استراتيجية الصين في أميركا اللاتينية… رسم الجغرافيا الاقتصادية الجديدة

فرض واشنطن مصيرها لم يعد ممكنا

 Shutterstock
Shutterstock
الدولار الأميركي واليوان الصيني على خريطة البرازيل.

استراتيجية الصين في أميركا اللاتينية… رسم الجغرافيا الاقتصادية الجديدة

حين افتتح الرئيس الصيني شي جينبينغ ميناء تشانكاي العملاق في بيرو في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لم يكن يدشّن مشروعا صينيا عاديا خارج الحدود، بل كان ينفّذ رؤية أعادت تشكيل موازين القوة العالمية ثلاث مرات من قبل، وتتهيأ اليوم لفعل ذلك مجددا. فالمرفأ البحري العميق، بكلفته التي بلغت 1.3 مليار دولار، والقادر على استقبال أكبر سفن الحاويات في العالم، يمثل أجرأ محاولة صينية حتى الآن لإعادة كتابة الجغرافيا الاقتصادية للمحيط الهادئ، متحديا قرنين من الهيمنة الأميركية في نصف الكرة الغربي، عبر حملة بنى تحتية صبورة لن تكشف عن كامل تبعاتها الجيوسياسية إلا بعد عقود.

يقدّم تاريخ العالم الحديث نمطا واضحا: من يسيطر على الممرات البحرية الاستراتيجية لا يحدد فقط طرق التجارة العالمية، بل أيضا بنية القوة العالمية ذاتها. فقناة السويس، التي افتُتحت عام 1869، ألغت الحاجة إلى التفاف السفن الأوروبية حول رأس الرجاء الصالح، وقلّصت رحلة لندن–بومباي بمقدار ستة آلاف ميل. وقد شكّل التحكم البريطاني بالقناة حجر الزاوية في قوتها الإمبراطورية، مثبتا موقع لندن مركزا للمال والتجارة العالمية. وعندما أمّم الرئيس المصري جمال عبد الناصر القناة عام 1956، مثّل ذلك الأزمة التي أنهت نهائيا الهيمنة البريطانية والفرنسية، وأعلنت صعود الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

أما قناة بنما، التي اكتمل إنشاؤها عام 1914، فقد أعادت بدورها رسم أنماط التجارة العالمية. إذ ضغطت رحلة بطول ثمانية آلاف ميل حول رأس هورن إلى ممر لا يتجاوز 48 ميلا، فغيّرت جذريا اقتصاديات التجارة العابرة للمحيطات، ورسّخت مركزية الدور الأميركي في مياه الأطلسي والهادئ. كل سفينة بضائع تتحرك بين المحيطين كان عليها أن تمر عبر أراض خاضعة للسيطرة الأميركية، مانحة واشنطن إيرادات ونفوذا على تدفقات التجارة العالمية. وتجاوزت أهمية القناة حدود التجارة، إذ مكّنت البحرية الأميركية من إسقاط قوتها في محيطين معا، وهي قدرة حاسمة في الحربين العالميتين.

التحول الاقتصادي يمكن قياسه فعليا. فالصويا البرازيلية المتجهة إلى الأسواق الصينية تُشحن حاليا عبر موانئ الأطلسي مثل سانتوس، ثم تمر عبر بنما أو تلتف حول أميركا الجنوبية

ويبرز مضيق ملقا مثالا آخر على كيف تحدد الممرات الطبيعية الضيقة الجغرافيا السياسية المعاصرة. فحوالي 25 في المئة من شحنات النفط العالمية، و60 في المئة من واردات الطاقة الصينية، تمر عبر هذا الممر الضيق قبالة سواحل ماليزيا. وقد دفعت "معضلة ملقا" الصين إلى ضخ استثمارات ضخمة في ابتكار طرق بديلة: أنابيب برية عبر ميانمار وباكستان، وطرق ملاحية في القطب الشمالي، وممرات برية ضمن مبادرة الحزام والطريق عبر آسيا الوسطى.

