدة من "ثقافة" المتعلمين تعليما محدثا، وتخاطبهم على مثال جمعي، شخصي وفردي، في أن معا. وهي ذائقة ريفيّة متمدنة، وحوّلت عالم الريف وطبيعته وصوره أيقونة جمالية ومتحفا ماديا يبعثان حنينا جماعيا وفرديا، بريئا وساكنا وهادئا، للريف كما يرسمه الفنانون التشكيليون بألوان مائية حالمة.

والحق أن عالم هذه الأغاني كان جديدا وغير مسبوق في الغناء العربي في مخاطبته الحواس، وخاصة حاسة البصر. وهو عالم شغف وحنين رومنطيقيين جعلهما الرحبانيان مادة عبارتهما الشعرية في أعمالهما الغنائية والمسرحية الفولكلورية. فمشاهد الطبيعة الريفية اللبنانية في ذاكرة أهلها المبتعدين من الريف إلى المدينة التي انتقلت إليها بعض طقوس الريف وعلاقاته، هي المادة الأولى للأغنية الرحبانية - الفيروزية. وهذا ما حوّله الأخوان شعرا وحكايات للأغاني وللمسرح الاستعراضي. والأرجح أن صوت فيروز الحُلُمي، الكثير الظلال كأنه صدى أكثر مما هو مادة وحقيقة، يوازي في جدّته وحضوره صنيع الرحبانيين في الأغنية والمسرح الغنائي. ونجم عن ائتلاف هاتين الطاقتين وامتزاجهما (الذائقة الرحبانية وصوت فيروز) ما لا يُحصى من الأغاني، وكثرة من المشاهد والأدوار المسرحية الفولكلورية التي راحت تبثها الإذاعات بكثافة، وعُرِضت في المهرجانات الفنية: بعلبك، الأرز، معرض دمشق الدولي، مسرح البيكاديللي في بيروت، طوال الربع الثالث من القرن العشرين. هذا إضافة إلى حفلات غنائية في العواصم العربية كلها تقريبا، وصولا إلى أوروبا وأميركا.

موقع رائج
فيروز ونصري شمس الدين

"هونيك (هناك) في شجرة ورا (وراء) النبع الغميق (العميق)/ محفور لي صورا (صورة) على كعبا (جذعها) العتيق/ يا شجرة الأيام فرقنا الهوى/ فرفط (بعثر) لنا الورقات (الأوراق) وعرينا سوا/ يا ناطرة (منتنظرة) وحدك على مهب الهوا/ متلك (مثلك) أنا شجرة على مفرق طريق". هذا نموذج للأغنية الرحبانية - الفيروزية التي تحاكي حلم يقظة حزينا وسعيدا بحزنه، المشوب بالأسى واللوعة والحنين إلى زمن فردوسي هارب أو مفقود، إنما متطهر بالعزاء الرومنطيقي المقيم حيال احتضار عالم البراءة الريفية السعيدة الهانئة والزائلة كهروب الزمن والأعمار.

