دروس يابانية... كيف مهدت وفاة الساموراي الأخير طريق التحديث

رويترز
رويترز
العلم الياباني على سطح مبنى المصرف المركزي الياباني بين اشارت السير في طوكيو في 23 يناير

دروس يابانية... كيف مهدت وفاة الساموراي الأخير طريق التحديث

نادرا ما سجّل التاريخ الحديث تحولا وطنيا مذهلا وسريعا وشاملا كالذي شهدته اليابان حين انتقلت من أرخبيل إقطاعي إلى قوة صناعية حديثة. قبل نحو مئة وستين عاما، وجدت اليابان نفسها عند مفترق طرق يشبه إلى حدّ بعيد ما تواجهه اليوم كثير من دول الشرق الأوسط، إذ كانت معزولة ومتخلفة تقنيا عن المعايير الغربية، يحكمها نظام إقطاعيّ متصلّب لم يعد قادرا على مجاراة عالم يتبدّل بوتيرة متسارعة. ومع ذلك، استطاعت خلال جيل واحد فقط أن تثور على بنائها السياسي، وتنهض باقتصادها، وتكرّس مكانتها قوة يحسب لها حساب في الساحة الدولية.

لم يكن هذا الإنجاز الاستثنائي وليد صدفة، ولا مجرد حصيلة تقليد أعمى للمؤسسات أو التقنيات الغربية، بل كان ثمرة تفاعل معقد جمع بين التقاليد المحلية، والحماسة الثورية، والقدرة البرغماتية على التكيّف، وربما الأهم من ذلك، تجاوز الأيديولوجيا التي أشعلت شرارة الثورة نفسها. وبالنسبة للعالم العربي، الذي يسعى بعض أبنائه إلى فهم الكيفية التي تمكّن بها مجتمع تقليدي من الإبحار بثقة في مياه التحديث المتقلبة دون أن يفقد صلته بجذوره الثقافية، فإن تجربة اليابان تمثل مصدر إلهام عميق، كما تحمل في طياتها أيضا دروسا تحذيرية تستحق التأمل.

ثمة أوجه تشابه لافتة بين اليابان في القرن التاسع عشر والمجتمعات الشرق أوسطية المعاصرة. فقد واجه الطرفان صداما حادا بين القيم التقليدية ومتطلبات الحداثة، وبين التشبث بالهوية الثقافية المحلية والحاجة المفترضة إلى تبني المؤسسات والتقنيات الأجنبية. كما تعرض كلاهما لضغوط خارجية مارستها قوى كبرى سعت إلى إعادة تشكيل منظومتيهما السياسية والاقتصادية بما يتماشى مع مصالحها. وشهد الجانبان كذلك حركات ثورية استلهمت تصورا مثاليا عن الماضي، ورفعت شعارات الإصلاح والتطهير من خلال العودة إلى المبادئ الأولى التي شكلت جوهر مجتمعاتهم.

اليابان، رغم ما شاب تجربتها من إخفاقات ومآسٍ، تمكنت من بناء مجتمع مزدهر ومتطور تقنيا، مع حفاظها في الوقت ذاته على عناصر أساسية من إرثها الثقافي العريق

ومع ذلك، تباينت النتائج على نحو جذري. فاليابان، رغم ما شاب تجربتها من إخفاقات ومآسٍ، تمكنت من بناء مجتمع مزدهر ومتطور تقنيا، مع حفاظها في الوقت ذاته على عناصر أساسية من إرثها الثقافي العريق. أما الكثير من الدول العربية، فما زالت تكافح لإيجاد توازن بين التراث والحداثة، وبناء مؤسسات سياسية مستقرة، وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة. في حين أن الاضطرابات الثورية التي شهدتها سوريا وغيرها، والتي استلهمت جزئيا من أيديولوجيات إسلامية متجددة كالسلفية والجهادية، لم تُسفر حتى الآن عن قيام مجتمعات مستقرة ومزدهرة كما بشّرت في بداياتها.

 أ ف ب
احتفال شاركت فيه مئات القوارب الصغيرة في مرفأ اوساكا

ما الذي يفسر هذا التباين؟ وهل يمكن للعالم العربي أن يستلهم تجربة اليابان في مساره نحو التحديث؟ للإجابة على هذين السؤالين، لا بد من التوقف عند السياقات التاريخية المحددة والتيارات الأيديولوجية التي رسمت مسار التحول الياباني، مع إيلاء اهتمام خاص للدور المتناقض الذي أدّته أيديولوجيا الاستعادة الإمبراطورية (الأيديولوجيا الإحيائية)، التي كانت الشرارة التي أطلقت الثورة، لكنها في الوقت نفسه شكلت العائق الذي كان لا بد من تجاوزه لتحقيق نهضة حقيقية.

