اليابان... قلق هادئ أمام العواصف الصينية وتبدّل المظلّة الأميركية

بعد جولة ميدانية شملت أوساكا وهيروشيما وكيوتو وطوكيو قبل وصول ترمب للتنسيق عشية لقائه الرئيس الصيني

المجلة
المجلة

اليابان... قلق هادئ أمام العواصف الصينية وتبدّل المظلّة الأميركية

زيارتي إلى اليابان ليست الأولى خلال العقدين الماضيين. وكل مرة كانت مرآة زمنٍ مختلف. بلد لا يتوقف عن تبديل جلده دون أن يبدّل روحه. جسمه يشيخ ويحتفظ بعينيه اللامعتين. في كل عودة، أشعر أنني أدخل مختبرا للزمن، حيث الماضي والمستقبل يتحاوران بهدوء لا يعرفه العالم الخارجي. اليابان لا تشيخ، بل تنضج ببطء الحكيم الذي يعرف أن لكل زمن لغته وقلقه، أو هذا ما يظن اليابانيون.

بدأتُ جولتي هذه المرة من أوساكا. مدينةٌ تُدير الكثافة بلا ضجيج. طوابير تمشي على إيقاع مفهوم، وتقنيات تُستخدم كأدوات لا كعروض، ومرافق عامة تُعامل كملكيةٍ للجميع. لا ضوضاء في الشوارع، ولا مبالغة في التقدّم الذي يتسلّل إلى تفاصيل الحياة.

هبطتُ في هذه المدينة التي تتهيأ لوداع "إكسبو 2025" وتسليم الشعلة إلى "إكسبو الرياض 2030". كنتُ قد رأيتها قبل سنوات وهي تستعد لهذه الاحتفالية، وها أنا أعود لأشهد الختام. مشهد الانحناءات الدقيقة والتصفيق المنضبط والموسيقى التي تمشي على أطراف النظام لم يكن مجرد احتفال، بل جسر بين نهضتين. اليابان التي صنعت معجزتها في القرن العشرين، والسعودية التي تُعيد تعريف الحلم في القرن الحادي والعشرين. لحظة رمزية تختصر زمنين ورؤيتين. من الانضباط إلى الطموح، ومن التجربة إلى التجديد.

في أروقة المعرض، تجولت بين أجنحة كثيرة أحدها يتعلق بالذكاء الاصطناعي. القاعات مضاءة بضوء بارد، الشاشات تتنفس صورا متبدّلة، والروبوتات تتحرك كأنها تتعلم كيف تقلّد الحذر الإنساني. في أوساكا يبدو التقدّم فعل تأمل أكثر منه فعل سباق. العالم يتحدث عن صعود الصين وعن سباق القوى الكبرى، لكن اليابان تسير في طريق ثالث، طريق الصبر.

أوساكا على إيقاع "إكسبو 2025" لا تبهر بما هو جديد بقدر ما تقنع بما هو قابل للاستخدام، مستقبل منخفض النبرة يضيف وظيفة ولا يطلب إعجابا. وفي الخلفية ظلّ السؤال الذي سيصاحب الرحلة كلّها: كيف تعيش اليابان مع جار عملاق يزداد ثقة ويختبر "الحدود" في البحر والجو والاقتصاد، من دون أن تتخلى عن طباعها الهادئة؟

ترتيب البوصلة

من أوساكا، حملني القطار السريع إلى هيروشيما. رحلة قصيرة، لكنها كافية للانتقال من ضجيج المستقبل إلى ثقل الذاكرة. حقول الأرز تمتد في انتظام هندسي مذهل، والمنازل الصغيرة تصطف كأنها دروس في النظام.

داخل هذه الهشاشة الداخلية هذه الأيام، تحاول طوكيو أن تحافظ على توازنها الخارجي. هناك تحالف قوي مع الولايات المتحدة واتفاق أمني شامل

على مسافة "شينكانسن" واحد، تُعيد هيروشيما ترتيب البوصلة. مدينة تمشي على أطراف التاريخ. هنا، لا شيء عادي. الهواء نفسه يحمل تذكيرا بأن الدمار يمكن أن يتحول إلى درس. في حديقة السلام، تتمايل الأشجار قرب القبة المدمّرة، وطلاب المدارس بزيّهم الموحد يحملون الأزهار ويعلّقون مئات الكركي الورقية على الأغصان. كل ورقة تحمل كلمات عن السلام والأمل والضحايا. يصطف سياح للتصوير تحت القوس الذي تجرأ الرئيس باراك أوباما على زيارته للتصالح مع الذاكرة.

