استراتيجية الأمن الأميركي... التكنولوجيا "سلاح حاسم" في العالم الجديد

البوصلة الجديدة للقوة الأميركية عالميا

AFP
AFP
جين سون هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا" (يمين)، إلى جانب الرئيس الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض بواشنطن العاصمة

استراتيجية الأمن الأميركي... التكنولوجيا "سلاح حاسم" في العالم الجديد

في الرابع من ديسمبر/كانون الأول 2025، أصدرت الولايات المتحدة "استراتيجيا الأمن القومي" تنفيذا لمتطلبات الكونغرس، باعتبارها الوثيقة المرجعية التي تحدد ملامح التوجه العام للدولة في مجالات السياسة الخارجية، والاقتصاد، والأمن القومي، والدفاع، والعلاقات الدولية. وتمثل هذه الاستراتيجيا، تقليديا، البوصلة التي تهتدي بها مؤسسات الدولة الأميركية، من البنتاغون إلى وزارة الخزانة، ومن وزارة الخارجية إلى شركات التكنولوجيا العملاقة.

وهذه ليست هذه الوثيقة الأولى التي تكشف حجم الرهان الأميركي على التكنولوجيا بوصفها ركيزة أساسية لبناء القوة، غير أنها تعد من أخطر وأهم الوثائق السياسية التي تصدر عن أي إدارة تتولى الحكم في البيت الأبيض، لما تحمله من دلالات تتجاوز الإطار النظري إلى إعادة صوغ عملية لمفهوم القوة ذاته.

وجاءت النسخة الجديدة لتعكس تحولا نوعيا واضحا في ترتيب أولويات القوة الأميركية، حيث لم تعد القوة العسكرية التقليدية أو النفوذ الديبلوماسي وحدهما في صدارة المشهد، بل جرى وضع التكنولوجيا في قلب المعادلة الاستراتيجية الشاملة. فالوثيقة تكشف عن إدراك متزايد داخل دوائر صنع القرار الأميركية بأن ميزان القوى في القرن الحادي والعشرين لن يحسم فقط بعدد حاملات الطائرات أو القواعد العسكرية، وإنما بامتلاك مفاتيح التفوق التكنولوجي وقدرة الدولة على التحكم في سلاسل الابتكار والإنتاج والمعرفة.

السلاح الحاسم

وتتعامل الاستراتيجيا مع التكنولوجيا باعتبارها "السلاح الحاسم" الذي يحدد موقع الولايات المتحدة في النظام الدولي، سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري أو المالي أو الجيوسياسي. فهي تؤكد، بشكل صريح أو ضمني، أن السيطرة على مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، وتكنولوجيا الطاقة المتقدمة، والبنية التحتية السيبرانية، والفضاء، لم تعد مسألة تفوق تقني فحسب، بل قضية أمن قومي من الدرجة الأولى. ومن يمتلك هذه الأدوات ويحتكر تطويرها وتنظيمها، سيكون قادرا على صوغ قواعد النظام العالمي المقبل، والتحكم في مسارات النمو، والتأثير في قرارات الدول الأخرى.

ومن هنا، لا تظهر التكنولوجيا في هذه الاستراتيجيا كقطاع تقني معزول أو كملف اقتصادي منفصل، بل كعنصر بنيوي يخترق مختلف مجالات القوة الأميركية، من إدارة الاقتصاد العالمي، إلى رسم التحالفات، إلى إدارة الصراعات، وحتى الحفاظ على الهيمنة الأميركية على النظام الدولي.

وفي الرؤية الأميركية الجديدة، لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة مساندة للقوة، بل أصبحت هي الأساس الذي ستبنى عليه القوة الأميركية في المستقبل، ومفتاح الحفاظ على موقع الولايات المتحدة في عالم يتسم بتنافس تكنولوجي محتدم وتحولات استراتيجية متسارعة، إذ لا تذكر التكنولوجيا في الاستراتيجيا كعنوان منفصل أو قطاع مستقل، بل تظهر متداخلة في معظم محاور الوثيقة، من الاقتصاد الصناعي والمالي، إلى السياسة الخارجية، مرورا بالجغرافيا السياسية، وانتهاء بالعسكرة والتفوق العسكري.

