سيّد درويش في مئويته: حياة مضطربة وريادة موسيقية

وضع أكثر من 20 أوبريتا

سيّد درويش في مئويته: حياة مضطربة وريادة موسيقية

إنّها مئويّة سيّد درويش (1892 - 1923) الذي رحل في عزّ عطائه، وتجاربه، وإنجازاته الموسيقيّة التي أحدثت ثورة في مفهوم الموسيقى العربية، ومصادرها، وطابعها وإيقاعاتها ودورها. ثورة سيّد درويش تشبه ثورة الشعر الفرنسي، رامبو في الشعر، أو موزارت وبيتهوفن في الموسيقى السيمفونيّة. لكنه أراد بنفسه أن يحدّد لقبه، فقال "أنا لا أقل عن ڤيردي، أنا ڤيردي مصر".

إنه الانقلاب الشامل بتفاصيله ومراحله الذي يشمل النهضة الفكرية والأدبية في مصر، لكنها تختلف عن مجمل معطياتها.

لم يتلقَّ العلوم الموسيقية على أحد واضطر في آخر أيامه إلى اللجوء إلى أحد أصدقائه لكتابه ألحانه. فنبوغه وثقته بنفسه حقّقا الانقلاب الشامل في الموسيقى العربيّة، فقد نفخ في موسيقى بلاده روحا جديدة كل الجدّة، واستطاع أن يرتفع بها إلى مستوى يتمكن معه التعبير عن عواطفه ونزعاته ونزقه وغرابته.

في عام 1892 كان عهد ولاية اللورد كرومر قائما. مع ذلك فإن الزعيم مصطفى كمال وهو في الثامنة عشرة من عمره كان يترأّس حزبا سياسيّا ويقوم بجولات في فرنسا يحاضر في أثنائها للمطالبة بحقوق بلاده. كما رفع أصحاب العمامة رؤوسهم، وتابع الشيخ محمد عبده بجرأة نادرة عمله الإصلاحي في جامعة الأزهر قلب العالم الإسلامي. غير أنه لم يحن آنئذٍ للطبقات الدنيا من الشعب الوقت، لكي تتأثّر بالموجات المتعاظمة من الأفكار التقدميّة التي تطلقها خطب رؤساء الأحزاب. لكن هذا لا يعني خلوّ مصر من وجود فرق فنية أجنبيّة بصورة متواصلة على أراضي البلد وخصوصا في الإسكندريّة. سيّد درويش رأى النور في هذا الوسط وبعد سنوات أرسله أبوه (وهو نجار) إلى مدرسة في الحيّ، ثم أدخله المعهد الديني في الإسكندريّة، وهنا بدأت تظهر مواهبه الموسيقية المبكرة ليصبح بعد مدة من الزمن مؤذنا لمسجد الشوربجي.

عبء العائلة

تزوّج في السادسة عشرة ليتحمّل عبء إعالة أمه وأخواته وامرأته التي ما لبثت أن حبلت منه. في تلك المرحلة بدأ يتردّد إلى بعض الحانات الوضيعة بلباس رجال الدين، وبصحبة موسيقيين أصبح المخدر وسيلة لديهم لاستدرار وحيهم.

وبعدما عجز عن إعالة عائلته بالخمسة قروش التي كان يحصل عليها كل ليلة في هذه الأمكنة، قرّر أخيرا البحث عن عمل خارج الحقل الفنّي. وما لبث أن وجده في إحدى ورشات البناء، وأخذ يغنّي على الصقالات ليسلّي نفسه، وإذا بوكيل الورشة يلاحظ زيادة في إنتاج العمّال الذين كانوا يزدادون نشاطا لدى سماع غنائه، وانتهى الأمر بهذا الوكيل أن أعفاه من الأعمال اليدويّة شرط أن يداوم على الغناء. وهناك اكتشفه أخوان من عائلة عطاالله وأعجبا بصوته: الأول كان ممثلا والثاني مدير مسرح، وكانا يعدّان للسفر إلى بلاد الشام وبيروت خاصة، وهكذا دخل درويش عالم المسارح. لكن الجمهور اللبناني، كما تقول بعض المصادر، لم ينسَ الشيخ سلامة حجازي الذي أثار صوته حماسة الجماهير في سوريا وبيروت ومصر. ولم يلبث الأخوان أن أفلسا فاضطر سيّد درويش في أواخر 1909 أن يبرق إلى عائلته لترسل إليه مالا يمكّنه من العودة إلى الإسكندريّة.

