قائمة "رولينغ ستون" لأفضل 200 مغنّ: الغناء المرئي والسلطات المسموعة

حضرت أم كلثوم وغابت فيروز وصباح فخري وطلال المداح

إدواردو رامون
إدواردو رامون

قائمة "رولينغ ستون" لأفضل 200 مغنّ: الغناء المرئي والسلطات المسموعة

لم يتقبّل محبّو المغنية الكندية سيلين ديون غيابها عن القائمة، فاحتجوا أمام مكاتب مجلة "رولينغ ستون" في نيويورك، وهذا ما ساهم في تحقيق ما تصبو المجلة إليه، أي النظر إليها بوصفها السلطة التي تمنح الحضور والشرعيّة في عالم الموسيقى الذي بات جزءا أساسيّا من صناعة الخطاب العام في المجالات كافة.

عناصر الأصالة والانتشار والرواج والشعبيّة التي قالت المجلة إنّها بنت تقييمها على أساسها، تنطبق بشكل مثالي على ديون الحائزة خمس جوائز غرامي، لكنّها طُردت من القائمة على الرغم من ذلك.

أعلن فريق عمل المجلة اعتماد معايير محددة، لكنّه شكّلها وضبطها وفق إيقاعه الخاص المنسجم مع مفاهيم السوق والصوابيّة السياسيّة وغيرها. يضاف إلى ذلك أنّ الحساسيّة الأميركيّة الكنديّة، وظهور الكثير من الأفلام والنكات التي تسخر من الكنديّين، جعلت إيراد اسم سيلين ديون صعبا ما لم يكن مستحيلا.

متحف أم كلثوم في القاهرة (أ ف ب)

يفترض المنطق الذي تدافع عنه المجلة أنّ نجاح غير الأميركيّين بشكل خاص إنما ينطلق من معايير أميركية. لا يحق لسيلين ديون أن تكتب قصة نجاح خاصة وتنسبها إلى نفسها وبلدها بل ستبقى نسخة جيّدة عن أصلٍ مثالي.

أريثا فرانكلين وبيلي هوليداي: النجوميّة وموت القضايا

تبحث المجلة التي أسسها جان وينر في العام 1967 في سان فرانسيسكو بالاشتراك مع الناقد الموسيقي رالف غليسون، عن السلطة، وتحاول أن تمسك بها من بوابة شديدة الحيويّة والتأثير وهي الغناء. ينطلق تحديد الأعظم والأهم في هذا المجال من نزعة شموليّة من دون شك لأنّه قبل كل شيء يصادر الخصوصيّات.

أعلن فريق عمل مجلة "رولينغ ستون" اعتماد معايير محددة، لكنّه شكّلها وضبطها وفق إيقاعه الخاص المنسجم مع مفاهيم السوق والصوابيّة السياسيّة


 من هنا، حظي اختيار شخصيّة مثل المغنية أريثا فرنكلين في المرتبة الأولى بارتياح كبير. لا يعني ذلك عدم التشكيك في الخلفيات، وافتراض أسباب قد لا تتعلق بالغناء نفسه وراء هذا التكريس، وذلك لأنه جاء في لحظة يسود فيها منطق الاعتذار عن تاريخ الظلم والاضطهاد الذي عانى منه المتحدرون من أصول إفريقيّة الذين تنتمي إليهم فرانكلين، في موازاة تكريس بنى تمييز أكثر خبثا.

من شأن هذا النزوع أن يخرج تاريخ الاضطهاد كله من التداول ويحلّ مكانه تلك "الروح الجديدة" التي سمحت في لحظات محددة بانتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، وكذلك اختيار فرانكلين أفضل مغنية في كل العصور.

ويأتي اختيار تسع شخصيات أفريقية في صدارة الترتيب ليفتح الباب أمام صفقة تبادل مخادع تؤدي دور تفكيك قضايا التمييز وليس العكس .النجومية التي تمنح لهم الآن والتي تصر الجهة المانحة على تعميمها على امتداد تاريخ الغناء، تطمح إلى أن تكون شاملة ومطلقة، وبذلك تفترض نوعا من العفو العام عن كلّ جرائم التاريخ، وفي المقابل تطلق خطابا يقول إن المغنين السود أصبحوا مقياسا للغناء وباتوا متربعين على عرشه ويحظون بأعلى مكانة فيه، ولذا لا مجال للحديث بعد الآن عما جرى وما يجري وما سيجري . النجوميّة المطلقة تلغي كلّ شيء.

