من سيربح السباق... الإنسان أم الذكاء الاصطناعي؟

غروكيبيديا ضد ويكيبيديا

المجلة
المجلة

من سيربح السباق... الإنسان أم الذكاء الاصطناعي؟

في صباح رقمي هادئ من أيام أكتوبر/تشرين الاول 2025، استيقظ العالم على خبر جديد أعلنه الملياردير الشهير إيلون ماسك. لم يكن الخبر هذه المرة عن صواريخ "سبيس إكس" أو سيارات "تسلا"، بل عن مشروع جديد يسمى موسوعة "غروكيبيديا"، التي فتحت الباب منذ اللحظة الأولى لواحدة من أكثر المواجهات الرمزية في تاريخ المعرفة الرقمية بين موسوعة تقليدية بناها البشر جماعيا "ويكيبيديا"، وأخرى تولد من رحم الخوارزميات وتدار بالذكاء الاصطناعي.

لم تمر ساعات حتى بدأت المنصات الإخبارية تتحدث عن الحدث، فشركة "إكس إيه آي" التابعة لماسك أطلقت رسميا موسوعة جديدة تحت اسم "غروكيبيديا" مشتقة من روبوت الدردشة "غروك" الذي يتكامل مع منصة "إكس" وبدا المشروع كأنه النسخة المصقولة من فكرة طالما راودت ماسك والمتعلقة بإعادة صوغ المعرفة الإنسانية بعيدا مما يراه "تحيزا أيديولوجيا" في ويكيبيديا. فالرجل لم يخف في سنواته الأخيرة امتعاضه من الموسوعة الحرة، واتهمها مرارا بأنها لم تعد مرجعا محايدا كما كانت، بل تحولت إلى مرآة لتيار فكري واحد يهيمن على المجال الأكاديمي والإعلامي الغربي.

بدأت الشرارة الأولى لهذه المواجهة قبل عامين تقريبا، حين كتب ماسك سلسلة من التغريدات اللاذعة ضد مؤسسة "ويكيميديا" داعيا متابعيه إلى التوقف عن التبرع لها حتى "تستعيد الحياد". في إحدى تغريداته الساخرة قال إنه سيتبرع بمليار دولار للمؤسسة إذا غيرت اسمها إلى "ديكيبيديا" – في تلميح ساخر لما يراه فقدانا لـ"القداسة المعرفية" التي طالما أحاطت بالموسوعة. ورغم أن كثيرين تعاملوا مع الأمر حينها كمداعبة من مداعبات ماسك المعتادة، فإن الرجل كان يبني سردية أعمق بكثير: سردية أن الحقيقة لم تعد موضوعا محايدا بل ساحة صراع، وأن التكنولوجيا قد تكون الطريق الوحيد لإعادتها إلى بر الأمان.

البذرة الأولى

وبين أكتوبر/تشرين الاول 2023 وأكتوبر 2025 تبلورت الفكرة تدريجيا. فبعد إطلاق روبوت "غروك" في نهاية 2023 كمساعد ذكي يعتمد على الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأ ماسك يلمح عبر تغريداته إلى مشروع موسوعي جديد "يعيد تعريف المعرفة". وفي مارس/آذار 2024 تسربت تقارير تقنية تشير إلى أن شركة "إكس إيه آي" تعمل على بناء قاعدة بيانات ضخمة بالتعاون مع محركات بحث ومؤسسات أكاديمية لتدريب نظام قادر على كتابة مقالات موسوعية بأسلوب وصفي محايد. وفي يوليو/تموز من العام ذاته، أكد ماسك ضمن لقاء مغلق مع مهندسي الشركة أن "غروك لن يجيب فقط، بل سيكتب".

هكذا ولدت البذرة الأولى لـ"غروكيبيديا"، قبل أن تعلن الشركة في أغسطس/آب 2025 دخول المنصة مرحلة التجريب الداخلي، وفي 27 أكتوبر/تشرين الاول تم الإعلان الرسمي للجمهور. كان هذا هو الـ"تايم لاين" الحقيقي لتشكل المنصة، من فكرة تغريدة إلى مشروع موسوعي يطمح لتغيير موازين المعرفة الرقمية.