أ.ف.ب
نصب "شعلة السلام" في متحف السلام المُخصص لذكرى المدينة وضحايا القصف الذري عام 1945، في هيروشيما، في 30 مايو 2025

الذاكرة هنا ليست خطاب تعبئة ولا ذريعة ثأر، بل درس في الأخلاق. يدخل الزائر متحف السلام فيواجه الحقيقة كما هي، ويخرج إلى مدينة تعمل كالمعتاد. تُدرَّس المأساة لا كي تُستدعى، بل كي تُدار. احترام الإنسان عبر احترام الوقائع تحوّل إلى قاعدة سلوك. تلك النزعة إلى النظام والتهذيب ليست مجرد سلوك اجتماعي، إنها شكل من أشكال الدفاع. في اليابان يقول أحد المتحدثين إن بلاده "تعرفت باكرا على معنى الهزيمة، فقررت أن تردّ عليها بالنظام". ولا يتردد كثيرون في القول بوضوح: "إننا هزمنا في الحرب العالمية الثانية. لقد هزمت اليابان واستسلمت". كلمة الهزيمة لا تغلف بأي مساحيق تجميلية.

أزقة ضيقة... وأسئلة واسعة

من هيروشيما إلى كيوتو، تتبدّل اللغة وتبقى الفكرة. الأزقة الضيقة لا تختنق لأن المسارات معلّمة، والمعابد تبقى حيّة لأنها تُدار كأصول لا كأيقونات. حتى الباعة الكبار في السنّ يختصرون الفلسفة بعبارةٍ بسيطة. الهدوء والاستماع والتنظيم.  السكينة هي هندسة. هذا الهدوء المحسوب هو الذي يفسّر اليوم كيف تدير اليابان بهدوء قلقها من صعود الصين، ومن تغيّر العالم من حولها.

في طوكيو، العاصمة التي لا تتوقف، يتحوّل القلق من تجريد ثقافي إلى ملفات سياسية واقتصادية ملموسة. المدينة التي لا تنام. هنا، كل شيء يتحرك بإيقاع دقيق كأن المدينة ساعة تعمل بدقة يد بشرية. من ناطحات شيبويا ومحلات غينزا إلى الحدائق الإمبراطورية، كل تفصيل محسوب، وكل صمت مقصود. لكن خلف هذا الانضباط قلقٌ خفيّ. في المقاهي والمحادثات، حديث دائم عن الصين الصاعدة وكوريا الشمالية المهدّدة وروسيا القريبة بثقلها. في مقهى قرب محطة غينزا يقول شاب: "نحن جيل الحذر. نعيش بين مجد آبائنا وخوفنا من أن نصبح الحلقة الأضعف في زمن الصين".

المجلة
منظر عام لمدينة هيروشيما التي تعرضت لقنبلة نووية أميركية قبل 80 سنة

ليسوا خائفين، فقط يراجعون أنفسهم. جملة تختصر المزاج الياباني كله، مراجعة صامتة بدل الصراخ، وتأمل بدل التسرع. لكنّ هناك جديدا هذه المرة. عواصف سياسية. يقول خبير إن "الأزمات الداخلية غير مسبوقة: انهيار حكومة الحزب الليبرالي، اتهامات بالفساد، تضخم خانق، وصعود الشعبوية". ويضيف أن الشعبوية اليابانية ليست نسخا عن نظيراتها الغربية، لكنها "مزيج من قلق ديموغرافي وضيق اقتصادي"، فاليابان التي تضم آلاف الجزر تواجه شيخوخة سكانية غير مسبوقة، ما يجعل المهاجرين ضرورة اقتصادية وسببا في الوقت ذاته لتوتر اجتماعي متصاعد.