كتب الرحبانيان عالم الريف الهارب أو الزائل، كأنهما يرسمان مشاهد بصرية أيقونية ثابتة في الزمن، خالية من التحولات والتناقضات الدينامية القلقة والمضطربة في حياة البشر وعلاقاتهم. هكذا جعلا: الطواحين، الصبايا على دروب عيون الماء، ساحات القرى في الفجر والصباحات وعند الغروب، "البيت العتيق الممحو خلف حدود العتم والريح"، "ثلج صنين"، "قمر مشغرة"، "اللوزة (شجرة اللوز) والأرض وسمانا"، الكروم ومفارق الدروب، "نواطير الثلج"، "البيت الناطر (الذي ينتظر) التلة"، "الصبي (الآتي) من الأحراش (الأحراج)"، الصيف بمواعيده، مواسم الحرير، "عيد العزابة (العازبين والعازبات)"، الخيمة في أعالي الجبل، "السهر في تشرين"، "طير (طائر) المسا (المساء) جايي (الآتي) من سفر طويل"، "طريق النحل"، البيوت المهجورة التي غطى العشب أدراجها وجدرانها، وعششت في سقوفها الطيور، "النار الغافية في حضن الموقدة"، "شتي (مطر) أيلول"... هكذا جعل الرحبانيان هذه الصور الريفية الأيقونية عالما غنائيا في صوت فيروز القمري، المرجأ الرغبة والمتطهر من الرغبة برضى وعزاء رومنطيقيين. وهو صوت، على قدر ما هو عام وجمعي، يخاطب كل مستمع ومستمعة بمفردهما. والصور تلك مغناة بصوت فيروز صارت منذ مطلع خمسينات القرن العشرين وحتى منتصف سبعيناته عنوان لبنان الاصطياف والسياحة و"سويسرا الشرق" في سائر البلدان العربية.
وفي معظم أعمالهما المسرحية الغنائية الاستعراضية ("أيام الحصاد" 1957، "موسم العز" 1960، "البعلبكية" 1961، "جسر القمر" 1962، "الليل والقنديل" 1963، "بياع الخواتم" 1964، "دواليب الهوا" 1965)، تنفتح ستارة المسرح على ساحة ضيعة (قرية) تدور فيها حوادث الحكاية المسرحية القروية. والحكاية هذه، حسبما قالت فيروز في بداية دورها في "بياع الخواتم"، هي "قصة ضيعة"، لكن "لا الضيعة موجودة، ولا القصة صحيحة، بس (لكن) وهوي (وهو) ضجران، خرطش إنسان على ورقة، فصارت القصة موجودة، وعمرت الضيعة". وهي ضيعة زائلة، ومستعادة من مخيلة عمومية، كما تتجسد في القصص الشعبي والأمثال الشعبية الفولكلورية.

ساهم الرحابنة في صناعة صورة لبنان المنبعثة من حلم يقظة الحنين إلى صفاء الحياة الريفية المندثرة التي أضفى عليها صوت فيروز القمري والأثيري، المطرّز بالأسى والعزاء، سحرا لا يقاوم

لوعة الحنين إلى البطء القديم

كان لصوت المغنية صباح (1927- 2014) حضوره ودوره في "المغناة" الرحبانية "موسم العز" مطلع الستينات. عندما كان صوت صباح مشرّبا بأصداء دلع صبايا ريف جبل لبنان القريب من بيروت. أي وادي شحرور، مسقط "شحرورة الوادي" الملقبة دلعا بـ"الصبوحة". وبذلك الصوت المغناج الجهوري الرغبة الضاحكة، أطلق الرحبانيان عشق صبايا الجبل وساحله القديمات، لتجار الحرير الذي كانت مواسمه أعيادا شعبية زائلة في قرى زائلة، وتحولت صورا لأثرٍ يبثّ أمنا وطمأنينة ورخاء وبطئا في زمن الستينات المضطرب والمتسارع.

والبطء القديم، مستعادا في زمن الاضطراب والسرعة، يبعثُ اللوعة والحنين، حسب الروائي التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا الذي كتب رواية عنوانها "البطء". فتساءل فيها عن أسباب غيابه في الأزمنة الحديثة القلقة: "أين ذهبت هوينا الأعوام الخوالي؟ أين متسكعو الأغاني الشعبية المشردون الذين كانوا يتنقلون من طاحونة إلى أخرى، ثم ينامون تحت النجوم؟!".

ونحن، هل نستعيد اليوم - مثل كونديرا - أزمنة بطئنا المحلي القديم استعادة جنائزية في أغاني الرحبانيين الفيروزية؟ والأغاني تلك التي استمعنا إليها بشغف آسر في الستينات والسبعينات، ألم تكن تستعيد حين كُتبت وغنتها فيروز حنينا إلى بطءٍ ريفي أقدم: زمن أجدادنا البدائي المتقشف، منزوعا منه شظف العيش وآلامه، ومزينا بحساسية ريفية متمدنة تبعث على الأسى والحنين والاستمتاع بحزن رومنطيقي، فيما كان لبنان غارقا في صورته بلدا جميلا مميزا ومحجّة للسياحة والاصطياف؟