وعلى خلفية هذا التاريخ، يتضح الطابع التحويلي لميناء تشانكاي. فالصين تخلق منفذا بحريا جديدا سيعيد هيكلة تدفقات التجارة عبر المحيط الهادئ، وينقل مركز الثقل الاقتصادي في فضاء المحيط من أميركا الشمالية إلى شرق آسيا. ويمثل ذلك ربما أهم تطور جيوسياسي في الأميركتين منذ الحرب الباردة، وإن كانت تبعاته الكاملة لن تتجلى إلا على مدى عقود، مع إعادة البنى التحتية تشكيل أنماط الاستثمار وسلاسل الإمداد والديناميات الاقتصادية القارية.

الرؤية الصينية ثنائية المحيطات

يستطيع ميناء تشانكاي استقبال سفن عملاقة تحمل ما يصل إلى 18 ألف وحدة مكافئة لعشرين قدما، وهي السفن التي باتت تهيمن على التجارة العابرة للمحيطات، لكنها أكبر من أن تمر عبر نظام أقفال قناة بنما المحدود بـ14 ألف وحدة. غير أن هذه الميزة، على أهميتها، تتضاءل أمام الدور الاستراتيجي للميناء بوصفه نقطة الارتكاز لممر ثنائي المحيطات يمتد 2600 ميل عبر أميركا الجنوبية، تموّله شركات صينية مملوكة للدولة. فشبكات السكك الحديدية والطرق والمرافق اللوجستية ستربط تشانكاي عبر جبال الأنديز إلى قلب الزراعة البرازيلية وثروات بوليفيا المعدنية، مولدة طرق تجارة جديدة بالكامل تتجاوز المسارات التقليدية عبر بنما.

أ.ف.ب
ميناء تشينغداو في مقاطعة شاندونغ شرق الصين في 3 نوفمبر 2025.

التحول الاقتصادي يمكن قياسه فعليا. فالصويا البرازيلية المتجهة إلى الأسواق الصينية تُشحن حاليا عبر موانئ الأطلسي مثل سانتوس، ثم تمر عبر بنما أو تلتف حول أميركا الجنوبية في رحلة تستغرق بين 35 و40 يوما. ولكن الفترة الزمنية سوف تتقلص عندما تسلك طريق تشانكاي والممر ثنائي المحيطات، فتصل الشحنة نفسها إلى شنغهاي خلال 23 يوما فقط، مع خفض تكاليف النقل بنحو 20 في المئة. بالنسبة لقارة طالما كبّلتها بنية تحتية متواضعة، يمثل ذلك تحولا جوهريا في إمكاناتها الاقتصادية.

بدأت الولايات المتحدة تدرك متأخرة ما فرّطت فيه نتيجة الإهمال الاستراتيجي في نصف الكرة الغربي

لكن الأهمية الاستراتيجية تتجاوز بكثير كفاءة الشحن. فميناء تشانكاي يخلق بنية تحتية تديرها الصين، محصنة ضد أي حصار أميركي محتمل. ففي أي سيناريو أزمة (حرب تجارية، نزاع عسكري حول تايوان، أو عقوبات شاملة على الصين) تصبح قناة بنما عرضة لضغوط مباشرة من واشنطن أو لمناورات دبلوماسية أو حصار بحري. أما تشانكاي الذي يعمل تحت السيادة البيروفية وبإدارة صينية، فيمنح بكين طرقا بديلة تملك عليها نفوذا مباشرا.

وعلاوة على ذلك، يعيد تشانكاي تدريجيا توجيه الاقتصاد في أميركا الجنوبية بما يعزز النفوذ الصيني. فالبنية التحتية ترسم أنماط التنمية لعقود. وعلى مدى خمسة قرون، توجهت المدن والصناعات وشبكات النقل في القارة نحو الأطلسي، انعكاسا للتاريخ الاستعماري والروابط التجارية مع أوروبا وأميركا الشمالية. أما الاستثمار الصيني، فيحوّل القارة حرفيا نحو المحيط الهادئ، جاعلا من بيرو وبوليفيا وغرب البرازيل بوابات إلى الأسواق الآسيوية بدلا من كونها مجرد أطراف لتجارة الأطلسي.

