مستقبل الذكاء الاصطناعي كما يراه ترمب

عسكرة وسيطرة وفوز...

 سول لوب / بول / وكالة فرانس برس
سول لوب / بول / وكالة فرانس برس
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الصيني شي جين بينغ يتصافحان قبل اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في هامبورغ، ألمانيا، 8 يوليو 2017.

مستقبل الذكاء الاصطناعي كما يراه ترمب

يشهد العالم سباقا محموما نحو الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تتنافس الدول الكبرى على تحقيق الريادة في هذا المجال الذي يُتوقع أن يعيد تشكيل المشهد الاقتصادي والعسكري العالمي. ترى بعض القوى، مثل الولايات المتحدة، أن امتلاك أكبر نظام بيئي للذكاء الاصطناعي سيمكنها من وضع المعايير العالمية وجني فوائد اقتصادية وعسكرية واسعة النطاق، معتبرة هذا السباق لا يقل أهمية عن "سباق الفضاء" الذي شهدته البشرية سابقا.

ففي تحول لافت يعكس ملامح المرحلة المقبلة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب خطة وطنية شاملة للذكاء الاصطناعي، تعامل هذه التكنولوجيا الناشئة ليس كمجرد أداة تطويرية، بل كسلاح استراتيجي في سباق تسلح عالمي.

لا تندرج هذه الخطة ضمن السياسات التقنية التقليدية، بل تحمل طابعا تعبويا واضحا، يضع الذكاء الاصطناعي في صميم معادلة الأمن القومي والهيمنة الجيوسياسية. إذ تُظهر وجهات النظر الأميركية الأخيرة تركيزا كبيرا على الحفاظ على التفوق في الذكاء الاصطناعي، كما جاء في خطة عمل نشرها البيت الأبيض في يونيو/حزيران الماضي أكدت ضرورة "إزالة الحواجز أمام القيادة الأميركية في الذكاء الاصطناعي"، بهدف تعزيز الهيمنة الأميركية في هذا المجال.

ويُعتقد أن الفوز في هذا السباق سيبشر بـ"عصر ذهبي جديد" يجمع بين الازدهار البشري، والقدرة التنافسية الاقتصادية، والأمن القومي.

يطرح تصور أن الذكاء الاصطناعي سيقود إلى ثورة صناعية عبر اكتشاف مواد جديدة، وتصنيع مواد كيميائية، وإنتاج أدوية، وتطوير مصادر طاقة جديدة. كما يتوقع أن يحدث ثورة معلوماتية من خلال أشكال مبتكرة للتعليم والإعلام والاتصال. علاوة على ذلك، يُنظر إليه على أنه سيشعل "نهضة" فكرية تمكن من فك رموز المخطوطات القديمة، وتحقيق اختراقات علمية ورياضية، وإنشاء أشكال فنية جديدة.

ويرى المسؤولون الأميركيون وفي مقدمهم مايكل كراتسيوس، مساعد الرئيس للعلوم والتكنولوجيا، وديفيد ساكس، المستشار الخاص للذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة، وماركو روبيو مساعد الرئيس لشؤون الأمن القومي، أن الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي سيبشر بعصر ذهبي جديد من الازدهار البشري، والقدرة التنافسية الاقتصادية، والأمن القومي للشعب الأميركي. سيمكن الذكاء الاصطناعي الأميركيين من اكتشاف مواد جديدة، وتصنيع مواد كيميائية جديدة، وإنتاج أدوية جديدة، وتطوير طرق جديدة لتسخير الطاقة - ثورة صناعية كما سيمكن أشكالا جديدة تماما من التعليم، والإعلام، والاتصال بالإضافة إلى إنجازات فكرية جديدة تماما، من ضمنها فك رموز المخطوطات القديمة التي كان يُعتقد أنها غير قابلة للقراءة، وتحقيق اختراقات في النظرية العلمية والرياضية، وإنشاء أنواع جديدة من الفن الرقمي والمادي - نهضة.