هذه الجزر الممتدة فوق المياه تتأمل نفسها في مرآة التهديدات. في زياراتي السابقة، كان الحديث يدور حول اتفاق سلام مع روسيا، وقد التقى رئيس الوزراء الراحل شنزو آبي الرئيس فلاديمير بوتين 28 مرة في محاولة لإنهاء إرث الجزيرة المتنازع عليها وتوقيع اتفاق سلام تنتظره طوكيو منذ ثمانين سنة. أما الآن، فالمشهد تبدّل. هناك إدانات لغزو روسيا لأوكرانيا، وشعور بأن التفاهم القديم لم يعد ممكنا. كما يتنامى القلق من تصاعد نفوذ الصين وسعيها لتغيير الواقع في جزيرة سينكاكو، ومن تجارب كوريا الشمالية الصاروخية التي تذكّر اليابانيين بحدود الصبر.

داخل هذه الهشاشة الداخلية هذه الأيام، تحاول طوكيو أن تحافظ على توازنها الخارجي. هناك تحالف قوي مع الولايات المتحدة واتفاق أمني شامل، لكن استخدام القوة أو تأسيس جيش بالمعنى التقليدي ما زال محظورا بموجب الدستور منذ هزيمة الحرب العالمية الثانية بعد القنبلة النووية. اليابان محاصرة بجغرافيا قلقة: روسيا شمالا، كوريا الشمالية شرقا، الصين جنوبا وغربا. وتعتمد في أمنها على تحالفها مع واشنطن، لكن واشنطن هذه المرة في عهد ترمب، لا بايدن.

ما يقلق اليابانيين أكثر هو احتمال أن تضم الصين تايوان. أي تصعيد هناك يعني تدفق لاجئين إلى الجزر اليابانية الجنوبية، واحتمال استخدام القواعد الأميركية في أوكيناوا

اليابان تضم نحو 200 ألف في قوات الدفاع الذاتي، لكنها تواجه صعوبة متزايدة في إقناع الشباب بالانضمام إليها. "فكرة الجيش لا تزال حساسة"، كما يقول أحد الخبراء. يضيف: "العالم تغيّر، والحروب لم تعد في كتب التاريخ"، وإن كانت أسلحة الحرب العالمية الثانية معروضة في المتاحف. حكومة فوميو كيشيدا زادت موازنة الدفاع بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وبدأت تنفيذ خطة لرفع الإنفاق العسكري إلى 2 في المئة من الناتج المحلي بحلول 2027، وهو أعلى مستوى منذ سبعة عقود.

رياح القلق من الجنوب

لكنّ القلق هذه المرة لا يأتي من الشمال، بل من الجنوب. الصين، بثقلها الاقتصادي والعسكري، تواصل اختبار الصبر الياباني في البحر والجوّ. وفي الخلفية خوف متزايد من تحوّل المنافسة إلى تفاهم بين الرئيسين دونالد ترمب وشي جين بينغ على حساب اليابان.

أ ف ب
رئيسة الحزب الليبرالي الديمقراطي ساناي تاكايتشي بعد اختيارها رئيسة جديدة للوزراء في اليابان خلال جلسة استثنائية لمجلس النواب في طوكيو في 21 أكتوبر 2025

يقول أحد العارفين إن "طوكيو قلقة من صفقة تجارية محتملة بين ترمب وشي، قد تمرّ من وراء ظهرها". لذلك استعجلت اليابان تشكيل الحكومة الجديدة وتسلمت رئاستها "المرأة الحديد" ساناي تاكايتشي، استعدادا لاستضافة ترمب في 28 أكتوبر/تشرين الأول قبل لقائه الرئيس الصيني في كوريا الجنوبية. الخبير نفسه يضيف: "كان بايدن يكرر أنه ضد أي خطوة أحادية من الصين إزاء تايوان. شي يريد اليوم من ترمب أن يقول إنه ضد أي خطوة أحادية من تايوان. مجرد تكرار الجملة وتغير بسيط في سياقها يغيّر ميزان الردع".

خبير آخر اشتغل كثيرا في الدبلوماسية في عواصم كبرى يقول: "أميركا لعبت دور الشرطي للعالم طويلا وفتحت أسواقها. ترمب يريد تغيير ذلك. هو يتحدث عن العدالة، لكن معنى العدالة يختلف من شخص إلى آخر".