موقع رائج
عاصي وفيروز وابنهما

السحر ونهاياته الأليمة

من العام 1957، وطوال عقد الستينات، كانت عروض المسرح الغنائي الرحباني - الفيروزي في قلعة بعلبك الرومانية ضمن مهرجاناتها الفنية الدولية، تسحر ألباب اللبنانيين والمصطافين العرب. قمر أغسطس/ آب المكتمل بدرا في سماء سهل البقاع الفسيح كان له نصيب من ذلك السحر في تلك السهرات المهرجانية. وصيف 1961 أنشدت فيروز الرحباني في مغناة "البعلبكية": "بعلبك أنا نقطة زيت بسراجك/ شمعة على دراجك/ وردة على سياجك/ (...) يا معمّرة بقلوب وغناني/ هون نحنا هون/ لوين بدنا نروح؟ (...) هون رح نبقى/ نسعد ونشقى/ نزرع الشجرة وحدّا (قربها) الغنيّي (الأغنية)/ وللدني (الدنيا) نحكي حكاية إلهيّي (إلهية)".

كان لبنان ومجتمعه آنذاك يعيشان لحظة صعود زاهية، مشرعة على أفق يبعث املا ووعدا جسّدهما عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958- 1964) الإصلاحي في أعقاب شقاق أهلي لبناني وحرب أهلية صغيرة، إقليمية وداخلية البواعث والأسباب سنة 1958. وكعادتهم، طوى اللبنانيون تلك العثرة الدامية ونسوها في غمرة الستينات السعيدة. وكان للفن الرحباني نصيب من ذلك. فهو ساهم في صناعة صورة لبنان المنبعثة من حلم يقظة الحنين إلى صفاء الحياة الريفية المندثرة التي أضفى عليها صوت فيروز القمري والأثيري، المطرّز بالأسى والعزاء، سحرا لا يقاوم.

موقع رائج
اركان المؤسسة الفنية الرحبانية الفيروزية خلال عودتهم من رحلة فنية في أميركا

لم يقتصر سريان ذلك السحر في وجدان أهله اللبنانيين. بل ألهب بقوة مضاعفة وجدان السوريين. ففي كل صيف من الستينات وحتى أواسط السبعينات، كان معرض دمشق الدولي يستضيف المسرحيات الغنائية الرحبانية - الفيروزية التي كانت تشعل في الدمشقيين والدمشقيات، إضافة إلى نخبة الفلسطينيين في فلسطين ولبنان وسوريا، توقا إلى العيش في حلم اليقظة الفيروزي الطفولي السعيد، خلاصا من عثرات واقع حياتهم وضيقها وآلامها.

وفي نهايات صيف 1967 الذي عاش العرب هزيمته الحزيرانية المروعة، أنشدت فيروز الأغنية الرحبانية الشهيرة "القدس العتيقة"، وتلتها "أجراس العودة". وصُوِّر إنشادها الأغنيتين مع كورس "الفرقة الشعبية اللبنانية" الرحباني في ثياب سود بين أشجار غابة الأرز في جبل المكمل... ثم تكاثرت الأغاني الرحبانية - الفيروزية لفلسطين.

وظهرت فيروز صيف 1969 في بعلبك بدور "غربة" الطالع كالغضب من ملاحم شعبية مأسوية قديمة في مسرحية "جبال الصوان" التي قيل آنذاك إنها كانت حدسا رحبانيا بتراكم الغيوم السود في الأفق اللبناني. وهي أمطرت دما ودموعا في ربيع 1975.

قبل ذلك، في 6 سبتمبر/ أيلول 1972 أصيب عقل المؤسسة الرحبانية - الفيروزية، عاصي الرحباني، بنزف في دماغه أفقده شطرا أساسيا من وظائفه، بعد عملية جراحية خطيرة أنقذت حياته وتركته في ما يشبه شللا ذهنيا أقعده عن النشاط والعمل الإبداعي، حتى وفاته في 21 يونيو/ حزيران 1986.