ضمت "غروكيبيديا" عند انطلاقها نحو تسعمئة ألف مقال، معظمها من إنتاج النظام الآلي أو منسوخ جزئيا من قواعد بيانات مفتوحة

منذ اللحظة الأولى لإطلاقها، قدمت "غروكيبيديا" نفسها بوصفها "الموسوعة الحرة الخالية من الانحياز". شعار طموح لا يخلو من المفارقة، إذ إن الحياد ذاته هو المفهوم الذي جعل "ويكيبيديا" ما هي عليه اليوم، والمفهوم ذاته الذي يشكك ماسك في صدقه داخلها. تعتمد "غروكيبيديا" في بنائها على خوارزميات الذكاء الاصطناعي الخاصة بشركة "إكس إيه آي" حيث يتم إنشاء المقالات آليا عبر تحليل ضخم للبيانات والمصادر المفتوحة على الإنترنت، من تقارير علمية إلى أرشيفات حكومية ومحتوى أكاديمي متاح. وبعد كتابة المقال، يخضع النص لمراجعة آلية داخلية للتحقق من الاتساق والمصادر، قبل نشره بشكل نهائي للقراء.

بعكس "ويكيبيديا"، لا يمكن المستخدمين تعديل المقالات بأنفسهم. كل ما يتاح لهم هو الإبلاغ عن الأخطاء أو تقديم ملاحظات، لتدرج لاحقا ضمن آلية المراجعة. هذه البنية المغلقة في التحرير جعلت النقاد يعتبرونها "موسوعة بلا بشر" بينما وصفها المدافعون بأنها "تجربة لتصفية الضوضاء البشرية من عملية إنتاج المعرفة". في كل الأحوال، تغير مركز الثقل، من مجتمع المتطوعين الذي يكتب ويحرر ويجادل، إلى خوارزمية صامتة تكتب وتراجع وتقرر.

لكن ما إن انطلقت المنصة حتى واجهت اختبارها الأول. بعد ساعات قليلة من الافتتاح الرسمي، تعطلت خوادم الموقع الجديد بسبب الضغط الهائل من المستخدمين الفضوليين، فامتلأت شبكات التواصل بصور لصفحة الخطأ مصحوبة بتعليقات ساخرة حول "موسوعة الحياد التي بدأت بعدم الاستقرار". إلا أن العطل لم يستمر طويلا، وسرعان ما عادت المنصة الى العمل، لتبدأ الموجة الثانية من جدل المضمون.

نسخ دون احترام

ضمت "غروكيبيديا" عند انطلاقها نحو تسعمئة ألف مقال، معظمها من إنتاج النظام الآلي أو منسوخ جزئيا من قواعد بيانات مفتوحة. غير أن مقارنة المستخدمين بين محتوى "غروكيبيديا" و"ويكيبيديا" كشفت عن تشابهات لغوية وهيكلية واضحة في عشرات المقالات، مما دفع البعض إلى اتهام المنصة الجديدة بأنها "تنسخ" من "ويكيبيديا" دون احترام لترخيص المشاع الإبداعي الذي تقوم عليه الأخيرة. فريق ماسك سارع إلى الدفاع موضحا أن الخوارزمية لا تنسخ بل "تعيد صوغ" النصوص وتستند إلى أكثر من مصدر، وأن أي تطابقات شكلية ناتجة من الطابع الموسوعي الموحد للكتابة، لكن الاتهامات ظلت قائمة، خصوصا مع اكتشاف أن بعض المقالات المبكرة كانت تحمل صيغا شبه مطابقة لنظيراتها في "ويكيبيديا".

AFP
تُظهر هذه الصورة شاشات تعرض شعار Grok، وهو روبوت محادثة توليدي للذكاء الاصطناعي طورته شركة الذكاء الاصطناعي الأميركية xAI، في تولوز، جنوب فرنسا، في 15 يناير 2025.

