لماذا تخطئ رؤية ترمب الثنائية في قراءة عالم متعدد الأقطاب؟

المعركة الحقيقية لا تدور بين واشنطن وبكين

"المجلة"
"المجلة"

لماذا تخطئ رؤية ترمب الثنائية في قراءة عالم متعدد الأقطاب؟

بكين- حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن "مجموعة (G2) ستنعقد قريبا" قبيل لقائه في أكتوبر/تشرين الأول مع الرئيس الصيني شي جينبينغ في مدينة بوسان، لم يكن ذلك مجرد مجاملة دبلوماسية. فقد أعاد ترمب إحياء مفهوم لطالما اعتبر متجاوزا في أوساط السياسة الأميركية، في خطوة تعكس إعادة تصور جذرية لدور الولايات المتحدة في عالم ما بعد الأحادية القطبية.

لا شك أن مفهوم "جي تو" الذي يطرحه ترمب لا يمثل عودة إلى ثنائية الحرب الباردة، كما أن إعادة ضبطه البرغماتية للسياسة الخارجية الأميركية لا تشير إلى تحول نحو تقاسم حقيقي للسلطة العالمية. بل إن هذا الإطار الجديد يخدم المصالح الأميركية دون أن يحمل واشنطن مسؤولياتها السابقة كقوة أحادية مهيمنة. والأهم من ذلك، أن رد بكين الفعلي يكشف أن الصين، رغم قبولها الرمزي بتسمية "جي تو" أو "مجموعة الاثنين" لا تزال متمسكة برؤية مغايرة تماماً للنظام العالمي، رؤية تقوم على التعددية لا الثنائية.

"جي تو" ترمب ليست "جي تو" أيام بوش

نشأ مفهوم "جي تو" في الأوساط السياسية الأميركية بشكل أكثر تواضعا مما توحي به إعادة استخدامه اليوم. فقد اقترحه الاقتصادي فريد بيرغستن عام 2005 كحل عملي لتحديات ناشئة في ظل صعود الصين الاقتصادي خلال عهد الرئيس جورج بوش الابن. كانت الحاجة ملحة إلى آليات تعاون بين البلدين في قضايا دولية تتطلب من الصين أن تصبح طرفا مسؤولا في النظام العالمي، وبلغ المفهوم ذروته خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 حين لعبت بكين دورا محوريا في تنسيق الجهود لاحتواء الانهيار الاقتصادي العالمي.

الصين اليوم تمتلك اقتصادا أضخم وتكنولوجيا أكثر تقدّما مما كانت عليه حين طُرح المفهوم أول مرة، كما أن تحديثها العسكري قلّص الفجوة مع الولايات المتحدة بشكل ملحوظ

لكن واشنطن سرعان ما تخلت عن هذا الإطار، إذ انطوى مفهوم "جي تو" على ما اعتبره صانعو القرار الأميركيون أمرا غير مقبول، وهو الاعتراف الضمني بتكافؤ القوة بين الولايات المتحدة والصين. ومع نهاية عهد إدارة أوباما، دُفنت الفكرة بهدوء واستُبدلت بخطاب المنافسة الاستراتيجية وعقيدة "القرن الأميركي".

أما في بكين، فلم يحظ مفهوم "جي تو" باعتراف رسمي، لكنه لم يفقد جاذبيته الرمزية. فالصين في عهد شي جينبينغ سعت باستمرار إلى تثبيت مكانتها كقوة عظمى، وهو ما تجلى في تصريحاته المتكررة عن "صعود الشرق وانحدار الغرب". ومفهوم "جي تو" ، في جوهره، يمنح الصين ما تطمح إليه: الاعتراف الضمني بأنها باتت نداً شبه متكافئ للولايات المتحدة.