أ.ف.ب
نائب الرئيس البرازيلي الرئيس لويس إنسيو لولا دا سيلفا، ونائب الرئيس جيرالدو ألكمين، ومؤسس ورئيس شركة BYD، وانغ تشوانفو، وهم يقفون مع العمال خلال افتتاح مصنع سيارات BYD في كاماكاري، ولاية باهيا، البرازيل، في 9 أكتوبر 2025.

ستتغير الديناميات الاقتصادية في هذه المناطق استجابة للحوافز الجديدة. ستنمو المدن الواقعة على طول الممر ثنائي المحيطات، فيما تتراجع أهمية موانئ الأطلسي نسبيا. ستتمركز الصناعات قرب منفذ المحيط الهادئ لتقليل المسافة إلى الأسواق الآسيوية. وستحوّل المناطق الزراعية إنتاجها نحو محاصيل يطلبها المستهلكون الصينيون. هذه التغييرات ستخلق مسارات تنموية طويلة الأمد، تماما كما شكّلت قناة بنما هيمنة أميركية على نصف الكرة الغربي طوال القرن العشرين.

مشكلة بنما الأميركية

بدأت الولايات المتحدة تدرك متأخرة ما فرّطت فيه نتيجة الإهمال الاستراتيجي في نصف الكرة الغربي. فعندما سلّمت واشنطن إدارة القناة إلى بنما في 31 ديسمبر/كانون الأول 1999، بموجب معاهدات "توريخوس–كارتر"، لم تولِ اهتماما كافيا لمن سيتولى تشغيل الموانئ على طرفيها. إذ حصلت شركة "سي كي هاتشيسون هولدينغز"، المملوكة للملياردير من هونغ كونغ، لي كاشينغ، المرتبط بصلات وثيقة مع بكين، على امتيازات طويلة الأمد لموانئ بالبوا وكريستوبال. ورغم أن السيادة على القناة بقيت لبنما، فإن السيطرة الصينية على مرافقها الطرفية تمنح بكين نفوذا على تدفقات البضائع والتسعير وأولويات الخدمات اللوجستية.

حتى لو نجحت إجراءات عسكرية محتملة في إعادة فنزويلا إلى الفلك الأميركي، فإنها لن تغيّر الشروط البنيوية التي تجعل الانخراط الصيني جذابا لحكومات تنأى بنفسها عن واشنطن

وتدير الشركات الصينية أو تمتلك حصصا كبيرة في أكثر من عشرة موانئ رئيسة في أميركا اللاتينية. فشركة "كوسكو شيبنغ بورتس" تسيطر على محطات في بيرو والبرازيل والأرجنتين والأوروغواي، بينما تدير "تشاينا ميرتشانتس بورت هولدينغز" مرافق في كولومبيا وبنما. هذا التحكم في البنية التحتية يمنح الصين قوة بنيوية، لا عبر المواجهة المباشرة، بل من خلال السيطرة على الشريان الاقتصادي الذي تتدفق عبره التجارة.

وقد أدرك الرئيس دونالد ترمب هذه الهشاشة بوضوحه المعهود. فخلال حملته الانتخابية عام 2024، تعهد مرارا بـ"استعادة" قناة بنما، معتبرا أن السيطرة الصينية على مرافق الموانئ تهدد المصالح الاستراتيجية الأميركية. ورغم أن مصير موانئ بنما ما يزال غير محسوم، فإن خطابه يشير إلى أن واشنطن باتت أخيرا تعي خطورة الإهمال الاستراتيجي في فنائها الخلفي.

