ساناي تاكايتشي "المرأة الحديدية"... أول رئيسة وزراء في اليابان

على غرار مارغريت تاتشر، تجمع بين الإيمان بالقيم والبرغماتية السياسية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
رئيسة الحزب الليبرالي الديمقراطي ساناي تاكايتشي بعد اختيارها رئيسة جديدة للوزراء في اليابان خلال جلسة استثنائية لمجلس النواب في طوكيو في 21 أكتوبر 2025

ساناي تاكايتشي "المرأة الحديدية"... أول رئيسة وزراء في اليابان

شهدت الساحة السياسية اليابانية في الحادي والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول لحظة تاريخية فارقة مع انتخاب ساناي تاكايتشي، رئيسة "الحزب الليبرالي الديمقراطي"، رئيسة للوزراء، لتصبح بذلك الشخصية الرابعة بعد المئة التي تتولى هذا المنصب، وأول امرأة في تاريخ اليابان تصل إلى سدة هذا المنصب الرفيع. وتأتي هذه الخطوة في وقت حرج تسعى فيه البلاد إلى تجاوز تحديات جيوسياسية معقدة، وترسيخ مكانتها كركيزة للاستقرار والازدهار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

ولا يُعد نجاح تاكايتشي إنجازا رمزيا في تمثيل النساء فحسب، بل هو تتويج لمسيرة مهنية طويلة تميّزت بالانضباط الفكري، والتمسك الراسخ بالمبادئ المحافظة، والالتزام العميق بالمصالح الوطنية.

صناعة امرأة دولة

وُلدت ساناي تاكايتشي عام 1961 في محافظة نارا، وامتازت سنوات نشأتها بالتفوق الأكاديمي والانخراط المبكر في الشؤون الدولية. وبعد تخرجها في كلية إدارة الأعمال بجامعة كوبي عام 1984، عملت زميلة برلمانية في الولايات المتحدة، حيث اكتسبت فهما عميقا للنظم الديمقراطية الغربية، أسهمت لاحقا في بلورة رؤيتها السياسية.

وبدأت تاكايتشي مسيرتها البرلمانية عام 1993 بعد فوزها بمقعد في مجلس النواب كمستقلة عن محافظة نارا، رافعة شعار الإصلاح السياسي. وخلال ثلاثة عقود في البرلمان، تولت عددا من الحقائب الوزارية، أبرزها وزارتا الشؤون الداخلية والاتصالات في فترتين (2014–2017)، و(2019–2020)، إلى جانب منصب وزيرة الدولة للأمن الاقتصادي في الفترة الأخيرة. ومنحتها هذه المناصب خبرة واسعة في مجالات الاتصالات، والإصلاح الإداري، والأمن الاقتصادي الذي يزداد أهمية في السياق العالمي الراهن.

بصفتها تلميذة سياسية للراحل شينزو آبي، دأبت تاكايتشي على الدفاع عن مبادئه، ما منحها لقب "المرأة الحديدية" في اليابان

حكومة ائتلافية ومسار نحو الاستقرار

بعد خسارة "الحزب الليبرالي الديمقراطي" أغلبيته البرلمانية في الانتخابات الأخيرة، شكلت تاكايتشي حكومتها عبر ائتلاف مع حزب "نيبّون إيشن نو كاي" (حزب تجديد اليابان)، وهو حزب إصلاحي بتوجه يميني وسطي. مع أن هذا الترتيب لا يمنح الحكومة أغلبية برلمانية، فإن الاتفاق الائتلافي يوفر أساسا لحكم مستقر نسبيا. ويتبنى حزب "نيبّون إيشن" برنامجا يرتكز على الإصلاح الإداري، والانضباط المالي، ومراجعة الدستور، وهي أولويات تنسجم إلى حد كبير مع أجندة تاكايتشي المحافظة. ويعكس نجاح المفاوضات قدرتها على المناورة السياسية، وبراعتها في بناء التوافق عندما تقتضي الضرورة.Top of Form

الالتزام بالخدمة: "العمل.. العمل.. العمل"

عقب فوزها في سباق قيادة "الحزب الليبرالي الديمقراطي"، عبّرت تاكايتشي بوضوح عن فلسفتها في الحكم بقولها: "العمل، العمل، العمل". وتختزل هذه العبارة نهجها القيادي القائم على التفاني، والملاحظة الدقيقة، والالتزام الراسخ بالمصالح الوطنية اليابانية. ويعكس تعهدها بتكريس وقتها وجهدها لهذه المسؤوليات مؤشرا واضحا إلى أن حكومتها ستتسم بالجدية والدقة في التنفيذ.