رويترز
أوراق نقدية من اليوان الصيني والدولار الأميركي في هذه الصورة التوضيحية الملتقطة في 29 سبتمبر 2022

أضرار متبادلة مضمونة... الإصدار الجديد

يعبّر تبنّي الرئيس الأميركي دونالد ترمب لفكرة "مجموعة الدولتين العظميين" عام 2025 عن تحوّل جوهري في الحسابات الاستراتيجية، يختلف كلياً عن السياق الذي نشأ فيه المفهوم في ظل السياسة الخارجية "الويلسونية" التي سعت إلى إشراك القوى الصاعدة في تحمّل المسؤوليات العالمية تحت القيادة الأميركية. أمّا ترمب، فقد استند إلى واقعية جاكسونية أكثر صلابة، ترى في الصين قوة لا يمكن احتواؤها، بل ينبغي التعايش معها وفق منطق المصالح.

فالصين اليوم تمتلك اقتصادا أضخم وتكنولوجيا أكثر تقدّما مما كانت عليه حين طُرح المفهوم أول مرة، كما أن تحديثها العسكري قلّص الفجوة مع الولايات المتحدة بشكل ملحوظ. ويبدو أن ترمب توصّل إلى قناعة بأن محاولات كبح الصين عبر القيود التكنولوجية والضغط عبر التحالفات لم تعد مجدية، وأن الأفضل، حين يتعذّر كسر الخصم، هو التعامل معه ضمن معادلة توازن دقيقة.

الولايات المتحدة والصين اليوم متداخلتان اقتصاديا بشكل عميق، والانفصال الكامل بينهما غير واقعي وليس محتملا، كما يدرك كلا الزعيمين

ومن هذا المنطلق، يمكن فهم لقاء بوسان في كوريا الجنوبية بين الرئيسين الأميركي والصيني في 30 أكتوبر/تشرين الأول على أنه هدنة مؤقتة في صراع طويل بين واشنطن وبكين. فقرار ترمب بوقف التصعيد يعكس إدراكا بأن القوتين تهيمنان على مجالات عالمية حيوية، وأن الضغط الأحادي لم يعد في واقع الحال فعالا لأن كلاً منهما قادر على إلحاق الأذى بالآخر بالمقدار نفسه. غير أن الوصول إلى توازن في الأضرار الاقتصادية لا يعني بالضرورة بناء شراكة مستقرة، بل يشير إلى حالة من الاستقرار الهش القائم على الخسائر المتبادلة المضمونة، استقرار يقوم على الخوف من التدمير المتبادل لا على الثقة أو التعاون الحقيقي.

هذا التحوّل في الموقف الأميركي واقعي في جوهره، لكنه لا يستند إلى مبادئ أو قيم. فقد وصف ترمب لقاءه مع شي بأنه "مذهل" مشيرا إلى أنه أسفر عن "كميات هائلة من فول الصويا ومنتجات زراعية أخرى". نظهر هذه اللغة أن ما جمع الطرفين لم يكن مشروع شراكة عالمية بين ندّين، بل صفقة تجارية بين قوتين كبيرتين. وينظر ترمب إلى إطار "جي تو" بوصفه وسيلة مريحة لعقد تفاهمات ثنائية خارج قيود الأطر المتعددة الأطراف والتحالفات التقليدية، وهو ما أتاح له التفاوض بعيدا عن مؤسسات كمنظمة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي وشركاء واشنطن الآخرين.

لقد شكّلت اتفاقيات خفض الرسوم الجمركية وترتيبات المعادن النادرة والتعهدات الخاصة بمكافحة تهريب الفنتانيل أبرز سمات هذه الدبلوماسية القائمة على الصفقات، لكنها لا تمثّل بأي حال الأساس لنظام عالمي مشترك تقوده قوتان.

"جي تو" ترمب ليست عودة إلى الحرب الباردة

إن تصور ترمب لمجموعة "جي تو" لا يشبه ذلك الذي ظهر في عهد بوش، ولا يمثل بأي حال من الأحوال إحياء لعالم ثنائي القطبية كما كان في حقبة الحرب الباردة. ففي تلك الحقبة، كان العالم منقسما بين قوتين عظميين– الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة– تتواجهان عبر انقسامات أيديولوجية وعسكرية، فيما اضطرت معظم الدول إلى الاصطفاف خلف أحد المعسكرين. وكانت أوروبا تفتقر إلى قوة مستقلة، وآسيا ساحة لحروب الوكالة الأيديولوجية.