ورأى المدافعون عن المشروع أن هذه التشابهات طبيعية في مرحلة التأسيس، إذ لا يمكن أي موسوعة جديدة أن تبدأ من فراغ، بينما اعتبر المنتقدون أن "غروكيبيديا" لم تثبت بعد استقلالها المعرفي الكامل، وأنها تبني مشروعها على ما جمعه الآخرون طوال عقدين من العمل التطوعي. وسط هذا السجال، بقي السؤال المركزي معلقا، فهل يمكن الذكاء الاصطناعي أن يكتب معرفة خالية من الانحياز؟ أم أنه يعيد إنتاج تحيزات البيانات التي تدرب عليها، وإن بصيغة أكثر هدوءا وحيادا ظاهريا؟

لفهم عمق هذا السؤال، لا بد من العودة إلى "ويكيبيديا" نفسها. منذ تأسيسها في الخامس عشر من يناير/كانون الثاني عام 2001 على يد جيمي ويلز ولاري سانجر، حملت الموسوعة طابع الثورة الثقافية. كانت الفكرة بسيطة ومجنونة في آن واحد: أن يكتب البشر كلهم المعرفة معا، بلا مقابل وبلا رقابة مركزية. كان المشروع امتدادا لمحاولة سابقة تعرف باسم "نوبيديا"، لكنها فشلت بسبب بطء مراجعات الخبراء. فتح ويلز وسانجر الباب للجمهور، فانطلقت "ويكيبيديا" لتصبح خلال عقدين أكبر مستودع معرفي في التاريخ، بأكثر من ستين مليون مقالة مكتوبة بثلاثمئة لغة.

مع مرور الأيام الأولى بعد الإطلاق، أصبحت "غروكيبيديا" ساحة تجريبية ضخمة يتقاطع فيها الذكاء الاصطناعي مع السياسة والفكر والإعلام

السر في نجاحها لم يكن تقنيا بقدر ما كان اجتماعيا. فقد ابتكرت "ويكيبيديا" ما يعرف بـ"إجماع المحررين" حيث يناقش المتطوعون الخلافات في صفحات النقاش علنا حتى يصلوا إلى صيغة متوازنة تمثل وجهات النظر المختلفة كما وردت في المصادر. هذا النظام التشاركي جعلها مرجعا مفتوحا لكل من يسعى للمعلومة الحرة، لكنه جعلها أيضا هدفا دائما للاتهامات بالتحيز. فكل مجتمع لغوي يعكس ثقافته السياسية والإعلامية في الكتابة، ومع الوقت بدأت تتشكل داخل "ويكيبيديا" "مدارس تحريرية" تهيمن على المحتوى في قضايا معينة. هنا بالضبط بدأ ماسك يرى الخطر، أن يتحول الحياد من مبدأ إلى شعار.

في السنوات الأخيرة، تصاعدت هذه الانتقادات مع انتشار الخطاب الليبيرالي في الفضاء الأكاديمي والإعلامي الغربي. رأى ماسك، ومعه عدد من الأصوات المحافظة، أن "ويكيبيديا" لم تعد تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، بل باتت تميل إلى "الرواية السائدة" في قضايا الهوية الجندرية والسياسة الأميركية.

ساحة تجريبية

في المقابل، يرى البعض أن مشروع ماسك ليس سوى محاولة لتجميع السلطة في يد الخوارزميات، بدل أن تكون موزعة بين البشر، ففلسفة الموسوعة تقوم على الانفتاح والمشاركة، فيما يقوم مشروع ماسك على المركزية والتحكم الآلي. وبين الرؤيتين يقف العالم حائرا أمام سؤال لم يحسم بعد، فأيهما أقرب إلى الحقيقة، الإجماع البشري أم الحساب الآلي؟

لكن النقاش لم يظل أكاديميا. فحين أعلن لاري سانجر، أحد مؤسسي "ويكيبيديا"، في أكتوبر/تشرين الاول 2025 ما سماه "الأطروحات التسع لإصلاح ويكيبيديا"، بدا كأنه يضع الحجر الأول في بناء شرعية فكرية لموقف ماسك. اتهم البعض الموسوعة بالابتعاد عن الحياد الأصلي، ودعا إلى كشف هوية المحررين المؤثرين، وإلغاء قوائم "المصادر غير الموثوق بها" التي تستخدم — بحسب قوله — لإقصاء الأصوات المحافظة. تلقى ماسك تلك التصريحات بترحيب فوري، وأعاد نشرها على منصة "إكس" مع تعليق مقتضب، إذ قال إن "الحياد لا يستعاد إلا بالشفافية". بعد أيام قليلة، أعلنت "إكس إيه آي" أن موسوعتها الجديدة باتت جاهزة للإطلاق.