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الياباني السابق شيغيرو إيشيبا في البيت الأبيض، واشنطن العاصمة، في 7 فبراير 2025

مقابل أسئلة اليابان وغيرها من الحلفاء عن الحليف الأميركي،  تتحرك الصين، بثبات. تعزز حضورها في آسيا، وتوثّق تحالفها مع روسيا وكوريا الشمالية. بكين تدعم موسكو في حربها على أوكرانيا، وتشتري النفط الروسي بكميات كبيرة. وحضور بوتين وكيم جونغ أون في احتفالات "عيد النصر" كان إشارة رمزية إلى اصطفاف جديد في الإقليم. أحد الخبراء اليابانيين يضيف قراءته لما وراء الصورة: "شي حذر في تحالفه مع بوتين وكيم، فهو يحاول أن يقدم نفسه كقوة مسؤولة، لكنه في الوقت نفسه يعيد رسم التوازن الآسيوي على طريقته".

تايوان... "أوكرانيا الصين"

ما يقلق اليابانيين أكثر هو احتمال أن تضم الصين تايوان. أي تصعيد هناك يعني تدفق لاجئين إلى الجزر اليابانية الجنوبية، واحتمال استخدام القواعد الأميركية في أوكيناوا، ما سيجعل طوكيو طرفا مباشرا في الأزمة. خبير عسكري قال: "اليابان لا تريد أن تكون تايوان، أوكرانيا الصين". لذلك تعمل بهدوء على تقوية دفاعاتها دون أن تغيّر تعريف نفسها.

المجلة
ساعة وعداد في متحف هيروشيما يذكر بموعد القصف الأميركي للمدينة في الحرب العالمية الثانية 1945.

على الأرض، تتحول المياه حول جزر سنكاكو إلى ميدان اختبار للأعصاب. الجزيرة، التي تقيم فيها اليابان منذ عام 1895، كانت منسية تقريبا حتى عام 1969 حين أشار تقرير أممي إلى احتمال وجود موارد نفطية فيها. منذ ذلك التاريخ، بدأت الصين سلسلة خطوات تصعيدية: تقرير عام 1992 يؤكد أن سنكاكو صينية، دخول سفنها إلى المياه الإقليمية عام 2008، اقتراب نحو 200 سفينة عام 2016، ثم توغلات متكررة في السنوات الأخيرة، آخرها دخول مروحية صينية أجواء الجزيرة في مايو/أيار الماضي.

تشعر طوكيو بأن تحالفها التاريخي مع واشنطن لم يعد صمام أمان كالسابق

لدى الصين اليوم ثلاث حاملات طائرات، واحدة دخلت المياه اليابانية في سبتمبر/أيلول 2024، واثنتان نفذتا مناورات حول اليابان بعد شهرين فقط. بالنسبة لطوكيو، هذه ليست وقائع متفرقة بل مؤشرات على ما تسميه "التطبيع العدائي"، أي تحويل الاحتكاك إلى مشهد يومي كي يتآكل الإحساس بالخطر. الردّ الياباني ليس بالصخب، بل بالتفاصيل: توثيق قانوني، دوريات متواصلة، ورصد إلكتروني متطور يقلل مساحة المفاجأة. "اليابان لا تريد التصعيد لكنها لا تقبل التغيير بالقوة"، يقول خبير دبلوماسي بالملف. "نحن نبلغ الصين بكل خرق للمياه الإقليمية ونتحدث باستمرار لأن غياب التواصل هو الطريق الأقصر إلى سوء الفهم".

فلسفة الردع

التواصل هنا جزء من فلسفة الردع. طوكيو لا تريد قطع الجسور مع بكين، لكنها لا تثق بها كليا. في الوقت نفسه، تستمر في تقوية حرس الحدود البحرية الذي بات فعليا جيشا صغيرا يعمل بتنسيق كامل مع الأسطولين الأميركي والأسترالي، ويجري تدريبات مشتركة مع كوريا الجنوبية.

إلى جانب ذلك، بدأت الحكومة مشروعا توعويا جديدا. متحفا في وسط اليابان يشرح للأجيال الشابة النزاعات البحرية والسيادية مع روسيا وكوريا الجنوبية والصين. خطوة صغيرة لكنها تعبّر عن تحوّل ثقافي. من تجنّب الحديث عن التهديد إلى تربية وعي عام به.

المجلة
غواصة انتحارية جهزها الجيش الياباني في الحرب العالمية الثانية، موجودة في متحف الكلية البحرية.