أما اليوم، فالعالم يعمل وفق شروط بنيوية مختلفة تماما. فرغم تراجع قوة أوروبا، فهي لا تزال قطبا مستقلا يتمتع بثقل اقتصادي ومعياري معتبر. واليابان وكوريا الجنوبية لم تعودا مجرد حليفين أميركيين، بل فاعلان استراتيجيان لديهما طموحات إقليمية خاصة. كما برزت الهند كقوة عظمى حقيقية تسعى إلى موقع مستقل بين النفوذين الأميركي والصيني. أما الجنوب العالمي– من البرازيل إلى نيجيريا إلى فيتنام– فيسعى إلى استقلال استراتيجي بدلاً من الاصطفاف خلف كتل متنافسة.

وقد غيّرت طبيعة الترابط الاقتصادي معنى الثنائية القطبية نفسها. ففي الحرب الباردة، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي منفصلين اقتصادياً، وكانت قوتاهما تستند إلى القدرات العسكرية والجاذبية الأيديولوجية، لا إلى الاندماج في الاقتصاد العالمي. أما اليوم، فالولايات المتحدة والصين متداخلتان اقتصاديا بشكل عميق، والانفصال الكامل بينهما غير واقعي وليس محتملا، كما يدرك كلا الزعيمين.

يحمل إحياء ترمب لمصطلح "G2" مخاطر حقيقية، إذ يبالغ في تقدير قدرة واشنطن وبكين على إعادة تشكيل النظام العالمي من خلال مفاوضات ثنائية

وهذا يعني أنه، حتى لو توصّل ترمب وشي إلى توافق صريح بشأن "جي تو"– وهو ما لم يحدث– فإن تأثيره سيكون محدودا. ففي الحرب الباردة، كانت القوى العظمى قادرة فعلاً على تقسيم العالم إلى كتل أيديولوجية وفرض إرادتها عبر الحروب بالوكالة والدعاية. أما اليوم، فإن أي محاولة لتقسيم العالم ستُقابل فوراً برفض من قوى أخرى تملك القدرة على الاعتراض. فالسعودية، على سبيل المثال، لن تقطع علاقاتها الاقتصادية مع الصين مقابل الحماية العسكرية الأميركية، وفيتنام لن تتخلى عن استراتيجيتها التوازنية، والهند لن تقبل بعالم تُخضع فيه سياستها الخارجية للإرادة الأميركية.

رؤية من بكين: رفض ناعم لمفهوم ترمب الثنائي

ما يكشف الكثير في هذا السياق هو الطريقة التي ردت بها بكين على طرح الرئيس الأميركي دونالد ترمب لمفهوم "جي تو". فعلى الرغم من أن هذا الطرح ينطوي على اعتراف ضمني بتكافؤ نسبي بين الولايات المتحدة والصين، فإنه يبتعد كثيرا عن قبول حقيقي لفكرة قيادة ثنائية للنظام العالمي. بل على العكس، فإن أجندة "أميركا أولا" التي يتبناها ترمب، من السياسات الصناعية، إلى تحرير التكنولوجيا، وصولا إلى إعادة تنشيط التصنيع الأميركي، تهدف في جوهرها إلى ترسيخ الهيمنة الأميركية المطلقة في القرن الحادي والعشرين.

رويترز
يتصافح الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الصيني شي جينبينغ أثناء مغادرتهما مطار جيمهاي الدولي بعد اجتماع ثنائي على هامش قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في بوسان بكوريا الجنوبية في 30 أكتوبر

بكين لا ترفض إطار "جي تو" بشكل صريح، إذ إن ذلك قد يثير مواجهة غير ضرورية مع رئيس أميركي يمنحها اعترافا لم يسبق لأي رئيس آخر أن قدمه. لكنها في الوقت ذاته لا تقبله. وبدلاً من ذلك، يعمل المسؤولون الصينيون على إعادة تعريف المفهوم ذاته، ليس كنظام ثنائي تفرض فيه قوتان إرادتهما على العالم، بل كترتيب يسمح لقوتين كبيرتين بالتنسيق في قضايا مشتركة، ضمن التزام أوسع بالنظام التعددي. وقد جدّد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية موقف بلاده الثابت بأن الصين ستواصل التمسك بالتعددية الحقيقية والعمل من أجل عالم متعدد الأقطاب، متكافئ ومنظم.