فنزويلا وحدود المواجهة

تطورت مقاربة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تجاه النفوذ الصيني في أميركا اللاتينية من إهمال برغماتي خلال ولايته الأولى إلى مواجهة صريحة في ولايته الثانية. ويبدو ذلك أوضح ما يكون في خطابه الأخير بشأن فنزويلا، حيث تعاظم الحضور الاقتصادي والعسكري الصيني والروسي تحت حكم نيكولاس مادورو، الذي يزداد استبدادا.

أ.ف.ب
قناة بنما في مدينة بنما في 23 ديسمبر 2024.

تجسد حالة فنزويلا ظاهرة أوسع في العالم النامي، وهي ملء الصين للفراغ الاستراتيجي الذي خلّفته الولايات المتحدة. فبينما عزلت العقوبات الأميركية نظام مادورو، تدخلت بكين عبر اتفاقيات "النفط مقابل القروض"، التي وفرت لكراكاس شرايين حياة. شركات صينية تدير اليوم حقول النفط في حزام أورينوكو، فيما تحتفظ البنوك الصينية الحكومية بديون فنزويلية كبيرة. أما روسيا فقد زوّدت فنزويلا بمعدات عسكرية وتدريب، بل ونشرت قاذفات استراتيجية مؤقتا في قواعد جوية فنزويلية. معا، شكّل هذا دعامة مقاومة للعقوبات أبقت مادورو في السلطة.

تجاوزا لأي إدارة أميركية حديثة، تعكس تهديدات ترمب العسكرية استعدادا لتصعيد المواجهة بهدف ترسيخ الرابط الاستراتيجي بين أميركا اللاتينية والولايات المتحدة، بما يوحي بإدارة مستعدة لفتح مسرح صراع في المنطقة يتجاوز حدود المواجهة الاقتصادية.

لكن هذه التهديدات تكشف أيضا حدود القوة الأميركية في نصف الكرة الغربي المتغير. فواشنطن لا تستطيع ببساطة طرد النفوذ الصيني والروسي عبر التلويح بالقوة. حكومة فنزويلا نفسها تدعو إلى هذه الشراكات، ولن تنسحب بكين أو موسكو لمجرد أن واشنطن تطلب ذلك. كما أن العمل الأحادي قد ينفّر شركاء أميركا اللاتينية الذين تحتاج واشنطن تعاونهم لمواجهة النفوذ الصيني إقليميا.

حتى لو نجحت إجراءات عسكرية محتملة في إعادة فنزويلا إلى الفلك الأميركي، فإنها لن تغيّر الشروط البنيوية التي تجعل الانخراط الصيني جذابا لحكومات تنأى بنفسها عن واشنطن.

استسلام الأرجنتين لقانون الجاذبية الاقتصادية

ربما لا توجد حالة أوضح لتناقض الخطاب مع الواقع من الأرجنتين تحت حكم الرئيس خافيير ميلي. هذا الاقتصادي الليبرالي وصل إلى السلطة أواخر عام 2023 متعهدا بالاصطفاف الحاسم مع الولايات المتحدة ضد الصين. قال ميلي: "لن نعقد اتفاقات مع الشيوعيين"، متوعدا بقطع العلاقات مع بكين وتوجيه الأرجنتين نحو واشنطن بلا تردد.

لكن الواقع سرعان ما بدّد هذه الطموحات. فالأرجنتين تواجه أزمة اقتصادية خانقة: تضخم يتجاوز 20 في المئة، احتياطيات أجنبية مستنزفة، والتزامات ديون وشيكة. الاستقرار يتطلب تدفقات رأسمالية وإيرادات تجارية لا تستطيع توفيرها سوى الصين على نطاق كاف. ورغم الرغبة السياسية، تبقى الصين ثاني أكبر سوق للصادرات الأرجنتينية، خصوصا لفول الصويا واللحوم.