احتلت المغنية بيلي هوليداي المرتبة الرابعة في التصنيف، وكانت قد أطلقت في عام 1939 أغنية "فاكهة غريبة" التي تتحدث عن شنق السود خارج القانون والتي تقول كلماتها: 

على أشجار الجنوب فاكهة غريبة

 دم يلون الأوراق ودم منسدل فوق الجذور

 أجساد سوداء تتأرجح مع نسيم الجنوب

 فاكهة غريبة تتدلى من أشجار الحور

كانت هذه الأغنية ممنوعة لفترة طويلة، وكانت المغنية تُعتقل بمجرد غنائها، لكنها أصبحت الآن مع مغنيتها في دائرة تكريس النجوميّة التي لا تعني سوى أنها باتت بلا أثر. السلطات نفسها التي كانت تعتقلها والتي قتلتها بقسوة، مثلما يذكر فيلم يروي سيرتها عُرض قبل فترة على منصة نتفليكس، لا تزال في الواجهة، وهي تقتلها الآن من جديد بتمجيد غير موصول بسياقات حقوقيّة وقانونيّة وثقافية جديّة،  يجمّدها في تمثال لامع منحوت من حجر صامت.

الجديد هو تطوير آليات الإقصاء بتحويل ممثلي الفئات التي يقع عليها هذا الإقصاء، إلى نجوم، وإدماجهم في السوق، وهكذا يصبحون صورا غير ناطقة ويكفّون عن الغناء إلى الأبد. باتت الأغنية جزءا من مشهد الصخب والضوء ولم تعد بذلك قادرة على الدفاع عن خصوصيتها ومعناها، ولم يعد إحياؤها يفتح نقاشا حول الظلم، بل باتت جزءا من الأرشيف والذاكرة، بمعنى أنها تستعاد وتستعمل للدلالة على أن موضوعها قد مات وانقضى.

لقد استبدلت الأشجار التي كانت الجثث تتدلى منها، بركبة الشرطي التي تضغط على عنق جورج فلويد حتى الموت، وبعصاه التي تضرب بلا هوادة.

تفترض سيولة السوق التعاطف مع القضايا من دون الدفع في اتجاه تغييرها، ويجب على من يريد طرح القضايا أن يدرجها في إطار منطق السوق نفسه، وهو منطق يعمد ببساطة إلى تحويلها سلعة وتحويل أصحابها وضحاياها مستهلكين للخطاب الذي يصاغ من خلالهم، والذي تعتمد آليته على إدامة الوضع إلى الأبد.

 

أم كلثوم التي "هزتها" بيونسيه

 حصرت القائمة علاقتها بالغناء العربي كله في أم كلثوم التي احتلت المرتبة 61 في الترتيب، مسبوقة بكيث بوش ومتبوعة بجورج مايكل. استجرّ الأمر ردود فعل متفاوتة بين من رأى أن ورود اسمها وحدها بوصفها ممثلة للغناء العربي يعني نوعا من المكانة الخاصة، في حين علّق حفيد شقيقها معتبرا أنها تستحق المكانة الأولى على مر العصور.

المجلة نفسها اعتبرت في تقديمها للقائمة، أنه لا مثيل لأم كلثوم في الغرب، واستشهدت ببوب ديلان الذي اعتبرها عظيمة، وبروبرت بلانت الذي قال "عندما استمعت إليها للمرة الأولى، إلى الطريقة التي ترقص فيها بصوتها عبر السلّم الموسيقي لتصل إلى جملة لحنيّة ما، لم أتخيل حتى إنه يمكنني الغناء، لقد كان أمرا هائلا، كأن أحدهم أحدث حفرة في حائط فهمي للصوت البشري".

ذكرت المجلة توظيف بيونسيه لأغنية "إنت عمري" لأم كلثوم على أنّه دليل على المكانة المرموقة التي تتمتع بها، لكنها منحت المغنيّة الشابة المرتبة رقم 8 في اللائحة بتقدم أكثر من خمسين مركزا على أم كلثوم، مما يدفع إلى الاستنتاج أن تلك "العظمة" كما تفهمها المجلة، ما هي إلا نوع من مدح الذات التي تقررها وليست تصنيفا فعليا لموقع أم كلثوم في الغناء العربي أو تحديدا لموقع متميز لها في خريطة الغناء العالمي كما تفهمه.