حطّم درويش التخت التركي، وبدأ يظهر في غنائه عدم اكتفائه بالتطريب بل بإيجاد صلة بين الموسيقى والغناء


لقد كان الحكم العثماني يسمح باختلاط الأجناس والبشر مما يجعل الأساليب الموسيقيّة الشرقيّة متمثلة في بيروت وقد تعلّم درويش كثيرا من هذه المدينة.

لدى عودته اضطر من جديد للعمل في المقاهي، لكنه ما لبث أن قصد سوريا من جديد وأمضى فيها سنتين، ولقي نجاحات مهمة، عاد بعدها إلى بلاده.

عندها أصبح سيّد درويش فنّانا كبيرا ولم يزل يعمل في بارات سيّئة السمعة، لكن المقاهي الكبرى التي ترتادها نخبة من الناس راحت تتجاذبه وأصبح في مصاف فنّاني القاهرة.  

Alamy
دار الأوبرا في الاسكندرية، مسرح سيّد درويش

هنا بدأ يظهر تميّزه واختلافه عما كان سائدا في الموسيقى والغناء في مصر: فحطّم درويش "التخت التركي"، وبدأ يظهر في غنائه عدم اكتفائه بالتطريب بل بإيجاد صلة بين الموسيقى والغناء، لتفرض نفسها على المغنّين الأوروبيين وكانت قبله حالات مفقودة، حيث قصيدة حزينة تُغنى بلحن راقص بل وحيث لا يهتم بالكلمات إلا للتمتع بالجمال المجرّد للغة ومن خصوصيتها التأثير في النفس.

وقد وضعت هذه الثورة (وهي ثورة بكل معنى الكلمة) الموسيقى على مستوى إن لم يكن فنيا فهو على الأقل أشدّ روحانية، ووضعت الأسس لنهج موسيقي "مصفّى" لم يلبث أن صار مدرسة هي مدرسة سيّد درويش. ثم انساق في تيار وطني عمّ البلاد. فتارة يستوحي شعارا مأخوذا من مصطفى كامل "بلادي بلادي لك حبّي وفؤادي" (صارت النشيد الوطني لمِصر)، أو قصيدة ضجّت بها الصحف العربية كقصيدة "مصر والسودان" التي تطالب بالوحدة بين البلدين، ثم لا يلبث أن يعود إلى التغني بجمال إحدى صديقاته جليلة الرائعة.

أحسّ  أنه وجد النهج اللازم لإرضاء الجمهور الإسكندري وهو نهج جديد، ومع ذلك فإن أساليب تعبيره تبقى إلى حدّ ما اصطناعية وتخته يتألف من ستة موسيقيين يعزفون على الكمان والقانون والعود والصنوج، تصحبهم جوقة من الأصوات النسائيّة.

 

جورج أبيض والمسرح

في سنّه الخامسة والعشرين أخذت شركات تسجيل الأسطوانات تشجّعه على القدوم إلى القاهرة وكان يتوق إلى مغادرة مسقط رأسه ليتخلص نهائيا من المقاهي. في هذه الأثناء، تعرّف إلى جورج أبيض أحد كبار ممثلي المأساة في نهضة الأدب العربي الذي عرفت عام 1917 أن الدراما وحدها لم تعد تشد حماسة الجماهير الشرقيّة، فاستمع إلى أغانيه، فعرض عليه الغناء بين فصول مسرحيّة "لويس الحادي عشر" فقوبل بهتافات صاخبة غير راضية. وأصيب أبيض بالخيبة. وفهم أنه لتكون التمثيليات مقبولة يجب أن تكون مرصّعة بالموسيقى، فقدم مسرحيّة "فيروز شاه" على أحد مسارح القاهرة بعدما عهد تلحينها إلى سيّد درويش، لكنها فشلت.

Shutterstock
مقهى سيد درويش في الاسكندرية.

في هذه الأثناء، نزع السيّد درويش العمامة واعتمر الطربوش، واستبدل الطقم الإفرنجي مع سلسلة الساعة ولياقة القفطان لكي يفرض شخصيته على العاصمة الفنية. لكن سكنه كان بباب الحصن في بيت وضيع تقاسمه مع موظف من موظفي المكتبة الوطنية؛ فها هو الآن يغني في كازينو البوسفور، وعرف أن طريقة قد تحددت.