غريزة ترمب في مواجهة النفوذ الصيني مباشرة– سواء عبر تهديدات في فنزويلا أو مطالب بإخراج الصين من الأرجنتين– ستأتي بنتائج عكسية. فالإكراه يولّد النفور، والنفور يدفع الشركاء إلى البحث عن بدائل أقل قسوة

في غضون أشهر انهار موقف ميلي. ففي يناير/كانون الثاني 2025، أعلنت حكومته تجديد اتفاق المبادلة النقدية بقيمة 18 مليار دولار مع البنك المركزي الصيني، وهو إجراء حيوي للحصول على العملات الأجنبية. وفي فبراير/شباط وافقت الحكومة على استمرار المشاريع الكهرومائية الممولة صينيا رغم تهديدات سابقة بإلغائها. وبحلول مارس/آذار، بدأ المسؤولون الأرجنتينيون يتفاوضون بهدوء على توسيع صادراتهم الزراعية إلى الصين.

وفي مايو/أيار 2025، صرّح ميلي بأن الأرجنتين ستسعى إلى "علاقات برغماتية" مع الصين مع الحفاظ على خلافاتها الأيديولوجية، وهو اعتراف صريح بقانون الجاذبية الاقتصادية. لقد اكتشف ما أدركه كثير من قادة أميركا اللاتينية قبله: أن رأس المال والأسواق الصينية ضرورية ماديا للبقاء الاقتصادي.

أميركا اللاتينية كجبهة بعيدة للصين

ما يجري في أميركا اللاتينية اليوم يمثل استجابة صينية لهشاشتها في زمن المواجهة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. فكما اعتمدت واشنطن على سلاسل الإمداد في جنوب شرق آسيا لتقليل اعتمادها على التصنيع الصيني، تبني بكين أميركا اللاتينية كمنطقة خلفية استراتيجية، شبكة بعيدة توفر لها الطاقة والموارد والمنتجات الزراعية التي تحتاجها، بديلا عن الطلب الأميركي. والأهم أن الصين توفر البنية التحتية التي تتجاوز نقاط الاختناق التي يمكن للولايات المتحدة التحكم بها في أي أزمة.

أ.ف.ب
سفينة شحن ترسو في ميناء تشينغداو بمقاطعة شاندونغ شرق الصين، 3 نوفمبر 2025.

على مدى عقود، خلقت العولمة تكتلات اقتصادية إقليمية فعالة: شرق آسيا للتصنيع، أوروبا للخدمات والصناعات المتقدمة، وأميركا اللاتينية للسلع الأولية المتدفقة أساسا إلى الأسواق الأميركية والأوروبية. هذا النموذج ينهار اليوم. فاستراتيجية الصين البعيدة في أميركا اللاتينية تؤسس تكاملا اقتصاديا عبر المحيط الهادئ، يتحدى أنماط التجارة التقليدية الموجهة نحو الأطلسي.

بالنسبة للولايات المتحدة، يمثل ذلك التحدي الأكبر لهيمنتها الإقليمية منذ إعلان مبدأ مونرو عام 1823. فقد استندت القوة الأميركية في نصف الكرة الغربي طوال قرنين إلى القرب الجغرافي، والتكامل الاقتصادي، وغياب منافسين نظراء بعد الاستعمار. أما الاستراتيجية الصينية، فتنقض ركائز هذا التفوق واحدة تلو الأخرى.

لم يعد القرب الجغرافي حاسما حين تربط البنية التحتية أميركا اللاتينية بالأسواق الآسيوية بكفاءة تفوق ربطها بالأسواق الأميركية. والتكامل الاقتصادي يميل إلى من يقدّم رأس مال أكبر وأسواقا أوسع وشروطا أقل، وهي مزايا باتت الصين تملكها بوضوح. وافتراض غياب المنافسين انهار تماما. فبكين لا تكتفي بمنافسة النفوذ الأميركي في الأميركتين، بل تبني أطرًا بديلة تجعل اقتصادات القارة أقل ارتباطا بشبكات التجارة والأنظمة المالية التي تسيطر عليها واشنطن.