وقال ترمب إن خطته الجديدة تفتح آفاقا جديدة من الاكتشاف العلمي التي تحددها تقنيات تحويلية كالذكاء الاصطناعي... وللاختراقات في هذه المجالات القدرة على إعادة تشكيل توازن القوى العالمي، وتحفيز صناعات جديدة كليا، وإحداث ثورة في أسلوب حياتنا وعملنا، "وبينما يتسابق منافسونا العالميون لاستغلال هذه التقنيات، فإن تحقيق هيمنة تكنولوجية عالمية لا جدال فيها والحفاظ عليها يعد ضرورة أمنية وطنية للولايات المتحدة. ولتأمين مستقبلنا، يجب علينا تسخير كامل قوة الابتكار الأميركي".

تدعو الخطة إلى إطلاق مراجعة شاملة للأنظمة الفيديرالية التي تعيق التطوير، ومنع توجيه التمويل الفيديرالي إلى الولايات ذات القوانين "الخانقة" تقنيا

استخدم الرئيس الأميركي ترمب لغة مباشرة وصارمة، من قبيل: "علينا أن نفوز بهذا السباق"، مؤكدا أن التأخر في مجال الذكاء الاصطناعي يعني التخلف في ميدان المعركة المستقبلية، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السيبراني أو العسكري. ولم يخف ترمب رؤيته لهذا التنافس بوصفه "سباق تسلح تقنيا"، تخوضه قوى معادية مثل الصين وروسيا، تسعى لفرض نموذجها الاستبدادي عبر السيطرة على أدوات الذكاء الاصطناعي، والبيانات، والبنية التحتية الرقمية.

وجاءت الخطة تحت غطاء حماية الاقتصاد الوطني وتعزيز الأمن القومي، لكنها استخدمت مصطلحات ذات طابع عسكري واضح، مثل: "مناقسون"، و"ميدان المعركة الرقمية"، و"الردع السيبراني"، و"السيطرة على ساحة الخوارزميات" — وهي مفردات تعكس وعيا متزايدا لدى واضعي الخطة بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد ترفا تقنيا أو خيارا استراتيجيا، بل قضية مصيرية تتعلق ببقاء الهيمنة الأميركية في مواجهة منافسين شرسين.

بهذا المنظور، لم تعد الولايات المتحدة تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كملف تكنولوجي محض، بل كأولوية سيادية تتطلب تعبئة وطنية شاملة. وهذا التحول يعكس رؤية استراتيجية جديدة، إذ لم تعد الحروب المقبلة تُحسم عبر الترسانات النووية أو الجيوش التقليدية، بل عبر امتلاك الخوارزميات الأذكى، والنماذج الأقوى، والقدرة على السيطرة على تدفقات البيانات وتحليلها في الزمن الحقيقي.

تسريع الابتكار

في قلب رؤية دونالد ترمب لمستقبل الذكاء الاصطناعي تقف "الركيزة الأولى" من خطته الوطنية الطموحة، التي تدعو إلى تسريع الابتكار في هذا المجال، ليس فقط لتأمين الريادة التقنية للولايات المتحدة، بل أيضا لضمان تفوقها الاقتصادي والعسكري في عالم يعاد تشكيله بواسطة الخوارزميات.

وترى الخطة أن السبيل لتحقيق ذلك لا يمر عبر التوسع في دور الدولة، بل من خلال تمهيد الطريق أمام الابتكار بقيادة القطاع الخاص. فالهدف، بحسب الوثيقة، هو خلق بيئة تنظيمية تحرر الشركات من القيود البيروقراطية، وتمنحها مساحة للتحرك السريع، والتجريب الحر، وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي من دون خوف من التدخلات الحكومية المتزايدة.