على العكس من ذلك، يبدو الأمر إقفالا للنظر إلى المنطقة العربيّة وغنائها عند لحظة وفاة أم كلثوم عام 1975، وبيع العرب هذا التصنيف بوصفه علامة على خروجهم من تاريخ الغناء، وكأنّه وقف عند تلك اللحظة، مما يجعل من ذكر أم كلثوم تأبينا وليس احتفاء.

هكذا يكون تعريف أم كلثوم في العالم الغربي أنها المطربة التي استعملت بيونسيه لحنا كانت قد غنته وانتهى ومات قبل أن تعيده إلى الحياة


فرق الترتيب الذي منح لبيونسيه التي وظفت "أنت عمري" يعطيها القدرة على مصادرتها، وكأنّ الأغنية لم تكن موجودة من قبل. بيونسيه لم توظفها إذاً، بل خلقتها وجعلتها عالميّة انطلاقا من موقعها المتقدم في التصنيف الذي يعني أنها تمثّل ثقافة متقدمة تستطيع الدفاع عن تأويلاتها وفرضها، وتاليا إحالة كلّ ما توظفه أو تصادره إلى نوعٍ من الملكيّة الخاصة القادرة على قلب المعايير وتفجيرها.

هكذا يكون تعريف أم كلثوم في العالم الغربي أنها المطربة التي استعملت بيونسيه لحنا كانت قد غنته وانتهى ومات قبل أن تعيده إلى الحياة بسحر التصنيف وسلطاته الطامحة لامتلاك تاريخ الغناء كله.

غضب بعض اللبنانيّين جراء عدم إدراج فيروز في اللائحة، وما ينطبق على فيروز قد ينطبق على كثير من الفنانين العرب إذ لا وجود للفن العراقي ولا المغربي ولا الخليجي، ولا ذكر لنجوم يعرفهم الغرب جيّدا مثل عبد الحليم وصباح وناظم الغزالي وطلال مداح وصباح فخري. أما إذا نظرنا إلى معيار الشعبيّة والانتشار فيبدو غير مفهوم عدم ورود اسم عمرو دياب على سبيل المثل، وهو الذي عرف بعد مرحلة السبعينات شهرة واسعة وانتشارا عريضا استطاع الحفاظ عليهما حتى الآن .

 

الأصالة بلا تأصيل: جونغكوك وبيلي إيليتش

 وجود النجم الكوري جونغوك المولود عام 1997 والمغنية الأميركية بيلي إيليتش المولودة عام 2001 في القائمة، يخالف المعايير التي وضعتها المجلة من حيث الأصالة والانتشار، وتنوع أرشيف الفنان، وتكتفي ببعد واحد هو الشهرة، انسجاما مع ثقافة "الجين زد"، مثلما يطلق على جميع المولودين بعد العام 1996، الذين يوصفون بأنهم الجيل الرقمي الذي كان موصولا بالتقنيّة والإنترنت ومفاهيمها منذ طفولته.

وجود ممثلين لهذا الجيل في القائمة على حساب نجوم أكثر رسوخا وثباتا وتنوعا في الأرشيف، يدل على أنّ المجلة لا تبالي بعناصر التراكم والخبرة مثلما حاولت أن توحي، بقدر ما تهتم باللحاق بما يولد بغتة. لا تريد أن تروي سِيَرا بل تعمد إلى توثيق لحظات.

تستطيع السِّيَر الدفاع عن نفسها، وتصعب مصادرتها، فلا يهم مادونا في شيء إذا لم يرد اسمها، كما أن عدم إدراج أسطورة البوب مايكل جاكسون الذي قدّم أداء إعجازيّا في الغناء والرقص، في المواقع الأولى، يشي بتلك النزعة التي تخاف من السِّيَر المكتملة التي يصعب جرّها إلى تأويل يخالف ما راكمته عبر جهودها وأرشيفها.

يتناغم الدفاع عن نجوميّة اللحظة مع بنية السوق والدفع الدائم في اتجاه الاستهلاك،  لأن اللحظة لا خطر فيها وهي دائمة التدفق والجريان، ويمكن دائما محوها واستبدالها بالجديد من دون أثر.

وإذا كانت المجلة أغرتنا بذكر بعض الأسماء التي لا غبار عليها، فإن الإطار العام الذي يحكم منطقها يكشف عن نزعة صناعة الطفرة التي لا تحتمل السِّيَر الثقيلة، والدفاع عنها وتعميمها بوصفها التاريخ المطلق لغناء بات جزءا من السلطات الديجيتاليّة الشموليّة .

font change