الحساب الجديد لأميركا اللاتينية

مع اقتراب نهاية فصل الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الولايات المتحدة والصين– بفعل الرسوم الجمركية والقيود التكنولوجية وانعدام الثقة الاستراتيجي– تجد أميركا اللاتينية نفسها في موقع غير مسبوق. فهي في آن واحد حليف لواشنطن ومنافس محتمل لها، وشريك أمني في الوقت نفسه الذي تصبح فيه هدفا للتأثيرات الخارجية.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي في البيت الأبيض بواشنطن العاصمة، في 14 أكتوبر 2025.

لم يعد الحساب بسيطا. فالدولة قد تحافظ على تعاون أمني مع الولايات المتحدة، بينما تقبل تمويل البنية التحتية من الصين. قد تصدّر السلع إلى بكين وتستورد التكنولوجيا من واشنطن. قد تصوّت مع الولايات المتحدة في قضايا حقوق الإنسان بينما تشارك الصين في مشاريع التنمية.

هذا التعقيد يربك الاستراتيجيين الأميركيين، المعتادين على هياكل تحالفية تتعزز فيها العلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية معا. لكنه يعكس واقعا جديدا للمنافسة متعددة الأقطاب، حيث تسعى القوى المتوسطة إلى تعظيم استقلالها عبر رفض الاصطفاف الحصري.

التداعيات على واشنطن

الرسالة إلى الولايات المتحدة مقلقة: لا يمكن استعادة الهيمنة الإقليمية من خلال التهديدات العسكرية أو الضغوط الاقتصادية. فغريزة ترمب في مواجهة النفوذ الصيني مباشرة– سواء عبر تهديدات في فنزويلا أو مطالب بإخراج الصين من الأرجنتين– ستأتي بنتائج عكسية. فالإكراه يولّد النفور، والنفور يدفع الشركاء إلى البحث عن بدائل أقل قسوة.

كما أن واشنطن لا تملك القدرة على منافسة الصين دولارا بدولار في مشاريع البنية التحتية. فالالتزامات المطلوبة تفوق الإرادة السياسية الأميركية، وحتى لو ساوت حجم الإنفاق الصيني، لن يضمن ذلك النجاح الاستراتيجي.

لن تلغي استراتيجية الصين البعيدة النفوذ الأميركي كليا. فالقرب الجغرافي والروابط التاريخية يضمنان بقاء أهمية واشنطن

الخيار البديل يقتضي القبول بحقيقة غير مريحة: الوجود التجاري الصيني في أميركا اللاتينية مطلوب وسيتوسع. والأهم أن نصف الكرة، الذي تمارس دوله استقلالية استراتيجية حقيقية وتحافظ على علاقات مع قوى كبرى متعددة بناء على المصالح لا الأيديولوجيا، قد يخدم المصالح الأميركية على المدى الطويل أكثر من محاولات عقيمة لاستعادة الهيمنة.

النمط الذي أعاد تشكيل القوة العالمية عبر السويس عام 1869 وبنما عام 1914 يتكرر اليوم عبر تشانكاي عام 2024. لكن الفارق أن الولايات المتحدة تجد نفسها هذه المرة ليست مهندس التحول، بل القوة القائمة التي يزيحها منافس صاعد برأس مال صبور ورؤية طويلة الأمد في فنائها الخلفي.

لن تلغي استراتيجية الصين البعيدة النفوذ الأميركي كليا. فالقرب الجغرافي والروابط التاريخية يضمنان بقاء أهمية واشنطن. لكن فرضها مصير أميركا اللاتينية لم يعد ممكنا، والنفوذ يجب أن يُكتسب باستمرار لا أن يُفترض تلقائيا.

يبقى السؤال: هل تستطيع الاستراتيجية الأميركية أن تتحول من السعي الغريزي إلى الهيمنة إلى تنمية شراكات بصبر؟ الإجابة ستحدد ليس فقط موقع واشنطن في القارة، بل أيضا مستقبل قيادتها في عالم يزداد تعددية قطبية.

font change

مقالات ذات صلة