المحرك الثوري: "سونو جوي" (إجلال الإمبراطور وطرد البرابرة) وسقوط أسرة توكوغاوا

كان الأساس الذي انطلقت منه نهضة اليابان الحديثة هو الحركة الثورية التي أسقطت حكم شوغونية توكوغاوا عام 1868، في حدث عُرف باسم "إصلاح مييجي". لم يكن ذلك تحولا تدريجيا، بل ثورة حقيقية بكل المقاييس، وإن تمت تحت شعار "الإصلاح". وقد وحّد النداء الذي رفعته القوى المناهضة للشوغونية "سونو جوي"، أي "إجلال الإمبراطور وطرد البرابرة"، صفوف المعارضين على اختلاف مشاربهم.

الأيديولوجيا التي أوصلت الثوار إلى الحكم لم تكن صالحة على الإطلاق كفلسفة لإدارة دولة حديثة

اختزل هذا الشعار المطلبين الأساسيين اللذين حرّكا الدعم الشعبي للإطاحة بنظام توكوغاوا. فالعنصر الأول، سونو (إجلال الإمبراطور)، استند إلى أيديولوجيا إصلاحية بدأ المثقفون اليابانيون تطويرها قبل عقود من الثورة. إذ انكبّ علماء مدرسة كوكوجاكو (الدراسة الوطنية) على دراسة النصوص اليابانية القديمة، مؤكدين أن جوهر الهوية اليابانية الأصيلة يكمن في ماضيها الذي سبق دخول البوذية والكونفوشيوسية، حين كان الإمبراطور يحكم البلاد مباشرة دون وساطة الحكومات العسكرية مثل الشوغونية. وقد أسهم هذا الفكر الإصلاحي في تقويض شرعية الحكومة العسكرية التابعة لتوكوغاوا، التي حكمت اليابان لأكثر من قرنين من الزمن، لكنها افتقرت إلى أي أساس ديني يبرّر سلطتها.
أما الإمبراطور، فبحسب المعتقدات اليابانية، يُعدّ من نسل آلهة الشمس أماتيراسو، وهو ما منح المؤسسة الإمبراطورية هالة من الشرعية المقدسة لم يكن لأي شوغون أن يضاهيها. واستنادا إلى مبدأ إجلال الإمبراطور، تمكن خصوم نظام توكوغاوا، ولا سيما القوى النافذة في مقاطعات ساتسوما وتشوشو وتوسا وساغا في جنوب غربي اليابان، من تصوير تمردهم لا كخروج على الشرعية، بل كفعلِ ولاء لسلطة أسمى، ولا كتهديد للنظام القائم، بل كمسعى لإعادة بنائه على أسس أقدس وأكثر أصالة.
أما العنصر الثاني، جوي (طرد البرابرة)، فقد عبّر عن رد فعل عدائي تجاه الانفتاح القسري الذي فُرض على اليابان على يد القائد البحري ماثيو بيري وسفنه السوداء عامي 1853–1854. فعلى مدى أكثر من قرنين، انتهجت اليابان سياسة العزلة الوطنية، حيث قيّدت بشدة تواصلها مع الأجانب ومنعت تسرب الأفكار الوافدة. لكن ظهور السفن الأميركية الحربية المفاجئ، وما رافقه من مطالب بإقامة علاقات تجارية مدعومة بتفوق عسكري وتكنولوجي، شكّل صدمة عميقة للمجتمع الياباني، وأظهر بوضوح هشاشة نظام توكوغاوا وعجزه عن حماية سيادة البلاد. 
وقد عُدّ خضوع الشوغونية الظاهري للضغوط الأجنبية، من خلال توقيع معاهدات غير متكافئة منحت القوى الغربية امتيازات قضائية وفتحت الموانئ اليابانية أمام التجارة الأجنبية، إهانة وطنية تمس كرامة البلاد. وأدى هذا التهديد الخارجي الذي مثّله التوسع الاستعماري الغربي إلى إشعال شعور عميق بالأزمة، وأيقظ روحا قومية ناشئة. فبدأ اليابانيون، على اختلاف ولاءاتهم الإقليمية، ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم أبناء أمة ينبغي توحيدها في وجه الهيمنة الأجنبية وصون استقلالها.
شكّل هذا المزيج من الأيديولوجيا الإحيائية والقومية الدفاعية قوة ثورية فعّالة. فقد أتاح الفكر الإحيائي إطارا فكريا يُبرّر التشكيك في شرعية النظام القائم، بينما ولّد التهديد الخارجي شعورا بالحاجة الملحّة إلى وحدة وطنية تمهّد للتحرك الثوري. ومن خلال هذا التآزر، استطاعت المقاطعات الجنوبية الغربية أن تطيح بالشوغونية وتؤسس حكومة جديدة تُدار، شكليا، تحت السلطة المباشرة للإمبراطور.
من الضروري إدراك أن نجاح هذه الحركة الثورية جاء بفضل استنادها إلى التقاليد، لا بالرغم منه. ففي مجتمع شديد الهرمية تُعد فيه قيم الولاء والانضباط من أسمى الفضائل، لم يكن لأيديولوجيا ثورية تمردية أن تنال قبولا واسعا. ومن خلال تصوير تمردهم بوصفه استعادة للحكم الإمبراطوري القديم، استطاع الثوار أن يخاطبوا الحسّ المحافظ المتجذّر في المجتمع، بينما كانوا في الجوهر يدفعون نحو تغيير جذري في بنية الدولة. لقد استخدموا الماضي لا بوصفه ملاذا، بل أداة لترسيخ ملامح المستقبل.