مع مرور الأيام الأولى بعد الإطلاق، أصبحت "غروكيبيديا" ساحة تجريبية ضخمة يتقاطع فيها الذكاء الاصطناعي مع السياسة والفكر والإعلام. في الساعات الأولى، تجاوز عدد الزوار خمسة وعشرين مليون مستخدم، غالبيتهم جاؤوا بدافع الفضول أو الرغبة في مقارنة مقالات "غروكيبيديا" بنظيراتها في "ويكيبيديا". وسرعان ما بدأت المقارنات تتداول على منصات التواصل الاجتماعي، حيث نشر مستخدمون صورا متقابلة لمقالين يحملان العنوان نفسه "حرب غزة 2023". في النسخة "الويكيبيدية"، جاء العنوان الفرعي "النزاع بين إسرائيل وحماس"، بينما عنونت "غروكيبيديا" المقال ذاته بـ"العدوان الإسرائيلي على غزة". بدا الفارق لغويا للوهلة الأولى، لكنه كان كافيا لإشعال نقاشات حول "من يملك سلطة التسمية؟".

برز اتجاه جديد من الكتاب والصحافيين المستقلين الذين رأوا في "غروكيبيديا" فرصة لاستعادة "صوت الفرد" في مواجهة تحرير الجماعات المجهولة في "ويكيبيديا"

من هنا انطلقت الموجة الأولى من الجدل: هل يمكن حقا أن تكون هناك موسوعة "محايدة" تكتب وتراجع بواسطة خوارزميات؟
المؤيدون أجابوا بالإيجاب، معتبرين أن الحياد لا يعني غياب الرأي، بل عرض الأوجه كافة دون تحكم بشري انتقائي. أما المعارضون، فذهبوا إلى أن الآلة، مهما بلغت قدرتها الحسابية، لا يمكنها أن تدرك التعقيد الأخلاقي والثقافي الكامن في اللغة البشرية. فالتحيز، في نظرهم، ليس رقما يمكن قياسه، بل موقف متجذر في التاريخ والهوية.

رويترز
نموذج مصغر مطبوع بتقنية ثلاثية الأبعاد لإيلون ماسك وشعار "غروك"

وفيما انشغلت وسائل الإعلام بتحليل أبعاد الصراع بين المنصتين، كان فريق "غروكيبيديا" يعمل على تطوير خاصية جديدة أطلق عليها اسم "المنظور الزمني"، تتيح للقارئ تتبع تطور أي معلومة عبر السنوات، ومعرفة كيف تغيرت الصياغة أو المراجع التي استخدمت لكتابتها. بهذه الطريقة، يمكن المستخدم أن يرى بنفسه كيف تتحول "الحقائق" مع تغير الزمن، وهو ما اعتبره البعض ثورة في مفهوم الشفافية المعرفية.

اتجاه جديد

لكن التحدي الأكبر الذي واجه "غروكيبيديا" لم يكن تقنيا فحسب، بل أخلاقي. فقد واجهت المنصة في الأيام الأولى اتهامات باستخدام بيانات "ويكيبيديا" دون إذن صريح، بعد أن لاحظ باحثون تشابها كبيرا في بعض المقالات الأولى المنشورة على النظام الجديد. لم يخف فريق "إكس إيه آي" أنه استخدم "ويكيبيديا" كمصدر تدريبي ضمن مئات المصادر الأخرى، لكنه شدد على أن "النظام لا ينسخ النصوص بل يتعلم منها الأنماط". ومع ذلك، أثار الجدل تساؤلات قانونية حول حقوق الملكية الفكرية في زمن الذكاء الاصطناعي، خاصة أن الحدود بين "التعلم" و"الاقتباس" أصبحت ضبابية إلى حد مربك.