أ.ف.ب
ساناي تاكايتشي تغادر مكتب رئيس الوزراء لحضور حفل التنصيب في القصر الإمبراطوري في طوكيو في 21 أكتوبر 2025

إرث آبي واستمرارية التيار المحافظ الياباني

تُعتبر تاكايتشي على نطاق واسع الوريثة السياسية للراحل شينزو آبي، أطول رؤساء وزراء اليابان بقاء في المنصب. وقد ترك آبي بإرثه المحافظ ذي التوجه اليميني الوسطي، القائم على تحالف أمني راسخ مع الولايات المتحدة، وسعيه لإنعاش الاقتصاد عبر سياسات مالية ونقدية توسعية، فضلا عن ترسيخه الهوية الوطنية، تأثيرا عميقا في مسار الخطاب السياسي الياباني المعاصر.

وبصفتها تلميذة سياسية للراحل شينزو آبي، دأبت تاكايتشي على الدفاع عن مبادئه، ما منحها لقب "المرأة الحديدية" في اليابان. وعلى غرار مارغريت تاتشر، تجمع تاكايتشي بين الإيمان العميق بالقيم التي تتبناها والبرغماتية السياسية في الممارسة. ويجسّد تمسكها بـ"أبينوميكس"– الإطار الاقتصادي القائم على التيسير النقدي الحازم، والسياسة المالية المرنة، والإصلاحات الهيكلية– امتدادا للنهج الياباني الرامي إلى إنعاش النمو الاقتصادي والتغلب على النزعة الانكماشية.

إلى جانب تحالفها الثنائي مع واشنطن، تبرز الحاجة إلى توسيع وتعزيز علاقات اليابان مع الدول الأخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ

تعزيز التحالف الياباني الأميركي: عامل ترمب

ولعل العلاقة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب تمثل أبرز الملفات أمام تاكايتشي خلال فترة تولّيها المنصب. ففي أواخر أكتوبر/تشرين الأول، من المقرر أن يقوم ترمب بأول زيارة رسمية إلى اليابان في ولايته الثانية، وهو ما يمنح تاكايتشي فرصة مهمة لبناء علاقة شخصية وثيقة معه، وتعزيز التحالف الثنائي الذي يشكّل حجر الزاوية في السياسة الأمنية اليابانية.

وتتمتع تاكايتشي بخبرة دبلوماسية رفيعة تؤهلها لمواجهة هذا التحدي، إذ سبق أن عملت زميلة برلمانية في الولايات المتحدة ما أتاح لها فهما عميقا لطبيعة الثقافة السياسية في الولايات المتحدة. هذا الإدراك يمنحها قدرة مميزة على بناء شراكة عملية فعالة مع الإدارة الأميركية. ويظل التحالف الياباني-الأميركي حجر الأساس في البنية الأمنية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث تتمثل مهمة تاكايتشي في تحقيق توازن دقيق بين متطلبات الأمن القومي الياباني وتطلعات واشنطن بشأن تقاسم الأعباء والإنفاق الدفاعي والتعاون الاقتصادي.

أ.ف.ب
ساناي تاكايتشي، قبل توقيع اتفاقية سياسية مع زعيم حزب التجديد الياباني، هيروفومي يوشيمورا، في البرلمان الياباني بطوكيو، في 20 أكتوبر 2025

لن تقتصر مناقشات تاكايتشي مع الرئيس ترمب على الملفات الأمنية، بل ستشمل أيضا القضايا الاقتصادية، وعلى رأسها العلاقات التجارية، والتعاون التكنولوجي، وتدفقات الاستثمارات. فاليابان، بما تمتلكه من حضور واسع في قطاع التصنيع الأميركي، ودور محوري في سلاسل التوريد العالمية، وتفوّق تقني في مجالات متقدمة مثل أشباه الموصلات، تُعد شريكا اقتصاديا لا يُقدّر بثمن.