تتعامل الوثيقة مع التكنولوجيا باعتبارها السلاح المركزي لقوة الولايات المتحدة اقتصاديا وعسكريا وماليا وجيوسياسيا

ويعكس هذا الحضور الكثيف بوضوح حجم الاعتماد الأميركي على التكنولوجيا بوصفها أداة مركزية من أدوات القوة الشاملة، وليس مجرد عنصر داعم أو ثانوي. فالاقتصاد الأميركي، وفق منطق الوثيقة، يقوم على الريادة التكنولوجية، والأمن القومي يعتمد على التفوق الرقمي، والقدرة على الردع العسكري باتت مرتبطة بالذكاء الاصطناعي والأنظمة الذاتية والفضاء السيبراني بقدر ارتباطها بالأسلحة التقليدية.

وقد تم ذكر التكنولوجيا داخل الوثيقة في مواضيع متفرقة ومتداخلة تشمل الاقتصاد، والسياسة، والجغرافيا السياسية، والعسكرة، والتفوق العسكري، وهو ما يعكس بوضوح مدى الأهمية التي توليها الإدارة الأميركية للتكنولوجيا، وحجم اعتمادها عليها كأداة رئيسة من أدوات القوة الشاملة.

وتتعامل الوثيقة مع التكنولوجيا باعتبارها السلاح المركزي لقوة الولايات المتحدة اقتصاديا وعسكريا وماليا وجيوسياسيا، وتؤكد بشكل صريح أن من يسيطر على الذكاء الاصطناعي، والشرائح الإلكترونية، وتكنولوجيا الطاقة، والأنظمة السيبرانية، والفضاء، هو من سيشكل ملامح النظام العالمي المقبل. ومن هنا، لا تظهر التكنولوجيا في هذه الاستراتيجيا كقطاع تقني معزول، بل كعنصر فاعل وحاضر في الاقتصاد، والسياسة، والجغرافيا السياسية، والعسكرة، وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي. وهذا هو جوهر فكرة هذا المقال: التكنولوجيا لم تعد أداة مساندة، بل أصبحت أساس القوة الأميركية في المستقبل.

أداة حكم وإعادة تشكيل للسلطة السياسية

تعكس استراتيجيا الأمن القومي للولايات المتحدة تحولا واضحا وعميقا في موقع التكنولوجيا داخل بنية التفكير السياسي الأميركي، إذ لم تعد تقدم بوصفها أداة مساعدة أو مكملة للسياسات العامة، بل أصبحت جزءا أصيلا من عملية صنع القرار السياسي نفسها، وأحد الأعمدة الرئيسة التي تقوم عليها إعادة صوغ مفهوم القوة في الداخل، وإعادة تشكيل أدوات النفوذ والتأثير في الخارج. فالوثيقة لا تنظر إلى الذكاء الاصطناعي والبنى الرقمية على أنهما مجرد تقنيات حديثة، بل تتعامل معهما باعتبارهما عنصرا حاكما لطريقة إدارة الدولة، ومحددا أساسيا لشكل النظام الدولي الذي يتشكل في المستقبل، لا بوصفهما ملفا تقنيا معزولا أو منفصلا عن المجال السياسي.

وعلى الصعيد الداخلي، تنطلق الاستراتيجيا من وعي متزايد بأن طبيعة التهديدات التي تواجه الدولة لم تعد تقليدية أو عسكرية بالمعنى الكلاسيكي، بل إن جزءا كبيرا منها بات يتمركز داخل الفضاء الرقمي. فالهجمات السيبرانية، وحروب المعلومات، ومحاولات التأثير في الرأي العام من خلال المنصات الرقمية، فضلا عن استهداف البنية التحتية الحيوية واختراقها، أصبحت أدوات صراع سياسي مباشر تمس جوهر الاستقرار الداخلي للدولة. وبهذا، يتحول الذكاء الاصطناعي من مجرد تقنية إنتاجية أو وسيلة لتحسين الكفاءة الاقتصادية، إلى أداة سياسية وأمنية لحماية الدولة، من خلال دعم قدرات الرصد المبكر، والتحليل المتقدم، والتنبؤ بالاخطار، والاستجابة السريعة للأزمات. وبذلك، يصبح كل من الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي جزءا لا يتجزأ من منظومة الحكم نفسها، وليس مجرد سياسات قطاعية منفصلة أو برامج تقنية محدودة.