بهذا، توافق بكين شكليا على إطار "جي تو"، لكنها ترفض جوهره. نعم، الصين والولايات المتحدة قوتان كبيرتان ذات تأثير عالمي، لكن ضمن عالم متعدد الأقطاب، وليس ثنائيا.

قوى خارج إطار "G2"

يحمل إحياء ترمب لمصطلح "G2" (جي تو) مخاطر حقيقية، إذ يبالغ في تقدير قدرة واشنطن وبكين على إعادة تشكيل النظام العالمي من خلال مفاوضات ثنائية. وقد أثار استخدامه لهذا المصطلح قلقا في عواصم الحلفاء، خشية أن تعقد الإدارة الأميركية صفقات مع الصين على حسابهم.

عبّر ترمب، بطريقته المباشرة المعتادة عن حقيقة أن واشنطن وبكين تفضلان إدارة التنافس على الانزلاق نحو أضرار متبادلة مضمونة. وهذا بحد ذاته ليس بالأمر الهيّن

لكن الإشكالية الأعمق تكمن في الرؤية التي يحملها ترمب للعالم، والتي تضع أوروبا واليابان والهند وغيرها في مرتبة أدنى. وهي رؤية تعكس الواقع الاستراتيجي بشكل مقلوب. فالعالم في عام 2025 لا يقوم على منافسة ثنائية بين واشنطن وبكين، بل على مشهد معقد تتداخل فيه الكتل الكبرى والقوى المتوسطة في صياغة النتائج، وتكتسب التحالفات الإقليمية فيه أهمية تتجاوز التنافس العالمي، ولا يمكن ترجمة القوة الاقتصادية والعسكرية تلقائيا إلى ولاء سياسي.

ما بعد الأحادية الأميركية

قد يستمر مفهوم "جي تو" كمصطلح دبلوماسي يستخدم للإشارة إلى اللقاءات الثنائية رفيعة المستوى. وقد يفضي إلى صفقات إضافية تخفف من التوترات التجارية وتمنح انطباعاً بوجود شراكة أميركية صينية في بعض القضايا. لكنه لن يؤدي إلى إعادة ترتيب جذرية في بنية الحوكمة العالمية، كما توحي العبارة. فالصين، عبر لغتها الدبلوماسية الدقيقة، أوضحت أنها لا تقبل بالافتراضات التي يقوم عليها هذا المفهوم. فهي لا ترى نفسها نصف قيادة مشتركة للعالم، بل قوة كبرى بين عدة قوى في عالم متعدد الأقطاب آخذ في التشكل.

وهذا التباين بين رؤية ترمب ورؤية الصين– بل وبينهما وبين الواقع الجيوسياسي لعام 2025– هو الإرث الحقيقي للقاء بوسان. لقد عبّر ترمب، بطريقته المباشرة المعتادة عن حقيقة أن واشنطن وبكين تفضلان إدارة التنافس على الانزلاق نحو أضرار متبادلة مضمونة. وهذا بحد ذاته ليس بالأمر الهيّن.

لكن المعركة الحقيقية لا تدور بين الولايات المتحدة والصين على قيادة عالم ثنائي، بل هي صراع بين رؤى متنافسة لما سيأتي بعد نهاية الأحادية الأميركية. والنتيجة لن تحددها فقط مفاوضات ترمب وشي، بل أيضا خيارات القوى الأخرى التي باتت تملك وزنا متزايدا في رسم ملامح النظام العالمي المقبل.

font change

مقالات ذات صلة