في هذه الأثناء، برز اتجاه جديد من الكتاب والصحافيين المستقلين الذين رأوا في "غروكيبيديا" فرصة لاستعادة "صوت الفرد" في مواجهة تحرير الجماعات المجهولة في "ويكيبيديا". فقد أتاحت المنصة نظاما اختياريا يعرف بـ"التوقيع المعرفي"، يمكن المحرر من خلاله أن يوقع مقالا باسمه أو باسم مستعار، مع إرفاق سجل لمساهماته السابقة. وبهذا تحولت الكتابة الموسوعية من فعل جماعي مجهول الهوية إلى ممارسة شخصية قائمة على السمعة الرقمية، وهو ما اعتبره البعض عودة إلى مفهوم "المؤلف" الذي فقد مكانته في عصر التحرير المفتوح.

لم يكن مشروع "غروكيبيديا" وليد المصادفة أو مجرد استجابة انفعالية لنزاع حول الحياد، بل ثمرة رؤية فكرية تمتد جذورها إلى نظرة إيلون ماسك للعلاقة بين الإنسان والآلة

ورغم هذه الحماسة الأولية، واجه المشروع انتقادات متزايدة من مؤسسات بحثية وأكاديمية رأت فيه محاولة لاحتكار "صناعة الحقيقة" عبر الذكاء الاصطناعي. إذ وصف بعض التقارير النظام بأنه "خطر معرفي محتمل"، إذ يمكن التلاعب في خوارزميات تقييم الانحياز أن يعيد صوغ التاريخ بما يخدم اتجاهات فكرية أو سياسية معينة. أضف إلى ذلك أن ملكية "غروكيبيديا" تعود بالكامل الى شركة "إكس"، مما جعل البعض يتساءل كيف يمكن منصة تخضع لإدارة رجل واحد أن تدعي الحياد المطلق؟

رويترز
إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركتي "سبيس إكس" و"تسلا" ومالك "تويتر" (اكس)، أثناء حضوره مؤتمر "فيفا تكنولوجي" المخصص للابتكار والشركات الناشئة في مركز "بورت دو فرساي" للمعارض في باريس، فرنسا

في الجانب التقني، كان النظام يعتمد على ثلاث طبقات من الذكاء الاصطناعي، الأولى تحلل اللغة وتستخرج المفاهيم، والثانية تقارنها بمصادر متعارضة لتقدير الانحياز، والثالثة تكتب الصياغة النهائية وفق ما يسمى "توازن الاحتمالات السردي"، أي بناء فقرة ترضي أكبر عدد ممكن من وجهات النظر دون أن تميل الى إحداها بوضوح. ومن الطريف أن ماسك نفسه شبه النظام في إحدى المقابلات بـ"محكمة فكرية لا تصدر أحكاما بل تكتفي بعرض الأدلة أمام الجمهور".

لكن مع توسع استخدام المنصة، بدأ المستخدمون يكتشفون أن الحياد الحسابي لا يعني دائما الحياد الإنساني. فبعض المقالات بدت باردة خالية من الحس البشري، وبعضها الآخر بدا ميكانيكيا إلى حد يجعل القارئ يحن إلى لغة "ويكيبيديا" التقليدية، رغم كل ما فيها من نقص وتحزب. ومع ذلك، أبدى كثير من الأكاديميين إعجابهم بقدرة "غروكيبيديا" على كشف التناقضات في السرد التاريخي، إذ يمكن القارئ أن يرى على سبيل المثل كيف تصف الرواية الروسية والأوكرانية معركة واحدة بعبارات متضادة تماما.

الحقيقة الإحصائية

هذه الخاصية جعلت المنصة تتحول تدريجيا إلى أداة بحث وتحليل أكثر من كونها موسوعة للقراءة العامة. وأصبحت الجامعات ومراكز الدراسات السياسية تستخدمها لتدريب الطلاب على التفكير النقدي، وهو ما اعتبره ماسك "أحد الأهداف غير المعلنة للمشروع: تعليم البشر كيف يرون الانحياز في كل شيء، حتى في أنفسهم".