AFP
جين سون هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا"، خلال إلقائه الكلمة الرئيسة المباشرة قبل انطلاق مؤتمر "إنفيديا" لتكنولوجيا معالجات الرسوميات

يفرض هذا التحول إعادة تعريف شاملة لمفهوم السيادة في الدولة الحديثة. فالدولة لم تعد معنية فقط بحماية حدودها الجغرافية، بل باتت مطالبة بحماية بياناتها، وشبكاتها الرقمية، وخوارزمياتها، لأن السيطرة على هذه العناصر أصبحت شرطا أساسيا للسيطرة على المجال العام وإدارته. ومن ثم، تغدو التكنولوجيا، في الرؤية السياسية التي تعكسها الاستراتيجيا، إحدى أدوات الضبط والتنظيم، ووسيلة لإدارة التوازن الدقيق بين متطلبات الأمن وحماية الحريات، في بيئة داخلية تتسم بقدر عال من التعقيد والتقلب وسرعة التغير.

عرف المشهد الأميركي سلسلة متلاحقة من القرارات والإجراءات التي استهدفت بناء وتحديث البنية التحتية الرقمية للدولة، وتوسيع قدرتها المؤسسية على استضافة وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة

ولم يبق هذا التوجه حبيس النصوص الاستراتيجية أو إطارا نظريا عاما، بل تحول إلى مسار تنفيذي متواصل، لا يكاد يمر أسبوع واحد من دون إعلان جديد يعكس اندفاع واشنطن نحو تعميم استخدام الذكاء الاصطناعي داخل أجهزة الدولة المختلفة. فقد أعلنت الإدارة الأميركية، على نحو متتابع، مبادرات وخطط عمل واسعة تهدف إلى تسريع دمج هذه التكنولوجيا في مؤسسات الحكم. وكان من أبرز هذه المبادرات الخطة الوطنية للذكاء الاصطناعي التي أطلقت في عهد دونالد ترمب، والتي صيغت بهدف تحويل الذكاء الاصطناعي إلى ركيزة عمل مؤسسية في كل من القطاعين العسكري والمدني، وربطه بصورة مباشرة بقضايا الأمن القومي وبالقدرة التنافسية للاقتصاد الأميركي في مواجهة القوى الدولية الأخرى.

وجاء القرار التنفيذي الأخير للرئيس ترمب الخميس، الحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول الحالي، الذي يفرض قيودا وعقوبات اتحادية على الولايات التي تحاول وضع تنظيمات محلية تحد من استخدام أو تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي ليعطي مؤشرا أوضح الى طبيعة هذا التحول. فالبيت الأبيض بات يعتبر التنظيم المحلي تهديدا مباشرا للتفوق الوطني في مجال الذكاء الاصطناعي، ويميل إلى مركزية القرار في هذا القطاع بحيث تكون السياسة الفيديرالية هي المرجع الوحيد. وبهذا يصبح واضحا أن الإدارة لا تنظر إلى الذكاء الاصطناعي كمجرد مشروع تقني، بل كأداة استراتيجية يجب حماية تطورها من أي تباطؤ أو تجزئة على مستوى الولايات.