تعهدت إدارة ترمب إلغاء ما تصفه بـ"الأوامر التنفيذية المقيدة" التي أصدرها الرئيس بايدن، وفي مقدمها الأمر التنفيذي رقم 14110 الذي وضع أسسا تنظيمية للذكاء الاصطناعي تحت شعار "الأمان والثقة"، وهو توجه تعتبره خطة ترمب بمثابة خنق مبكر للابتكار قد يعرقل الريادة الأميركية في هذا المجال. وبدلا من التنظيم المسبق، تدعو الخطة إلى إطلاق مراجعة شاملة للأنظمة الفيديرالية التي تعيق التطوير، ومنع توجيه التمويل الفيديرالي إلى الولايات ذات القوانين "الخانقة" تقنيا، فضلا عن مراجعة ممارسات لجنة التجارة الفيديرالية لضمان عدم استخدامها كأداة ضغط ضد مطوري الذكاء الاصطناعي في قضايا المنافسة.

تضع خطة ترمب دعم النماذج مفتوحة المصدر والأوزان في صميم رؤيتها للذكاء الاصطناعي، معتبرة إياها أداة استراتيجية لتقليص هيمنة الشركات الكبرى وتمكين الأكاديميين والشركات الناشئة من الابتكار بحرية. ولا تقتصر أهمية هذا التوجه على تعزيز التطوير المحلي، بل تمتد إلى الساحة الجيواستراتيجية، حيث تراهن الخطة على أن تتحول النماذج الأميركية المفتوحة إلى معايير عالمية. ولتحقيق ذلك، تقترح الخطة إنشاء سوق مالية مخصصة للحوسبة عالية الأداء تتيح استئجار الموارد بدلا من شرائها، وتعزيز البنية التحتية الوطنية عبر منصة الموارد (NAIRR)، إلى جانب إصدار خطة جديدة للبحث والتطوير بقيادة مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا.

تتمحور "الركيزة الثالثة" من خطة ترمب للذكاء الاصطناعي حول مبدأ أساس: لا يكفي للولايات المتحدة أن تتفوق محليا في الذكاء الاصطناعي، بل يجب أن تقود النظام الدولي الذي يحدد كيف يُستخدم، وأين، ومن يمتلك مفاتيحه.

تشير الخطة إلى أن العائق الحقيقي أمام الاستفادة الكاملة من الذكاء الاصطناعي لا يكمن في نقص النماذج أو الأدوات، بل في بطء اعتمادها، لا سيما في القطاعات الحيوية مثل الصحة والزراعة والطاقة.

ولمواجهة هذا البطء، تدعو الخطة إلى إنشاء "مناطق اختبار تنظيمية" تسمح بالتجريب السريع، وإنشاء مراكز تفوق للذكاء الاصطناعي في مجالات محددة، مع إشراك الجهات التنظيمية في تمكين هذا التحول.

تطرح خطة ترمب تصورا شموليا لتسريع الابتكار، يبدأ بإزالة العوائق البيروقراطية، ويمر بحماية القيم الأميركية في نماذج الذكاء الاصطناعي، ويدعم النماذج المفتوحة، ويستهدف القطاعات المتأخرة بالتبني، وينتهي عند تمكين الأفراد من أدوات الذكاء الاصطناعي لتعظيم الإنتاجية وحماية الوظائف.

وهي بذلك لا تقدم فقط خطة عمل تقنية، بل إطارا سياسيا واقتصاديا وأيديولوجيا يضع الذكاء الاصطناعي في قلب معركة النفوذ العالمي، ويعكس رؤية ترمب للعالم: سباق لا يرحم، يحتاج إلى تحرر، تفوق، وحسم.

بنية تحتية أميركية

تشير الخطة إلى أن النظام الحالي لتصاريح البناء والبيئة في الولايات المتحدة يمثل عقبة رئيسة أمام إنشاء البنية التحتية المطلوبة بسرعة كافية. وتدعو إلى تسريع التصاريح البيئية، وتبسيط اللوائح بموجب قوانين مثل قانون الهواء النظيف والماء النظيف، فضلا عن إتاحة الأراضي الفيديرالية لإنشاء مراكز بيانات ومرافق طاقة. كما تؤكد الخطة ضرورة حماية هذه البنية من الاختراقات أو التأثيرات الأجنبية، وتوسيع استخدام الذكاء الاصطناعي لتسريع مراجعات التصاريح البيئية.