من الإصلاح إلى التحديث: مفارقة الروح اليابانية والتقنية الغربية (وا كون يو ساي)


غير أن نجاح إصلاح مييجي أفرز إشكالية جوهرية، إذ إن الأيديولوجيا التي أوصلت الثوار إلى الحكم لم تكن صالحة على الإطلاق كفلسفة لإدارة دولة حديثة. إذ ربما نجح شعار "طرد البرابرة" في تعبئة الجماهير ضد الشوغونية، لكنه لم يقدّم أي رؤية واقعية للتعامل مع التفوق العسكري والاقتصادي الغربي. أما الدعوة إلى العودة الصارمة للحكم الإمبراطوري القديم، كما نادى بها أكثر الإصلاحيين تشدّدا، فكانت ستقود اليابان حتما إلى العزلة والضعف، وربما إلى الوقوع فريسة للاستعمار الأجنبي.

شكّل التهديد الخارجي الذي فرضه الاستعمار الغربي حالةَ طوارئ وطنية حقيقية، تجاوزت الولاءات التقليدية وأجّجت الروح القومية اليابانية

تجلّت عبقرية قيادة مييجي في مرونتها البرغماتية. فبمجرد أن أمسكت بزمام السلطة، سارعت إلى التخلي عن الجوانب الحرفية في الأيديولوجيا الثورية، مع المحافظة على إطارها الرمزي الجامع. فلم تطرد الأجانب، بل استقدمتهم إلى اليابان كمعلمين ومستشارين. ولم ترفض التكنولوجيا الغربية ومؤسساتها، بل درستها بعناية، ثم أعادت صياغتها بما ينسجم مع الخصوصية اليابانية. كما أرسلت الحكومة بعثات إلى أوروبا والولايات المتحدة لدراسة كل ما يمكن الاستفادة منه، من القانون الدستوري إلى بناء السكك الحديدية، ومن التنظيم العسكري إلى أنظمة التعليم.
مهّد لهذا التحول الجذري من العزلة العدائية إلى التحديث المتحمّس المفهوم المعروف باسم وا كون يو ساي، أي "الروح اليابانية، التقنية الغربية". فقد وفّر هذا الشعار جسرا أيديولوجياً مكّن اليابان من تبنّي الأساليب الغربية دون أن يبدو الأمر وكأنه تخل عن هويتها الأصيلة. وانطلق من افتراض أساسي مفاده أن التكنولوجيا والمؤسسات أدوات محايدة من حيث القيم، يمكن تسخيرها لخدمة أهداف ورؤى يابانية خالصة. وبهذا استطاعت اليابان أن تشيّد السكك الحديدية، وتؤسس حكومة دستورية، وتنشئ جيشا حديثا، دون أن تفقد روحها اليابانية الأصيلة.
غير أن هذا التحول لم يخلُ من مقاومة حادّة. فقد شعر كثير من الساموراي، ولا سيما أولئك الذين قاتلوا من أجل استعادة الإمبراطورية، بأنهم تعرضوا للخيانة على يد السياسات الجديدة للحكومة. إذ خاطروا بحياتهم دفاعا عن شعار استعادة الحكم الإمبراطوري وطرد الأجانب، ليكتشفوا أن النظام الذي ساهموا في إقامته يستقدم المستشارين الأجانب ويقوّض امتيازات طبقة الساموراي ذاتها.
لقد مثلت هذه الطبقة النخبة المحاربة في اليابان على مدى قرون، غير أن إصلاحات الحكومة العسكرية الجديدة فضّلت نظام التجنيد الإجباري وتشكيل جيوش حديثة ذات طابع غربي على المهارات القتالية التقليدية التي شكّلت جوهر هوية الساموراي.