انتقال مؤسسي كامل

وإلى جانب هذه الخطوات، شهد المشهد الأميركي سلسلة متلاحقة من القرارات والإجراءات التي استهدفت بناء البنية التحتية الرقمية للدولة وتحديثها، وتوسيع قدرتها المؤسسية على استضافة نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة وتشغيلها، فضلا عن مراجعة سياسات الأمن المعلوماتي وتحديثها وحماية البيانات. وتعكس هذه التحركات إدراكا واضحا لدى صانع القرار الأميركي بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد ملفا تقنيا مؤجلا أو خيارا مستقبليا يمكن التعامل معه لاحقا، بل أصبح أولوية يومية تمس مباشرة أسس الحوكمة، ومتطلبات الأمن القومي، وقدرة الاقتصاد الأميركي على الاستمرار في موقع الريادة العالمية.

ويأتي إعلان وزارة الدفاع الأميركي إطلاق منصة «GenAI.mil» بوصفه ترجمة عملية ومباشرة لهذا المسار المتسارع. فقد أتاحت الوزارة أداة ذكاء اصطناعي توليدي مؤمنة لجميع العاملين داخلها، سواء من العسكريين أو المدنيين أو المتعاقدين، مقرونة بتوجيه صريح من القيادة العليا بضرورة إدماج هذه الأداة فورا في سير العمل اليومي. ولا يمكن قراءة هذا القرار باعتباره مجرد تحديث تقني أو تحسين لأدوات الإدارة العسكرية، بل يكشف عن انتقال مؤسسي كامل نحو جعل الذكاء الاصطناعي جزءا من الإيقاع اليومي لصنع القرار، والتحليل الاستراتيجي، والتخطيط، وإدارة العمليات على مختلف المستويات. وعندما يتزامن هذا التوجه مع تحركات موازية في مجالات الطاقة الرقمية، والحوسبة السحابية، وتنظيم استخدام نماذج الذكاء الاصطناعي، يتضح أن واشنطن لا تخوض تجربة تقنية محدودة، بل تدير عملية تحول استراتيجي شامل في شكل الدولة، وطبيعة مؤسساتها، وأدوات عملها.

أما على المستوى الخارجي، فتتعامل الاستراتيجيا مع التكنولوجيا بوصفها أداة مركزية لإعادة تنظيم النظام الدولي، ليس فقط من خلال الاستخدامات العسكرية أو الاقتصادية المباشرة، وإنما عبر فرض المعايير وقواعد التشغيل العالمية. فالولايات المتحدة لا تسعى إلى تصدير منتجات تكنولوجية أو حلول رقمية فحسب، بل تعمل على تصدير نموذج متكامل للحوكمة الرقمية يقوم على معايير أميركية في مجالات الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والبنية السحابية، والتقنيات المتقدمة. ووفق هذا المنطق، فإن الدول التي تقبل بهذه المعايير تندمج تلقائيا في المنظومة الأميركية وتصبح جزءا من شبكاتها الاقتصادية والسياسية والتقنية، في حين تدفع الدول التي ترفضها أو تعجز عن التزامها إلى هامش مزدوج، سياسي وتكنولوجي في آن واحد.

ينتقل التنافس من كونه خلافا تقنيا أو تجاريا حول سلاسل التوريد العالمية، إلى كونه صراعا بنيويا على طبيعة الاعتماد ذاته داخل النظام الدولي

وفي هذا الإطار، تحتل الصين موقع الخصم التكنولوجي الأبرز في الرؤية السياسية التي تعكسها الاستراتيجيا. فالتنافس مع بكين لا يقدم بوصفه صراعا تجاريا تقليديا أو خلافا على حصص الأسواق، بل باعتباره صراعا بنيويا على من يمتلك القدرة على تعريف مستقبل التكنولوجيا العالمية، ووضع قواعد تشغيلها، وتحديد معاييرها الحاكمة. ومن هنا يمكن فهم القيود الصارمة التي تفرضها واشنطن على تصدير الشرائح الإلكترونية المتقدمة، والتكنولوجيا الحساسة، ونظم الذكاء الاصطناعي، باعتبارها جزءا من استراتيجيا سياسية طويلة الأمد تهدف إلى إبطاء صعود الصين التكنولوجي، ومنعها من التحول إلى قوة مقررة أو منظمة للنظام الرقمي الدولي في العقود المقبلة.