أما على مستوى شبكة الكهرباء، فتطرح الخطة رؤية من ثلاث مراحل: أولا تثبيت الشبكة الحالية ومنع إغلاق محطات طاقة رئيسة، ثم تحسين كفاءتها عبر تقنيات إدارة متقدمة، وأخيرا توسيع الشبكة لاستيعاب الطفرات المستقبلية في الطلب، من خلال مصادر طاقة جديدة مثل الانشطار والانصهار النووي والطاقة الحرارية المعزّزة.

رويترز/كينت نيشيمورا
يحمل الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمرا تنفيذيا يتعلق بالذكاء الاصطناعي بعد توقيعه عليه خلال قمة "الفوز في سباق الذكاء الاصطناعي" في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 23 يوليو 2025.

في ميدان تصنيع الرقائق، تسعى الإدارة إلى إعادة سلاسل الإنتاج إلى الداخل الأميركي، مع التركيز على النتائج والعائد على استثمار دافعي الضرائب، وتجنب الاشتراطات السياسية. ويشجَّع دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في عمليات التصنيع لرفع الكفاءة.

وفي جانب الأمن القومي، تدعو الخطة إلى بناء مراكز بيانات عالية الأمان تخدم المؤسسات العسكرية والاستخباراتية، وتطوير معايير فيديرالية لهذه البنى التحتية بالتعاون مع جهات مثل البنتاغون ووكالات الأمن القومي، كما تقر بالحاجة إلى قوة عاملة مدربة قادرة على تشغيل هذه البنية التحتية، بدءا من الفنيين وحتى المهندسين. وتطرح سلسلة مبادرات تشمل الشراكة مع قطاع التعليم والتدريب المهني، وتوسيع برامج التلمذة الصناعية، وتحديث مناهج التعليم الفني لتتماشى مع متطلبات البنية التحتية الجديدة.

تولي الخطة اهتماما خاصا بأمن البنية التحتية الرقمية، من خلال تعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي في الدفاع السيبراني، وضمان "أمن التصميم" في أنظمة الذكاء الاصطناعي، وتأسيس استجابة طارئة فعالة لحوادث الاختراق أو فشل الأنظمة، بما يشمل تحديث أدلة الاستجابة للطوارئ الإلكترونية على مستوى الحكومة والقطاع الخاص.

ركيزة ثالثة

تتمحور "الركيزة الثالثة" من خطة ترمب للذكاء الاصطناعي حول مبدأ أساس: لا يكفي للولايات المتحدة أن تتفوق محليا في الذكاء الاصطناعي، بل يجب أن تقود النظام الدولي الذي يحدد كيف يُستخدم، وأين، ومن يمتلك مفاتيحه. هذه الركيزة تدمج بين تصدير النفوذ التكنولوجي، واحتواء الخصوم الجيوسياسيين، وتحصين الأمن القومي الأميركي ضد التهديدات الناشئة.

تركز خطة ترمب على تصدير "الحزمة الأميركية الكاملة" من تقنيات الذكاء الاصطناعي – من العتاد إلى النماذج والبرمجيات والمعايير – إلى الدول الحليفة، في محاولة لسد الفراغ الذي قد تستغله الصين أو قوى منافسة أخرى للنفاذ إلى شبكات الشركاء. وترى الخطة أن الإحجام عن تلبية هذا الطلب العالمي يُعد "خطأ ذاتيا" يضعف النفوذ الأميركي. ولتحقيق ذلك، تقترح إنشاء برنامج داخل وزارة التجارة لتلقي مقترحات من تحالفات صناعية لتصدير حزم متكاملة، مع تنسيق مشترك مع وزارة الخارجية، والبنك الأميركي للتصدير، ووكالة التمويل التنموي لضمان توافق هذه الصادرات مع متطلبات الأمن القومي.