في هذه المرحلة كان الشعب يحسّ بنزعة مجنونة للتنفيس عن كربه (قانون الطوارئ، ارتفاع الأسعار)، ليجد مبتغاه في الأغاني الخلاعيّة والروايات الهزليّة التي كانت تقدّمها بعض المسارح الصغيرة (في أيام نجيب الريحاني وفرق الكسار وأولاد عكاشة وسلطانة الطرب منيرة المهديّة).

في الحادية والثلاثين من عمره كان يهمّ بتنفيذ مشروعه وقد أدّى شغله عليه، بالإضافة إلى نهج حياته "الجهنمي" وحالته الصحية المضطربة،إلى تقويض حياته وإلى موته المبكر

بدأ يكتب لكل هذه الفرق بذهنية رفع مستوى الشعب الثقافي بالأوبريت المصريّة. وهنا التقى الشاعر الزجليّ بديع خيري الذي يعبّر بقصائده عن مطالب رجل الشارع وحاجاته في عبارات يزيدها سيّد درويش توترا بالموسيقى. فأغانيه باتت تارة تمثل السقّا، وتارة الصانع الصغير، أو العامل الذي ينوء تحت عبء العمل المرهق، ومرّة الموظف الذي اشترك في الإضراب العام 1919 فوجد نفسه محروما من راتبه الضئيل.

 

وقائع صغيرة

كان يعمل على نصوص مكتوبة معظم الأحيان، لكن وقائع يومية صغيرة من حياة الناس تكفي لإلهامه. وفي بولاق سمع صوت بائع جوال فأنصت إليه يغني بلهجة مصر العليا "عجائب غرة". وهنا دخل إلى الأوساط الأدبيّة ووجد نفسه في عداد أسماء المسرح الشرقي وتردد بصورة مستمرة على حفلات الأوبرا في القاهرة حيث شاهد عروض الفنانين الأجانب. عام 1921 أصبح دخله هائلا 300 جنيه في الشهر. وعندما طلب منه الأخوان عكاشة تلحين تمثيليتهما "شمشون ودليلة"، التي ستعرض على مسرح الأزبكيّة وطلب 1000 جنيه بلا زيادة ولا نقصان، رفضا طلبه. ولم يكن يتجاوز التاسعة والعشرين عندما أصابته هذه الشهرة. واعتزم تأليف فرقته الخاصة التي قدم بواسطتها "العِشرة الطيّبة" لمحمود تيمور، لكنها لم تنل حظوة الجمهور، ثمّ قدّم "شهرزاد" لبيرم التونسي الذي ألهب الجماهير بعد عودته من المنفى بأغانيه الوطنية مثل "اليوم يومك يا جنود" ثمّ قدم " البارود" وهي الترجمة العربية لمسرحيته "لا مسكوت" لإدمان أدوران. غير أنه كان سيّئ الإدارة، فعلى الرغم من شهرته ومن إنتاجه الغزير (عشرون أوبريتا) لم يعد يملك في آخر أيامه سوى عوده وفونوغرافه العتيد، وعلى الرغم من فشل مشروعه التمثيلي انصرف نحو الكتابة في الصحافة تحت إمضاء "خادم الموسيقى".

في الحادية والثلاثين من عمره كان يهمّ بتنفيذ مشروعه وقد أدى شغله عليه، بالإضافة إلى نهج حياته "الجهنمي" وحالته الصحية المضطربة (فهو لم يتوصل إلى التخلص من إدمان المخدر الذي اعتاده منذ صباه) إلى تقويض حياته وإلى موته المبكر.

لقد كشف سيّد درويش ببساطة وعفويّة مشاعر عصره وآلامه وآماله ليس فقط لأقليّة مثقّفة بل لشعب بأجمعه.

مع ذلك فإن عظمة سيّد درويش تنبثق من حقل آخر. ففي بلاد ما زالت الأغنية فيها التعبير الأكمل عن الروح البشرية كان عمل الشيخ سيّد درويش عمل تجريد وتنقية.

فلقد حدد هذا الإباحي الثائر والمحبّب الطريق لرفع مستوى بلاده الأخلاقي.

وقد دفن سيّد درويش في مقابر المنارة بالإسكندرية. وكُتب على شاهده:

يا زائري لا تنسني من دعوة صالحه

وارفع يديك إلى السماء واقرأ لروحي الفاتحه.

 

font change

مقالات ذات صلة