ويكشف الجدل الذي أثير حول شرائح الحوسبة المتقدمة من طراز "إتش مئتان" عن دلالة سياسية بالغة العمق في هذا السياق. فموافقة واشنطن على فتح المجال، ولو جزئيا، أمام إمكان تصدير هذه الشرائح بدت في ظاهرها تعبيرا عن قدر من المرونة التكتيكية داخل سياسة الاحتواء التكنولوجي المفروضة على الصين. غير أن رد الفعل الصيني الحذر تجاه هذا المسار عكس توجها استراتيجيا مغايرا يقوم على تقليص الاعتماد البنيوي الطويل الأمد على التكنولوجيا الأميركية، حتى وإن استدعى ذلك تحمل كتلفة أعلى أو قبول مستويات أقل من الكفاءة في المدى القصير. وهنا يتضح أن الصراع لم يعد يدار فقط بمنطق قرارات المنع والسماح أو القيود التصديرية، بل بمنطق أعمق يتعلق بالقدرة على الانفصال الاستراتيجي وبناء منظومات تكنولوجية مستقلة وقابلة للحياة.

فضاء تكنولوجي مواز

في هذا المعنى، ينتقل التنافس من كونه خلافا تقنيا أو تجاريا حول سلاسل التوريد العالمية، إلى كونه صراعا بنيويا على طبيعة الاعتماد ذاته داخل النظام الدولي. فالولايات المتحدة توظف التكنولوجيا بوصفها أداة لفرض الاندماج داخل منظومتها الاقتصادية والرقمية، وربط الدول والشركات بمعاييرها وبنيتها التحتية، في حين تسعى الصين، في المقابل، إلى كسر هذا الاندماج وتقليص هشاشتها الاستراتيجية عبر تشييد فضاء تكنولوجي مواز يقوم على معايير وسلاسل إنتاج بديلة. ويعكس هذا التحول انتقال النظام الدولي من مرحلة الاعتماد المتبادل، الذي ساد عقود العولمة، إلى مرحلة جديدة يمكن وصفها بالتفكك التكنولوجي المدار سياسيا، حيث يعاد صوغ العلاقات الاقتصادية والتقنية وفق اعتبارات الأمن القومي والتنافس الجيوسياسي.

Reuters
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الصيني شي جين بينغ يتحدثان أثناء مغادرتهما مطار غيمهاي الدولي عقب اجتماع ثنائي، على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ

من هذا المنطلق، لا يمكن قراءة موقع التكنولوجيا داخل الاستراتيجيا الأميركية بوصفه مجرد ملف تقني أو اقتصادي منفصل، بل باعتباره أداة مركزية لإعادة هندسة السياسة ذاتها. فعلى المستوى الداخلي، تستخدم التكنولوجيا لإعادة تنظيم المجال العام والتحكم في الفضاء الرقمي، وتعزيز قدرات الدولة على الضبط والإدارة. وعلى المستوى الخارجي، توظف لإعادة تشكيل التحالفات، وتقييد حركة الخصوم، وفرض قواعد ومعايير النظام الدولي الجديد. ووفق هذا التصور، لم تعد التكنولوجيا مجرد وسيلة تخدم السياسة، بل غدت الإطار البنيوي الذي يعاد من خلاله صوغ السياسة، وتحدد على أساسه موازين القوة في عالم يشهد تحولات استراتيجية عميقة ومتسارعة.

ينتقل موقع الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا في استراتيجيا الأمن القومي الأميركية من كونهما مجرد أدوات داعمة للنمو الاقتصادي، إلى كونهما المحرك الفعلي الذي يقوم عليه الاقتصاد الأميركي في صورته الجديدة. فالوثيقة لا تتعامل مع التكنولوجيا باعتبارها قطاعا إنتاجيا قائما بذاته يمكن فصله عن بقية القطاعات، بل تنظر إليها بوصفها البنية التحتية غير المرئية التي يستند إليها النمو الاقتصادي، وتتشكل عبرها أنماط الاستثمار، وتتحدد من خلالها تنافسية السوق الأميركية على المستويين الداخلي والدولي. ووفق هذا المنظور، يصبح الحديث عن اقتصاد الذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات، والطاقة المتقدمة، والحوسبة السحابية حديثا عن قلب الاقتصاد الأميركي نفسه، لا عن أطرافه أو هوامشه.