تمثل خطة ترمب للذكاء الاصطناعي إعلانا صريحا بعسكرة هذا المجال، ليس فقط من خلال لهجتها المباشرة، بل عبر أهدافها وآليات تنفيذها


كما تحذر الخطة من تصاعد نفوذ الصين في الهيئات الدولية المعنية بوضع معايير الذكاء الاصطناعي، خاصة في مجالات مثل التعرف الى الوجه والمراقبة، حيث ترى أن بكين تسعى إلى ترسيخ نموذج سلطوي منافس للقيم الغربية. وتنتقد الخطة الأطر الدولية التي تصفها بأنها تروج لقيم "غامضة أو مناهضة للقيم الأميركية"، داعية إلى توجيه الدبلوماسية الأميركية نحو فرض نموذج حوكمة يعكس الابتكار والحرية الغربية. وتشمل الإجراءات المقترحة استخدام النفوذ الأميركي داخل هيئات مثل الأمم المتحدة، ومجموعة السبع والعشرين، والاتحاد الدولي للاتصالات، لمجابهة محاولات الصين "تسييس" المعايير الفنية والدفع بمعايير موالية لأميركا.

تعتبر الخطة أن التحكم في شرائح الحوسبة المتقدمة هو سلاح استراتيجي في الصراع الجيوسياسي. ومن هذا المنطلق، تدعو إلى تشديد الرقابة على تصدير هذه الشرائح، بما يشمل استخدام تقنيات التحقق من الموقع الجغرافي لضمان عدم استخدامها في "دول مثيرة للقلق". وتقترح تطوير أدوات لرصد وتتبع أماكن استخدام الشرائح المتقدمة بالتعاون مع القطاع الخاص، إضافة إلى إطلاق تعاون استخباراتي–تجاري لرصد عمليات التهريب وتحليل أخطار تصدير العتاد.

تشير الخطة إلى أن الخصوم لا يحتاجون إلى امتلاك مصانع لإنتاج الشرائح المتقدمة، بل يكفيهم الوصول إلى المكونات الدقيقة داخل معدات التصنيع. وللتعامل مع هذه الثغرة، تدعو إلى توسيع نطاق الرقابة ليشمل الأنظمة الفرعية والمكونات الدقيقة، وليس فقط المعدات الكاملة، وفرض قيود تصديرية شاملة على هذه العناصر الحيوية.

ترى الخطة أن فعالية القيود الأميركية على تصدير التقنيات تعتمد على التزام الحلفاء النهج نفسه، لتجنب أن يتحولوا إلى ثغرات مفتوحة في السلسلة العالمية. وتدعو في هذا السياق إلى ممارسة ضغوط دبلوماسية – وربما اقتصادية – على الدول الحليفة لتبني سياسات رقابية مماثلة. كما تقترح إعداد خطة دبلوماسية تكنولوجية متكاملة تنسق بين وزارات الخارجية والدفاع والطاقة، وإنشاء تحالفات جديدة خارج الأطر متعددة الأطراف لتسريع وتوسيع نطاق فرض القيود.

تعتبر الخطة أن النماذج الأميركية المتقدمة تمثل صورة أولية لما قد تصل إليه قوى معادية في المستقبل، مما يجعل تقييمها الأمني أولوية مبكرة. وتدعو إلى تعاون وثيق مع المطورين لتحليل هذه النماذج وفهم الأخطار السيبرانية والبيولوجية المرتبطة بها، وكذلك لتحديد احتمالات وجود "أبواب خلفية" قد تُستغل إذا استُخدمت نماذج الخصوم داخل البنية التحتية الأميركية. كما تقترح تجنيد أفضل الباحثين في الوكالات الفيديرالية لتولي هذه المهمة.

كما تحذر أيضا من إمكان استغلال الذكاء الاصطناعي لتصميم جزيئات أو فيروسات خطيرة، داعية إلى فرض رقابة صارمة على أدوات تصنيع الأحماض النووية ومستخدميها. وتقترح إلزام المؤسسات البحثية التي تتلقى تمويلا اتحاديا باستخدام أدوات فحص جيني معتمدة، فضلا عن بناء آلية فعالة لمشاركة البيانات بين مزودي أدوات التصنيع الحيوي لرصد أي أنشطة مشبوهة أو عملاء مريبين.