 أ ف ب
زوار في معبد سنسوجي في طوكيو في 16 سبتمبر

بلغ هذا التململ ذروته عام 1877 في تمرد ساتسوما، المعروف في اليابانية باسم حرب الجنوب الغربي (حرب سينان). قاد التمرد سايغو تاكاموري، أحد أبرز أبطال إصلاح مييجي نفسه، ليصبح بذلك تمرد الساموراي الأخير– آخر انتفاضة كبرى لطبقة الساموراي في سعيها للدفاع عن القيم التقليدية في وجه موجة التحديث الجارفة.
وقد جسّد سايغو وأتباعه أنقى صورة للأيديولوجيا الإحيائية، إذ اعتقدوا أن على اليابان تحديث قوتها العسكرية لتقاوم التوسع الغربي، لكن دون أن تمسّ بطبقة الساموراي والقيم اليابانية الأصلية.
غير أن التمرد سُحق على يد الجيش الجديد الذي اعتمد نظام التجنيد الإجباري، فيما اختار سايغو تاكاموري إنهاء حياته على طريقة الساموراي التقليدية المشرفة. وشكّلت هزيمته لحظة فاصلة في التاريخ الياباني، فمع فشل تمرد ساتسوما، فقدت الأيديولوجيا الإحيائية التي كانت قد أشعلت شرارة إصلاح مييجي مصداقيتها كفلسفة للحكم، ليُفتح الطريق أمام تحديث شامل ضمن الإطار الفكري لـ"وا كون يو ساي–  الروح اليابانية، التقنية الغربية".
كانت هزيمة "الساموراي الأخير" ضرورية، بشكل ما، لنجاح مشروع التحديث الياباني. إذ إن وجود فصيل مؤثر متمسك بالتفسير الحرفي للأيديولوجيا الإحيائية، كان سيجعل جهود الدولة في التحديث تصطدم دائما بمقاومة داخلية وتنازع أيديولوجي يعيق المضي قدما. غير أن سقوط سايغو تاكاموري أزال هذا العائق الحاسم، فتمكّنت الحكومة من المضي في مشروعها التحديثي بعزم واضح وثقة راسخة، مع حفاظها في الوقت ذاته على الرابط الرمزي بالتقليد الإمبراطوري الذي منح حكمها غطاء من الشرعية.

المقومات الأساسية للنجاح


حين نتأمل بعمق العوامل التي مكّنت اليابان من تحقيق حداثتها الناجحة، تتضح مجموعة من العناصر الحاسمة.
أولا، رغم أن الأيديولوجيا الإحيائية تحوّلت لاحقا إلى عقبة أمام التحديث، فإنها كانت في البداية ضرورية لتوليد الزخم الثوري اللازم للإطاحة بالنظام القديم. فقد كان نظام شوغونية توكوغاوا مترسخا بعمق، وتطلب التغلب عليه تبريرا أيديولوجياً قويا يوحّد القوى المتباينة ويتجاوز تقاليد الطاعة الراسخة. وقد وفّرت الدعوة إلى استعادة الحكم الإمبراطوري والدفاع عن الوطن ضد "البرابرة الأجانب" هذا التبرير الثوري الذي أطلق شرارة التحول.
ثانيا، شكّل التهديد الخارجي الذي فرضه الاستعمار الغربي حالةَ طوارئ وطنية حقيقية، تجاوزت الولاءات التقليدية وأجّجت الروح القومية اليابانية. فقد أيقظ ظهور سفن بيري السوداء وتوقيع المعاهدات غير المتكافئة وعي اليابانيين بحقيقة ضعف بلادهم وفقا للمعايير الدولية، وبمدى هشاشتها أمام خطر الاستعمار. وقد ولّد هذا الإدراك شعورا ملحّا بضرورة تحقيق الوحدة الوطنية والإسراع في مسار التحديث. كان الخطر الخارجي بمثابة شرارة حوّلت الغضب الغامض إلى تصميم واع على اللحاق بالغرب وتجاوز التخلّف.