الصراع مع الصين ليس عسكريا فقط. اليابان تُدير ما تسميه "الأمن الاقتصادي"، وهو ردع بأدوات مدنية. الفكرة، هي تقليل الاعتماد بدل إعلان الطلاق. طوكيو شددت قيود تصدير 23 فئة من معدات تصنيع الرقاقات المتقدّمة إلى الصين، وفي الوقت نفسه استقطبت استثمارات داخلية ضخمة في ذلك. هذه المشاريع ليست اقتصادية فقط، بل سياسية. هي محاولة لتقليل هامش الضغط الصيني في سلاسل التوريد الحيوية.

الإبحار بين ثلاث كلمات

في استطلاع حديث، عبّر 90 في المئة من اليابانيين عن انطباع سلبي تجاه الصين، ونسبة مماثلة من الصينيين تجاه اليابان. هذه القطيعة النفسية تجعل من الصعب بناء ثقة متبادلة، لكنها لا تلغي الحاجة إلى التواصل. خبير دبلوماسي مخضرم يلخص الأمر بقوله: "اليابان لا تستطيع العيش في مواجهة دائمة، لكنها لا تستطيع الوثوق بالجار أيضا. لهذا نحن نحاول الإبحار بين ثلاث كلمات: شراكة، ومنافسة، وصراع". ويضيف: "الحكمة أن نحافظ على المسافة التي تسمح بالحوار وتمنع الغرق في المواجهة".

في المقابل، تشعر طوكيو بأن تحالفها التاريخي مع واشنطن لم يعد صمام أمان كالسابق. "كنا نعتمد على شرطي واحد للعالم"، يقول أحد الدبلوماسيين المتقاعدين. "الآن الشرطي يطلب أجرا أعلى ويغير قواعد الخدمة". هذا القلق يدفع اليابان إلى توسيع شبكتها الأمنية عبر الشراكات مع أستراليا والهند والفلبين، في محاولة لخلق ما تسميه الحكومة "طبقات ردع متعددة" لا تعتمد على حليف واحد.

اليابان تتعامل مع الخطر بالطريقة نفسها التي تنظف بها شوارعها. ببطء ودقّة ومن دون صخب

في عالمٍ يكافأ فيه الضجيج، اختارت طوكيو أن تبني قوتها في الصمت. ترفع إنفاقها الدفاعي بجدول زمني معلن، وتُصلح مؤسساتها ببطء، وتُدرّب أعصابها الجماعية على طول النفس. لم أعثر على "سرّ ياباني" غامض. وجدت سكة عمل مستقيمة. ذاكرة تُهذّب القوّة، ونظام يدرأ الهلع، وسياسة تجعل من الهدوء استراتيجية. إذا كان صعود الصين حقيقة لا تُنكر، فإن الطريقة التي تتعامل بها اليابان معها أصبحت بدورها حقيقة قائمة. لا تقليد ولا نعاس؛ استعداد طويل النفس، يُدار بالعقل، ويُقاس بقدرة البلد على أن يواصل حياته الطبيعية فيما يشتدّ الجوار.

المجلة
رئيس تحرير "المجلة" إبراهيم حميدي في جولة في متحف اقامته حكومة اليابان عن النزاعات الحدودية البحرية مع روسيا وكوريا الجنوبية والصين

هنا القلق لا يتحول إلى ضجيج. اليابان تتعامل مع الخطر بالطريقة نفسها التي تنظف بها شوارعها. ببطء ودقّة ومن دون صخب. من أوساكا إلى هيروشيما ثم كيوتو وصولا إلى طوكيو، يتكرر المشهد ذاته: بلد يواجه قلقه بالعقل لا بالعاطفة، ويحوّل الخوف من الصعود الصيني وتغير المظلة الأميركية إلى طاقة تنظيم واستعداد.

في كيوتو، أدركت أن اليابان ليست مكانا واحدا، بل فسيفساء ترسم اللوحة الكاملة. كل مدينة لون، وكل تجربة تفصيل في تركيب أكبر. أوساكا بعقلها العملي، هيروشيما بذاكرتها الجريحة، كيوتو بروحها المتأملة، وطوكيو بعصبها المتوتر. في هذه الفسيفساء تتضح صورة بلد استطاع أن يجمع بين الأضداد دون أن يفقد توازنه، وأن يجعل من التناقض مصدرَ انسجام، وأن يقبل الهزيمة ولا يبحث عن نصر.

font change