عسكرة سباق الذكاء الصناعي

تمثل خطة ترمب للذكاء الاصطناعي إعلانا صريحا بعسكرة هذا المجال، ليس فقط من خلال لهجتها المباشرة، بل عبر أهدافها وآليات تنفيذها. فالذكاء الاصطناعي في الوثيقة يقدم كسلاح استراتيجي فاصل، والدول التي تتقدم في تطويره ستحقق تفوقا شاملا، اقتصاديا، واستخباراتيا، وأمنيا. وقد امتلأت التصريحات والوثائق الخاصة بالخطة بمصطلحات عسكرية الطابع، مثل "التفوق السيبراني"، و"مسرح العمليات الرقمية"، و"تعزيز الردع"، و"مقاومة النفوذ الأجنبي"، و"تحصين الفضاء المعلوماتي الأميركي".

بذلك، تنتقل الولايات المتحدة من مرحلة تنظيم الذكاء الاصطناعي إلى ما يشبه حالة تعبئة وطنية تكنولوجية، توازي في منطقها حملات التسلح التقليدية إبان الحرب الباردة. لكن أدوات هذه المواجهة ليست صواريخ أو غواصات نووية، بل خوارزميات، ونماذج لغوية ضخمة، وأنظمة قيادة ذاتية قائمة على الذكاء الاصطناعي. إنه سباق تسلح من نوع جديد – غير نووي في ظاهره، لكن لا يقل فتكا في آثاره.

وتحمل هذه "العسكرة" للذكاء الاصطناعي بعدا رمزيا بالغ الدلالة: فواشنطن لم تعد ترى نفسها مجرد جهة تنظيمية أو حَكم محايد في ساحة الذكاء الاصطناعي العالمية، بل تسعى لتكون القائد الميداني لهذه الساحة. إنها لحظة استعادة للهيمنة الرقمية، مبنية على قناعة مفادها أن من لا يملك الذكاء الاصطناعي، لن يملك المستقبل.

الطموحات تصطدم بتناقض جوهري في السياسة الأميركية نفسها، إذ تقيدها قوانين تصدير التكنولوجيا مثل لوائح إدارة التصدير وقاعدة المنتج الأجنبي


ما يميز خطة ترمب ليس فقط خطابها الصدامي، بل قدرتها على ترجمة هذا الخطاب إلى إجراءات تنفيذية حازمة. فواحدة من أبرز خطواتها هي إصدار أوامر بتسريع التصاريح الفيديرالية لبناء مراكز بيانات عملاقة ومجمعات حوسبة عالية الأداء – وهو ما يعادل، في قاموس الحرب الباردة، بناء قواعد عسكرية أو منشآت نووية. هذه المراكز لم تعد مجرد بنية تحتية رقمية، بل تعامل كبؤر استراتيجية للأمن القومي الأميركي في سباق السيطرة على الذكاء الاصطناعي.

وفي خطوة عملية على هذا الطريق، أعلنت وزارة الطاقة الأميركية تحديد أربعة مواقع فيديرالية لإنشاء مراكز بيانات ضخمة مخصصة للذكاء الاصطناعي، في مختبر آيداهو الوطني، ومحمية أوك ريدج، ومنشأة بادوكا لتخصيب اليورانيوم، وموقع سافانا ريفر. اللافت أن هذه المواقع تقع على أراض ذات بنية طاقية ونووية متقدمة – تضم محطات نووية وخطوط نقل كهرباء عالية الجهد ومراكز غاز – مما يشير إلى تداخل استراتيجي بين البنية الرقمية والبنية النووية في عقل الدولة.

 سول لوب / بول / وكالة فرانس برس

وتجاوزت الخطة مستوى تحديد المواقع، إذ عززها ترمب هذا الأسبوع بقرار تنفيذي يلغي القيود البيئية المرتبطة بمشاريع الطاقة المرافقة لمراكز البيانات، ويأمر الوكالات الفيديرالية بتسريع الموافقات والتقييمات البيئية، بما يضمن انطلاق البناء بأقصى سرعة ودون عوائق بيروقراطية أو اعتراضات من جماعات البيئة.