الطريق أمام سوريا غامض إلى حد كبير. فهي تواجه اليوم السؤال الجوهري ذاته الذي نجحت اليابان في تجاوزه

ثالثا، وربما الأهم، أظهر القادة الثوريون قدرا استثنائيا من المرونة والبرغماتية حين تخلّوا عن الأيديولوجيا التي أوصلتهم إلى الحكم، بعدما أدركوا أنها تتناقض مع هدفهم الأسمى: بناء دولة يابانية قوية ومستقلة. فقد حافظوا على الإطار الرمزي، أي الحكم الإمبراطوري والروح اليابانية، فيما غيّروا المضمون جذريا، فتبنّوا المؤسسات والتقنيات الغربية على نطاق واسع.
رابعا، أسهم القضاء على التيار الإحيائي، من خلال هزيمة تمرد ساتسوما، في إنهاء المقاومة الداخلية لمسار التحديث، مما أفسح المجال أمام مقاربة "وا كون يو ساي" لتصبح التوجه الوطني الجامع دون منازع. وقد أوجد هذا الانسجام الأيديولوجي الأرضية الضرورية لانطلاق جهود تحديث مستدامة ومنسقة.
باختصار، نجحت اليابان لأن الأيديولوجيا الإحيائية كانت الشرارة التي أطلقت الثورة، غير أن الثوار ما لبثوا أن تخلّوا عنها ليمضوا في طريق تحديث عملي وواقعي. فقد أطاحت الثورة بالنظام القديم، غير أن بناء الدولة الحديثة استلزم التخلي عن نقاء الشعارات الثورية لصالح برغماتية انتقائية.

تأملات في شأن العالم العربي


عند تأمل التطورات الراهنة في الشرق الأوسط، يمكن تلمّس بعض أوجه الشبه مع اليابان في عهد مييجي، غير أن ثمة أيضا اختلافات جوهرية لا يمكن إغفالها. فكما حدث في اليابان منتصف القرن التاسع عشر، شهدت مجتمعات عربية عديدة حركات ثورية استندت جزئيا إلى أيديولوجيات دينية إحيائية. فقد مثّلت السلفية، بدعوتها إلى العودة لممارسات السلف الصالح في الإسلام المبكر، والجهادية، التي تركز على الكفاح المسلح لإقامة حكم إسلامي أصيل، إطارين أيديولوجيين قويين لتحدي الأنظمة القائمة.
وتجسّد الثورة السورية، التي بلغت ذروتها في ديسمبر/كانون الأول 2024 بالإطاحة بنظام الأسد، هذا النمط من الديناميكيات بوضوح. فكما كان الحال في إصلاح مييجي، استمدّت الثورة زخمها من الأيديولوجيا الإحيائية ومن ردّ الفعل الوطني تجاه التدخل الخارجي والفساد الداخلي. وقد أسهم كلّ من السعي لإقامة حكم إسلامي أصيل ومقاومة الهيمنة الأجنبية في تعبئة صفوف المعارضة في مواجهة النظام القائم.
ومع ذلك، يبقى الطريق أمام سوريا غامضا إلى حد كبير. فهي تواجه اليوم السؤال الجوهري ذاته الذي نجحت اليابان في تجاوزه: بعد أن تحقق التغيير الثوري جزئيا بفضل أيديولوجيا إحيائية، فهل يمكن الآن تجاوز هذه الأيديولوجيا للمضي نحو تحديث عملي وواقعي؟ وهل تستطيع سوريا، وسواها من الدول العربية، أن تصوغ معادلة شبيهة بصيغة "وا كون يو ساي"، أي معادلة تمكّنها من تبنّي التقنيات والمؤسسات الحديثة دون التفريط بهويتها وقيمها الإسلامية؟
إن التحدي أمام المنطقة هائل بحق. فقد تضافرت عوامل عدّة ساعدت على نجاح التحول الياباني، غير أن كثيرا من هذه العوامل غير متوافر في السياقات الشرق أوسطية الراهنة. فقد تمتعت قيادة مييجي بقدر كبير من الاستقلال في صنع القرار، وواجهت معارضة داخلية محدودة بعد القضاء على تمرد ساتسوما، مما مكّنها من تنفيذ سياسات التحديث بشكل منهجي ومستمر على مدى عقود.