يأتي تناول التكنولوجيا داخل الاستراتيجيا في إطار سياسي واستراتيجي في الأساس، لا في صورة تحليل اقتصادي كمي مفصل.

وتكشف المؤشرات الاقتصادية الصادرة خلال عام 2025 حجم هذا التحول التكنولوجي بوضوح. فبحسب تحليل نشرته مجلة "فورشن" فإن الاستثمارات في مراكز البيانات والبنية الحوسبية المرتبطة بتقنيات الذكاء الاصطناعي أسهمت بما يقارب اثنين وتسعين في المائة من نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي خلال النصف الأول من العام، بحيث كان النمو الاقتصادي سيتراجع إلى مستويات شبه صفرية لولا هذا التوسع السريع في البنية الرقمية. وفي السياق ذاته، يشير تقرير صادر عن شركة "فورستر" للأبحاث، وهي إحدى أبرز شركات الدراسات المتخصصة في قطاع التكنولوجيا، إلى أن حجم الإنفاق الأميركي على تكنولوجيا المعلومات بلغ نحو تريليونين وسبعمائة مليار دولار خلال عام 2025، وهو رقم يعكس بوضوح أن التكنولوجيا باتت أحد الأعمدة الرئيسة التي يقوم عليها الاقتصاد الأميركي المعاصر.

أما قطاع أشباه الموصلات، الذي تمثل الشرائح الإلكترونية عموده الفقري، فقد تحول بدوره إلى ركيزة أساسية للتوظيف والنمو الصناعي داخل الولايات المتحدة. ففي عام 2025، يدعم هذا القطاع مئات الآلاف من فرص العمل المباشرة، إلى جانب ملايين الوظائف غير المباشرة الممتدة عبر سلاسل الإمداد، والتصميم الهندسي، والخدمات اللوجستية، والصناعات المرتبطة به. وفي هذا المعنى، لم يعد اقتصاد الشرائح مجرد صناعة متقدمة ذات طابع تقني عال، بل أصبح منظومة اقتصادية متكاملة تؤثر في سوق العمل، وحجم الاستثمارات، والصادرات، والأمن الاقتصادي في آن واحد.

وعلى الرغم من أن استراتيجيا الأمن القومي الأميركية لعام 2025 تمنح التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي مكانة محورية داخل رؤية الدولة لمستقبلها الاقتصادي والأمني، فإن الوثيقة لا تقدم بيانات رقمية أو مؤشرات اقتصادية تفصيلية توضح الحجم الفعلي لهذا القطاع أو مدى تأثيره المباشر في الاقتصاد الأميركي. فالاستراتيجيا تتعامل مع التكنولوجيا بوصفها أداة سيادية وركيزة أساسية لإعادة التصنيع، وتأمين سلاسل الإمداد، وتعزيز القدرة التنافسية طويلة الأمد، لكنها تظل وثيقة توجيهية عامة ترسم الاتجاهات الكبرى ولا تخوض في التفاصيل المالية الدقيقة.

ويأتي تناول التكنولوجيا داخل الاستراتيجيا في إطار سياسي واستراتيجي في الأساس، لا في صورة تحليل اقتصادي كمي مفصل. فهي تؤكد ضرورة تطوير الذكاء الاصطناعي، والأنظمة الذاتية، والتقنيات المتقدمة، لكنها لا تحدد حجم الاستثمارات المطلوبة، ولا تقدم نسبا أو تقديرات مالية دقيقة. وحتى عندما تتطرق إلى البعد الاقتصادي، فإنها تركز على مفاهيم مثل إعادة التوازن التجاري، ودعم الصناعة الوطنية، وحماية الابتكار، من دون أن تورد أرقاما واضحة تعكس الوزن الحقيقي لاقتصاد التكنولوجيا داخل الولايات المتحدة.