بعد آلاف الأغاني، وعشرات الاسكتشات الإذاعية، وأكثر من 20 عملا مسرحيا غنائيا، إضافة إلى عشرات الحفلات الغنائية في عواصم عربية وعالمية، بدأ انهيار المؤسسة الفنية التي جدّدت الغناء اللبناني والعربي في الربع الثالث من القرن العشرين:

- فيروز انفصلت عن العائلة الرحبانية بعد سنوات من المرض الطويل الذي ألمَّ بعاصي.

- نصري شمس الدين (1927 - 1983) المختار الدائم في ضيعة المسرح الرحباني،  قضى في سكتة قلبية على المسرح، فيما كان يغني في دمشق بدايات الحروب الأهلية بلبنان.

- فيلمون وهبي (1916 - 1985) القطب الهزلي الساخر في المسرح الرحباني وملحن عشرات الأغاني لفيروز، لم يلبث أن رحل أيضا في خضم تلك الحروب.

- صبري الشريف (1922 - 1999) الفلسطيني اليافاوي الأصل وباعث الفلكلور اللبناني في إذاعة الشرق الأدنى، ومخرج أعمال الرحبانيين المسرحية الغنائية، أقعده مرض مزمن قبل رحيله.

- صيف 1995 أحيت فيروز منفردة حفلة غنائية واحدة في ساحة الشهداء المهدمة احتفالا ببدايات مشروع إعادة الإعمار، بعد سنين كثيرة من احتجابها عن إحياء حفلات غنائية في لبنان الغارق في حروبه.

- صيف 1998 استعادت فيروز ومنصور الرحباني مشاهد من أعمال مسرحية قديمة في مهرجانات بعلبك الدولية التي استعادت نشاطها الموسمي على نحو خجول. شاب تلك المشاهد المستعادة حنين جنائزي إلى ليالي بعلبك الستينات، بعد أكثر من 20 سنة انقضت على صمت المؤسسة الرحبانية - الفيروزية الجنائزي.

كم سيكون مفجعا لميشال شيحا ولعاصي الرحباني لو عرفا أن صور لبنان التي اختط كل منهما ملامحها على طريقته، ما عادت تبعث حتى على ذلك الحنين الجنائزي إلى لبنان الذي هيهات أن "ينبعث من رماده" بعد اليوم

عرّاف القلق والدِّعة

وكان رائد الفكرة اللبنانية وفيلسوفها ميشال شيحا قد خط سطور ذلك الحنين الجنائزي إلى لبنان، منذ أربعينات القرن العشرين. كأنه كان يحدس أنه حلم يقظة صيف متوسطي جميل، فكتب في "توقيعاته" أو "خواطره" المنشورة بالفرنسية أولا سنة 1944 وبالعربية تاليا 1997، أن "للنور والليل والسكون والريح والبستان الزاهر وحديقة الخريف المحزنة، سيطرة شديدة علينا"، مشيرا في هذا إلى تقلبات المزاج التي تتحكم بمصير لبنان المتوسطي. وأمعن كاهن الشغف بطبيعة لبنان ومزاجه المتوسطيين في رثاء الرومنطيقية، فيما هو يشهد عدم اكتراث الناس بـ"تعاقب الفصول"، ليصير "سيان عندهم الربيع والخريف، النور والضباب، لهبة القلب والروح والكآبة". ثم كتب: "سيأتي يوم ولا ريب يولي فيه كل إنسان اهتماما بالكواكب أكثر من الحقل الذي يزرع".

موقع رائج
فيروز وابنتها في وداع عاصي الرحباني

وفي واحد من توقيعاته الشعرية الباهرة، تجاوز شيحا تشاؤمه السببي والوضعي إلى تشاؤم مطلق، فكتب: "القبح يغمر وجه الأرض بالبرص (...) والألم هو السبيل الأوحد (...) والهواء يمتلئ برعشة الأشياء التي تتوارى".

اليوم، كم سيكون مفجعا لميشال شيحا ولعاصي الرحباني لو عرفا أن صور لبنان التي اختط كل منهما ملامحها على طريقته، ما عادت تبعث حتى على ذلك الحنين الجنائزي إلى لبنان الذي هيهات أن "ينبعث من رماده" بعد اليوم.

font change

مقالات ذات صلة