في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الجاري، وفي يوم التربة العالمي، كشفت الصين عن خطوة فارقة في مستقبل الزراعة بعد أن أطلقت أول نموذج ذكاء اصطناعي ضخم مخصص لمراقبة الأراضي الزراعية العالية الجودة وحمايتها وإدارتها عبر دورة حياة كاملة.
هذه الخطوة، وإن بدت تقنية في ظاهرها، تعكس تحولا أعمق في فلسفة الإدارة الزراعية الصينية، من التركيز على كمية الأراضي إلى التركيز على جودة التربة والمردود والإنتاجية المستدامة، ومن الاعتماد على الخبرة البشرية المحدودة إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي المتعدد المهام القادر على الفحص، والتنبؤ، والتصنيف، والتشخيص، والتخطيط.
ورغم أن الإعلان جاء في بيان مقتضب نسبيا، إلا أن ما تحمله هذه التكنولوجيا من أثر يتجاوز حدود الزراعة إلى الأمن الغذائي، والاقتصاد الريفي، والسياسة البيئية، وتوازن القوى التقنية عالميا، يجعلها واحدة من أهم قفزات الصين في مسار الزراعة الذكية.
احتياج الصين اليوم إلى نموذج ذكاء اصطناعي زراعي متطور ليس ترفا تقنيا، بل ضرورة استراتيجية تمليها معادلة ديمغرافية واقتصادية شديدة التعقيد. ففي بلد يتجاوز عدد سكانه 1.4 مليار نسمة، لا تمثل الأراضي الصالحة للزراعة سوى 7% من إجمالي الأراضي الزراعية في العالم، بينما يقع على عاتق الصين إنتاج ما يكفي لإطعام نحو خمس سكان الكوكب.
هذا التناقض الهائل بين حجم السكان ومحدودية الموارد الطبيعية، جعل الأمن الغذائي أولوية وطنية قصوى، ودفع بكين إلى تبني استراتيجيا "تخزين الحبوب في الأرض والتكنولوجيا"، التي تقوم على ركائز مزدوجة، حماية التربة ورفع جودتها من جهة، وتسخير أحدث الأدوات الرقمية والذكاء الاصطناعي من جهة أخرى، لضمان أن كل هكتار من الأرض يستثمر بأعلى كفاءة ممكنة.
توسع مدمر
ومع توسع المدن، وتقلص الأراضي الزراعية نتيجة التحولات الاقتصادية، باتت طرق المراقبة التقليدية غير قادرة على مواكبة حجم التحديات. من هنا جاء السعي نحو تطوير نموذج ذكاء اصطناعي قادر على مراقبة جودة التربة، تحليل موارد المياه، التنبؤ بأخطار "اللازراعة"، وتحسين إدارة المحاصيل بشكل لحظي، بما يضمن تحقيق معادلة الاستدامة الزراعية في ظل واحدة من أعقد البيئات السكانية على كوكب الأرض.
شهدت الصين خلال العقود الأخيرة توسعا عمرانيا وصناعيا هائلا، ترك آثارا مباشرة على جودة أراضيها الزراعية، مهددا أحد أهم عناصر أمنها الغذائي. فبين البناء العشوائي وتوسع المدن على حساب الحقول، وتحويل مساحات مزروعة إلى استخدامات غير زراعية، إضافة إلى التدهور البيولوجي للتربة نتيجة الإفراط في استخدام الأسمدة والمبيدات، وتلوث الموارد المائية المحيطة بالمزارع—تعرضت رقعة واسعة من الأراضي الخصبة لضغوط متزايدة.