الدبلوماسية الإقليمية ورؤية المحيطين الهندي والهادئ

إلى جانب تحالفها الثنائي مع واشنطن، تبرز الحاجة إلى توسيع وتعزيز علاقات اليابان مع الدول الأخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وتمثل قمة "أبيك" (منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ) المقبلة في كوريا الجنوبية منصة مبكرة لتاكايتشي للتواصل مع القادة الإقليميين، ودفع رؤيتها نحو منطقة حرة ومنفتحة ومزدهرة.

تتولى ساناي تاكايتشي رئاسة الوزراء في لحظة تزخر بالتحديات والفرص على حدّ سواء. فاليابان تواجه طيفا من الأزمات المعقدة، غير أن ما تمتلكه من مقوّمات قوة يمنحها القدرة على تجاوز الصعاب

وباعتبارها ثالث أكبر اقتصاد في العالم، تتمتع اليابان بنفوذ اقتصادي واسع من خلال المساعدات التنموية، والاستثمار في البنية التحتية، ونقل التكنولوجيا. ويُجسّد الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ التزامها بالاندماج الاقتصادي القائم على القواعد. كما تمثل شراكة "الحوار الأمني الرباعي"، التي تضم اليابان والولايات المتحدة والهند وأستراليا، منصة محورية للتعاون في مجالات الأمن البحري، ومرونة سلاسل التوريد، والتكنولوجيا المتقدمة. وتُعد العلاقات مع دول "رابطة آسيان" ركيزة أساسية أخرى في الدبلوماسية الإقليمية اليابانية، قائمة على شراكة اقتصادية وتعاون تنموي ممتد لعقود.

الضرورات الداخلية: إنعاش الاقتصاد والتحول الاجتماعي

سيُقاس أداء تاكايتشي داخليا بمدى قدرتها على التصدي للتحديات العميقة التي تواجه اليابان، وفي مقدمتها إنعاش الاقتصاد. وتستند رؤيتها في هذا المجال إلى نهج "أبينوميكس"، مع تركيزها على تنشيط السياسات المالية، وصياغة سياسات صناعية استراتيجية، وتنفيذ إصلاحات هيكلية تُحفّز ديناميكية القطاع الخاص. ومن المرجّح أن تعتمد حكومتها إجراءات مالية موجهة لتحفيز الطلب المحلي، وتعزيز الصناعات الاستراتيجية، مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، والحد من الفجوات الاقتصادية بين المناطق.

وتُعد الإصلاحات الهيكلية ضرورة لا غنى عنها، وتشمل زيادة مشاركة النساء وكبار السن في سوق العمل، وتعزيز حوكمة الشركات، وتحرير القطاعات المنظمة. ويبرز إصلاح نظام الضمان الاجتماعي كتحدٍ طويل الأمد، إذ يفرض تسارع وتيرة الشيخوخة بين السكان ضغوطا متزايدة على نظامي التقاعد والرعاية الصحية، بينما يُنذر انخفاض معدل المواليد بتهديد التوازن بين الأجيال. ويتطلب هذا الواقع من تاكايتشي وضع سياسات تُوازن بين الاستدامة المالية والتكافل الاجتماعي.

دور اليابان العالمي في عصر الاضطراب

يشهد النظام الدولي تحولات عميقة، مع عودة المنافسة بين القوى العظمى إلى الواجهة، وتصاعد الضغوط على المؤسسات متعددة الأطراف، وتعرض المبادئ الراسخة مثل وحدة الأراضي والحكم القائم على القواعد لتحديات متزايدة. وفي هذا المشهد المضطرب، تبرز اليابان كقوة اقتصادية وتكنولوجية متقدمة، ومجتمع ديمقراطي راسخ، ما يمنحها القدرة ويُحمّلها في الوقت ذاته مسؤولية الإسهام في صون الاستقرار العالمي.