ولا يعكس هذا الغياب المتعمد للأرقام تقليلا من أهمية التكنولوجيا بوصفها محركا اقتصاديا، بقدر ما يعكس طبيعة استراتيجيا الأمن القومي نفسها، التي تهدف إلى توجيه السياسة العامة وتحديد أولويات الدولة، لا إلى تقديم تقرير اقتصادي شامل. ومن هنا تبرز أهمية الاعتماد على تقارير وتحليلات مستقلة لقياس التأثير الفعلي لهذا القطاع، مثل البيانات التي تظهر أن استثمارات مراكز البيانات كانت المحرك الرئيس لنمو الاقتصاد الأميركي في النصف الأول من عام 2025، أو أن الإنفاق على تكنولوجيا المعلومات بلغ مستويات قياسية خلال العام ذاته، بما يؤكد أن الاقتصاد الأميركي بات، في جوهره، اقتصادا تقوده التكنولوجيا.

المحور العسكري

تنطلق الاستراتيجيا الأميركية من رؤية واضحة مفادها أن التكنولوجيا أصبحت جوهر القوة العسكرية الحديثة، وأن الحفاظ على التفوق العسكري لم يعد مرهونا بحجم الترسانات التقليدية أو عدد المنصات القتالية، بل بامتلاك القدرات الذكية القادرة على إدارة الحرب وتحديد إيقاعها ومساراتها. فالتفوق، وفق هذا المنظور، لا يقاس فقط بنوع السلاح، وإنما بسرعة تطويره، ومرونة تحديثه، وقدرة الدولة على دمج التكنولوجيا المتقدمة داخل منظومتها العسكرية بوتيرة تفوق خصومها. ولهذا تتعامل الوثيقة مع الذكاء الاصطناعي، والأنظمة غير المأهولة، والفضاء، والحوسبة المتقدمة بوصفها عناصر حاسمة في إعادة تشكيل ميزان القوة بين الولايات المتحدة والصين.

AFP
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعرض أمرا تنفيذيا موقعا

وتشير الاستراتيجيا إلى أن خطورة الصين لا تنبع فقط من توسعها العددي في القوات المسلحة، بل من طبيعة التحول البنيوي الذي يشهده جيشها، حيث يعاد صوغ بنيته العملياتية حول الذكاء الاصطناعي والأنظمة غير المأهولة. ويعزز هذا التقييم ما ورد في تقرير وزارة الدفاع الأميركية حول القوة العسكرية للصين الصادر عام 2023، الذي يؤكد أن بكين تستثمر بكثافة في دمج الذكاء الاصطناعي داخل منظوماتها القتالية، بما يشمل مهام الاستطلاع، والحرب الإلكترونية، وتوجيه النيران، وتطوير المركبات غير المأهولة، باعتبار ذلك ركيزة مركزية في تحديث جيش التحرير الشعبي. كما تظهر دراسة صادرة عن مؤسسة راند البحثية في أغسطس/آب من عام 2025 حول مفهوم الدمج بين الأنظمة المأهولة وغير المأهولة في الجيش الصيني أن بكين تعمل على بناء نموذج عملياتي جديد يعتمد على تشغيل أسراب من المسيرات القادرة على المناورة والتنسيق مع المنصات المأهولة، بهدف تحقيق تفوق تكتيكي قائم على السرعة، والتشتيت، وتعدد محاور الهجوم. ويعكس هذا التوجه انتقال الصين نحو نمط قتال يعتمد على الذكاء الاصطناعي والمركبات الذاتية بوصفها عنصرا جوهريا في قدرتها العسكرية المستقبلية.