لم يكن مشروع "غروكيبيديا" وليد المصادفة أو مجرد استجابة انفعالية لنزاع حول الحياد، بل ثمرة رؤية فكرية تمتد جذورها إلى نظرة إيلون ماسك للعلاقة بين الإنسان والآلة. فمنذ بداياته في "باي بال" و"تسلا"، ظل ماسك يرى أن التكنولوجيا ليست مجرد أداة بل امتداد طبيعي للعقل البشري، وأن حدود الوعي الإنساني يمكن توسيعها بالحوسبة لا بالثقافة وحدها. وفي هذا الإطار، جاءت "غروكيبيديا" كخطوة فلسفية أكثر منها تجارية: محاولة لتحويل الذكاء الاصطناعي من مجرد مولد للنصوص إلى "حارس للمعنى".

في مقابلاته الأولى بعد الإطلاق، تحدث ماسك عن فكرة "الحقيقة الإحصائية"، أي أن الحقيقة لم تعد تستمد من مصدر واحد بل من تجميع كمي لوجهات النظر المتعارضة. ووفق هذا المنطق، فكل رأي يحمل جزءا من الحقيقة، وكل حقيقة تحتاج إلى عدد كاف من الآراء لتستقر عند قيمة متوسطة يمكن اعتبارها "موضوعية". بدا هذا الطرح أقرب إلى مفهوم الفيزياء الاحتمالية منه إلى فلسفة المعرفة، لكنه انسجم تماما مع خلفية ماسك العلمية وافتتانه الدائم بالرياضيات كأداة لفهم الوجود.

في "ويكيبيديا" يمكنك أن تختلف مع إنسان، أما في "غروكيبيديا" فأنت تختلف مع آلة لا تجيبك

وقد أشار عدد من المفكرين إلى أن ما يقدمه ماسك ليس ثورة معرفية بقدر ما هو إعادة صوغ لمفهوم "العقل الجمعي" الذي تحدث عنه غوستاف لوبون في القرن التاسع عشر، لكن بوسائل رقمية. فالموسوعة الجديدة لا تسعى إلى إنتاج رأي صائب، بل إلى إنتاج متوسط آمن يرضي الجميع. وهذا ما جعل بعض النقاد يصفونها بأنها "النسخة الرقمية من التوفيقية السياسية"، أي إرضاء الأطراف كافة دون مواجهة جوهر الحقيقة.

ومع ذلك، فإن طبيعة المشروع نفسها تكشف عن مفارقة فلسفية، فهو في الوقت الذي يزعم التخلص من الانحياز البشري، يعتمد على بيانات وتاريخ وثقافة مشبعة بذلك الانحياز ذاته. فالآلة لا يمكنها أن تتعلم إلا مما يقدمه البشر، وما يقدمه البشر لا يخلو من ذاتيتهم وأيديولوجياتهم.

رويترز
صفحة "ويكيبيديا" الإلكترونية قيد الاستخدام على جهاز كومبيوتر محمول

تلك المفارقة جعلت بعض الباحثين في الذكاء الاصطناعي يطرحون سؤالا مثيرا: هل يمكن أن يولد "انحياز آلي جديد" يختلف عن انحياز البشر لكنه لا يقل خطرا عنه؟ فالنظام الذي يعيد تعريف الحياد وفق معادلات إحصائية، قد يهمش أصوات الأقليات أو يذيب التفاصيل الدقيقة التي لا تملك تمثيلا رقميا كافيا. على سبيل المثل، في قضايا الهوية الثقافية أو الروايات المحلية، قد تبدو الحقيقة في نظر الخوارزمية مجرد انحراف إحصائي صغير، بينما هي في نظر مجتمع ما جزء من ذاكرته الوجودية.

ومع أن ماسك حاول أن يخفف من هذه الانتقادات بتأكيده أن النظام يتعلم باستمرار ويصحح نفسه ذاتيا، فإن جوهر الاعتراض ظل قائما: من يعلم المعلم؟ فإذا كان البشر هم من يزودون النظام بياناته الأولية، فإن "حياده" يصبح انعكاسا لانحيازهم الجمعي لا تجاوزا له.