وتُظهِر الخطة أن هذا التوجه العسكري ليس مجرد رغبة في الهيمنة، بل هو رؤية متكاملة تُسخَّر لها مؤسسات الدولة كافة. فترمب وجه الوكالات الفيديرالية بمنح الأولوية القصوى لإنشاء مراكز البيانات باعتبارها "بنية تحتية سيادية" لا تقل أهمية عن مصانع الأسلحة في الحرب الباردة. كما أصدر تعليمات لتسهيل تصدير نماذج الذكاء الاصطناعي الأميركية إلى الدول الحليفة، كأداة للحد من تمدد النفوذ الصيني والروسي في الجنوب العالمي – وهي مقاربة تشبه إلى حد كبير سياسات تصدير السلاح مقابل النفوذ التي اتبعتها واشنطن في القرن العشرين.

أما داخليا، فقد ألزم ترمب الوكالات استخدام نماذج ذكاء اصطناعي "محايدة أيديولوجيا"، لا تتنازل عن الدقة أو تخضِع نتائجها لأجندات سياسية. والنتيجة هي توجيه مباشر لبناء خوارزميات تراعي المصالح الوطنية الأميركية – ليس فقط في الأمن، بل حتى في إنتاج المحتوى وتحليل البيانات. إنها محاولة لصناعة ذكاء اصطناعي ناعم لكنه موجه، يمكن الوثوق به كسلاح ثقافي وفكري في يد الدولة.

باختصار، ترمب لا يريد فقط المنافسة في هذا السباق – بل يريد حسمه، وبأدوات الدولة كافة: من التشريع إلى التمويل، ومن البنية التحتية إلى التوجيه السياسي للمخرجات التقنية. إنها تعبئة قومية شاملة، يخاض فيها السباق وكأنه حرب وجود.

سلاح جيوسياسي

تقوم خطة ترمب للذكاء الاصطناعي على رؤية استراتيجية طموحة تهدف إلى فرض الهيمنة الأميركية الكاملة على السوق العالمية للذكاء الاصطناعي، ليس فقط عبر تلبية الطلب العالمي المتزايد، بل عبر إعادة توجيهه ليتكئ كليا على البنية التقنية الأميركية.

إلا أن هذه الطموحات تصطدم بتناقض جوهري في السياسة الأميركية نفسها، إذ تقيدها قوانين تصدير التكنولوجيا مثل لوائح إدارة التصدير وقاعدة المنتج الأجنبي، والتي تهدف إلى حرمان الخصوم – وفي مقدمهم الصين – من أدوات الذكاء الاصطناعي الأساسية.

ومع ذلك، تبين الخطة وجود مرونة تكتيكية تسمح أحيانا بتصدير محدود، كما في حالة شريحة Nvidia H20، في إطار ما يشبه سياسة "الإدمان الرقمي الموجه"، حيث تُصدّر واشنطن التكنولوجيا ولكنها تحتفظ بالمفاتيح السيادية للبنية التحتية والبيانات ومراكز التدريب.

وتبرز هنا أهمية النماذج مفتوحة الوزن، التي تتيح للجهات الخارجية استخدام النماذج دون امتلاك السيطرة الكاملة عليها، مما يمنح الولايات المتحدة القدرة على التوسع في التأثير دون التفريط في السيطرة.

لا تبدو هذه الخطة مجرد برنامج لدعم الابتكار المحلي، بل هي جزء من عقيدة استراتيجية جديدة تعتبر الذكاء الاصطناعي سلاحا جيوسياسيا حاسما، تسعى من خلاله واشنطن إلى إعادة تشكيل موازين القوة العالمية وكتابة قواعد اللعبة من جديد، حيث السؤال لم يعد "من سيبتكر؟" بل "من سيسمح له بالابتكار؟".

font change