تختتم الرؤية العسكرية بالتأكيد أن الحفاظ على التفوق التكنولوجي لا يمكن فصله عن امتلاك قاعدة صناعية دفاعية مستقلة وقادرة على الصمود، لا سيما في مجالات الشرائح الإلكترونية والمكونات الحساسة

غير أن الأهم من حجم الاستثمار هو طبيعة الاستخدام ذاتها. فالصين لا تطور المسيرات بوصفها أدوات مساندة فحسب، بل تعمل على إنشاء أسراب قتالية تعمل بدرجات عالية من الاستقلالية، وتتواصل في ما بينها، وتتخذ قرارات تكتيكية جماعية داخل ساحة المعركة. وتقر الاستراتيجيا بأن هذا المستوى من التشغيل شبه الذاتي لا تزال الولايات المتحدة تطوره بوتيرة أبطأ نسبيا، مما يخلق تحديا غير مسبوق لقدراتها العسكرية. فوجود آلاف المسيرات الذكية القادرة على العمل المشترك، يغير قواعد القتال جذريا، ويحد فعالية أنظمة الدفاع التقليدية التي صممت للتعامل مع تهديدات أقل عددا وأكثر بطئا، ويجعل الكثافة والمرونة عاملين حاسمين في ميدان المعركة.

وبناء على هذا التشخيص، تطرح الاستراتيجيا مجموعة من المسارات العملية لتعزيز الردع الأميركي. ويأتي في مقدمة هذه المسارات تسريع تطوير الأنظمة الذاتية الجوية والبحرية والبرية، بحيث تكون قادرة على العمل في بيئات عالية الخطورة، وتعويض الفجوة العددية مع الصين عبر الاعتماد على المركبات الذكية وأسراب المسيرات. كما تدعو الوثيقة إلى توسيع استخدام الذكاء الاصطناعي في منظومات القيادة والسيطرة، من خلال بناء شبكات مشتركة قادرة على دمج بيانات الأقمار الصناعية، والرادارات، والطائرات، والمستشعرات المختلفة في صورة عملياتية واحدة تدار بالخوارزميات، بما يمنح واشنطن سرعة في اتخاذ القرار تتفوق على أي منافس محتمل.

وتضع الاستراتيجيا الفضاء في قلب المنافسة العسكرية المتصاعدة، إذ تعتمد الولايات المتحدة على منظومة واسعة ومعقدة من الأقمار الصناعية المخصصة للملاحة، والاتصالات، والإنذار المبكر، وجمع الاستخبارات، وهي منظومة تشير تقارير الاستخبارات الوطنية الأميركية إلى أنها تمثل أكبر بنية فضائية عسكرية في العالم. وفي المقابل، تظهر التقديرات أن الصين تدير مئات الأقمار الصناعية ذات الاستخدام العسكري أو الثنائي، وتعمل بوتيرة متسارعة على تطوير قدرات تستهدف تعطيل الأصول الفضائية الأميركية، سواء عبر أنظمة مضادة للأقمار الصناعية، أو من خلال تقنيات التشويش، أو استهداف المستشعرات الفضائية بدقة عالية. ولهذا تشدد الاستراتيجيا على ضرورة تعزيز الردع في الفضاء، وحماية الأقمار الصناعية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في إدارة عملياتها العسكرية وجمع المعلومات الحيوية على مدار الساعة.

وتختتم الرؤية العسكرية بالتأكيد أن الحفاظ على التفوق التكنولوجي لا يمكن فصله عن امتلاك قاعدة صناعية دفاعية مستقلة وقادرة على الصمود، لا سيما في مجالات الشرائح الإلكترونية والمكونات الحساسة التي تعد الوقود الحقيقي للأنظمة الذكية. فسباق عسكري يعتمد على الذكاء الاصطناعي، والفضاء، والحوسبة المتقدمة، لا يمكن خوضه بنجاح إذا كانت سلاسل التوريد الأساسية واقعة جزئيا داخل نطاق نفوذ الخصم أو عرضة للضغط الجيوسياسي.

في هذا المعنى، تقدم الاستراتيجيا الأميركية صورة قاطعة لمفهوم القوة في القرن الحادي والعشرين: التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة لتحسين السلاح أو زيادة فعاليته، بل أصبحت السلاح ذاته. ومن يسيطر على الأنظمة الذكية، والفضاء، والبنية الرقمية للجيوش، هو من سيحدد شكل القوة العالمية وموازينها في العقود المقبلة.

font change

مقالات ذات صلة