بعد سياسي

من الناحية الفكرية، يمكن القول إن "غروكيبيديا" تمثل انتقالا من "موسوعة المعرفة" إلى "موسوعة الوعي"، أي أنها لا تكتفي بتخزين المعلومات بل تحاول أن تفهم كيف تبنى القناعات. فهي تحلل السياقات، وتفكك اللغة، وتقدر التأثير النفسي للنصوص على المتلقي. هذه السمة جعلت بعض المتخصصين في علم الاجتماع الرقمي يصفونها بأنها "أول مشروع معرفي يتعامل مع الحقيقة كظاهرة ديناميكية قابلة للقياس". لكن هذا التوصيف نفسه يثير القلق، لأن تحويل الحقيقة إلى رقم، يعني ضمنا تحويل الإنسان إلى متغير إحصائي، وهو ما قد يفتح الباب أمام أنماط جديدة من السيطرة المعرفية المغلفة بالتكنولوجيا.

ولعل أكثر ما يثير التساؤل في فلسفة "غروكيبيديا" هو غياب "المسؤولية الفردية". ففي "ويكيبيديا"، يمكن معرفة من حرر المقال ومن راجعه ومن رفض تعديلاته، أما في النظام الجديد، فإن الخوارزميات تتخذ القرارات وفق معايير غير مرئية تماما للمستخدم. أي أن الحياد هنا ليس نتاجا لمداولات بشرية، بل لحسابات مغلقة يصعب مساءلتها. وقد عبر أحد الخبراء عن هذا الإشكال قائلا: "في ويكيبيديا يمكنك أن تختلف مع إنسان، أما في غروكيبيديا فأنت تختلف مع آلة لا تجيبك".

من جهة أخرى، لا يمكن إغفال البعد السياسي للمشروع، فإيلون ماسك، الذي كثيرا ما دخل في صدامات مع وسائل الإعلام الغربية بسبب ما يراه "تحيزا مؤسساتيا ضد حرية التعبير"، يبدو أنه أراد أن يقدم منصة تتجاوز وساطة الصحافيين والمحررين والمؤسسات. ومن خلال "غروكيبيديا"، يضع نفسه في موقع "المحرر الأعظم للعصر الرقمي"، لا بوصفه كاتبا أو مراقبا، بل كمهندس للبيئة التي تنتج فيها المعرفة. بهذا المعنى، فإن المشروع لا يتحدى "ويكيبيديا" فحسب، بل يتحدى النموذج الثقافي الذي قامت عليه الحداثة الغربية نفسها، حيث الكلمة الأخيرة للبشر لا للخوارزميات.

لكن يبقى السؤال الأعمق: هل يحتاج العالم حقا إلى موسوعة جديدة؟ فمنذ تأسيس "ويكيبيديا" قبل أكثر من عقدين، لم يعد هناك نقص في المعلومات بقدر ما هناك تخمة منها. التحدي اليوم ليس في "كم ما نعرف"، بل في "من نصدق". وإذا كانت "غروكيبيديا" تسعى لتقديم معرفة بلا تحيز، فإن الخطر الأكبر يكمن في أن تتحول إلى مرجع وحيد للحقيقة، لأن احتكار الحياد لا يقل خطورة عن احتكار الرأي. المعرفة، في جوهرها، فعل جماعي لا يختصر في معادلة أو كود.

قد يكون مشروع ماسك، بكل طموحه، خطوة نحو إعادة التفكير في علاقة الإنسان بالمعرفة، لكنه أيضا يفتح الباب لمرحلة جديدة من إعادة هندسة الوعي. فبينما تتحكم خوارزميات "تيك توك" في العاطفة والانتباه، تسعى "غروكيبيديا" إلى ضبط المعنى والذاكرة. وهكذا تمسك التكنولوجيا بخيوط الوعي من طرفيه، الشعور والمعلومة. وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد يصبح العالم في المستقبل أمام معادلة خطيرة، حيث تصاغ القناعات لا في الجامعات ولا في الصحف، بل في مختبرات الشركات العملاقة التي تمتلك الخوارزميات.

font change

مقالات ذات صلة