أ.ف.ب
ساناي تاكايتشي، في مكتب زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي بعد انتخابات قيادة الحزب في طوكيو في 4 أكتوبر 2025

ويتعيّن على حكومة تاكايتشي تحقيق توازن دقيق بين مجموعة من الأهداف المتشابكة: الحفاظ على التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، والسعي إلى قدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية، وتعميق العلاقات مع دول الجوار الإقليمي مع إدارة العلاقة التنافسية مع الصين، إضافة إلى المشاركة الفاعلة في الحوكمة العالمية في قضايا تشمل تغيّر المناخ وتنظيم الفضاء الرقمي. وتشكل رؤية اليابان لـ"منطقة حرة ومنفتحة في المحيطين الهندي والهادئ" إطارا يستند إلى احترام السيادة، وسيادة القانون، وحرية الملاحة، والانفتاح الاقتصادي.

فرصة تاريخية

تتولى ساناي تاكايتشي رئاسة الوزراء في لحظة تزخر بالتحديات والفرص على حدّ سواء. فاليابان تواجه طيفا من الأزمات المعقدة، غير أن ما تمتلكه من مقوّمات قوة يمنحها القدرة على تجاوز الصعاب. إذ يتميّز الشعب الياباني بمستوى رفيع من التعليم، وتتمتع البلاد بقدرات تكنولوجية متقدمة، وموارد مالية قوية، وثقافة سياسية ديمقراطية توفر آليات فعّالة للمساءلة والتجديد.

على المجتمع الدولي، ولا سيما في العالم العربي وبلدان الجنوب العالمي، أن يتابع تجربة تاكايتشي في الحكم عن كثب

وسيخضع أداء تاكايتشي لاختبار على أكثر من صعيد، فنجاحها ليس أمرا محسوما، إلا أنها تدخل رئاسة الوزراء مدعومة بثلاثة عقود من الخبرة البرلمانية، وسجل حافل في تولي مناصب وزارية، وفهم عميق للقضايا الجوهرية في السياسة العامة. ويجسد تعهدها بالعمل المتواصل من أجل الشعب الياباني التزاما يمنح الأمل والثقة.

وبصفتها أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في تاريخ اليابان، تحمل تاكايتشي عبء توقعات غير مسبوقة. غير أن حصر تجربتها في هذا الجانب وحده يُغفل الصورة الأوسع، فقد وصلت إلى هذا المنصب بفضل جدارتها واجتهادها وحنكتها السياسية، وهي مؤهلات تتجاوز مسألة النوع الاجتماعي.

ينبغي على المجتمع الدولي، ولا سيما في العالم العربي وبلدان الجنوب العالمي، أن يتابع تجربة تاكايتشي في الحكم عن كثب. فاليابان، التي نجحت في تحقيق التوازن بين التقاليد والحداثة، وجمعت بين الابتكار التكنولوجي والحفاظ على الإرث الثقافي، ووسّعت من حضورها على الساحة الدولية، تقدم نموذجا زاخرا بالدروس المهمة لدول العالم. وباعتبارها دولة مستقرة ومزدهرة وفاعلة على الساحة العالمية، تسهم اليابان في استقرار النظام الدولي، وتقدم نموذجا يحتذى به لدولة غير غربية حققت الازدهار من دون أن تتخلى عن خصوصيتها الثقافية.

وتجسد حكومة تاكايتشي مزيجا متوازنا من الاستمرارية والتغيير: استمرارية تتمثل في الحفاظ على التحالف مع الولايات المتحدة والتمسك بالمبادئ المحافظة، وتغيير يبرز في بنيتها وأولوياتها السياسية. ومع انطلاق ولايتها، يظل الأمل معقودا على أن تجمع بين الحكمة في الحفاظ على ما هو جوهري من التقاليد السياسية اليابانية، والجرأة في معالجة ما لم يعد ملائما، والرؤية التي تضع اليابان على مسار مستقر في قرن يعج بالتقلبات. ولدى الشعب الياباني، كما لدى المجتمع الدولي، كل ما يدعو إلى تمني النجاح لها في هذا التحدي الكبير.

font change