أما الدول العربية اليوم، فتقف أمام تحديات أكثر تعقيدا وتشابكا: انقسامات طائفية عميقة، وتدخلات خارجية من قوى متعددة، ولعنة الموارد التي تعيق مسارات التنمية الاقتصادية، إضافة إلى صراعات متجذرة تستنزف الطاقات وتشتت الجهود عن بناء الدولة الحديثة.
إلى جانب ذلك، تغيّر السياق الدولي تغيّرا جذريا. فقد شرعت اليابان في مسار تحديثها في حقبة كانت فيها القوى الغربية، رغم ما مثّلته من تهديد، تُعد في نظر كثيرين نماذج يُحتذى بها وشركاء محتملين. أما دول الشرق الأوسط اليوم، فتمضي في مسارها داخل بيئة عالمية أكثر تعقيدا وتشابكا، يُنظر فيها إلى القوى الغربية في كثير من الأحيان بوصفها خصوما لا منافسين أو مصادر إلهام. فضلا عن ذلك، تتنازع القوى الإقليمية على فرض رؤاها المتباينة، بينما أصبح مفهوم "التحديث" ذاته موضع خلاف.
ومع ذلك، تظل تجربة اليابان حافلة بدروس عميقة يمكن الاستفادة منها. ولعلّ أبرزها أن الأيديولوجيا الإحيائية، وإن كانت الشرارة الأولى للتغيير، لا يمكن أن تكون وقوده الدائم، فلا بدّ من تجاوزها في نهاية المطاف إذا أُريد للتحديث أن ينجح. فلا يمكن لنهج يستمد رؤيته من الماضي وحده أن يصنع مستقبلا مزدهرا. فالمحدِّث الحقيقي هو من يُكرّم التقاليد دون أن يتقيد بها، ومن يصون الهوية الثقافية دون أن يتردّد في تبنّي الأساليب والتقنيات الحديثة.
وتقدّم الصيغة اليابانية "الروح اليابانية، والتقنية الغربية" نموذجا ملهما يمكن للدول العربية أن تستلهم منه نهجا موازيا يقوم على مبدأ "القيم الإسلامية، والأساليب الحديثة"، وهو نهج يحافظ على الهوية الدينية والثقافية، ويُجيز في الوقت ذاته توظيفا برغماتياً لكل ما يثبت فعاليته من تقنيات ومؤسسات.
غير أن تحقيق هذا النموذج يتطلب من القادة الدينيين والسياسيين قدرة على التمييز بين المبادئ الإسلامية الثابتة والممارسات التاريخية المتغيرة، وهو تمييز أدركه عبر العصور عدد من العلماء المسلمين، لكنه ما زال حتى اليوم موضع جدل واسع في السياقات العربية المعاصرة.
كما تُبرز تجربة اليابان بوضوح أهمية الوحدة الوطنية في مواجهة التهديدات الخارجية. فقد شكّل إدراك اليابانيين لخطر وقوع بلادهم تحت الاستعمار دافعا قويا لتجاوز الانقسامات الداخلية والتركيز على تعزيز الوحدة الوطنية. وربما تدرك الدول العربية أن التركيز على الوحدة والتنمية يشكّل مسارا أكثر واقعية واستدامة من الانخراط في الصراعات الطائفية أو التشبث بالنقاء الأيديولوجي.
وأخيرا، تُظهر قصة اليابان بجلاء أهمية القيادة البرغماتية القادرة على تكييف الأيديولوجيا مع متطلبات الواقع، بدلا من التضحية بالمصالح الوطنية في سبيل الحفاظ على تماسك أيديولوجي. فقد نجح قادة مييجي لأنهم حافظوا على تركيزهم على الهدف الأسمى، وهو  بناء دولة يابانية قوية، مستقلة، ومزدهرة، وكانوا مستعدين للتخلي عن أي التزامات فكرية أو أيديولوجية قد تعيق تحقيق ذلك الهدف.

الخاتمة: الطريق إلى الأمام


يبقى السؤال مفتوحا حول ما إذا كانت الدول العربية قادرة على الإفادة من تجربة اليابان في مسار التحديث. فالمقارنات بين العصور تبقى دائما ناقصة ومحدودة، إذ إن ما نجح في يابان القرن التاسع عشر قد لا ينجح بالضرورة في شرق أوسط القرن الحادي والعشرين، حيث تختلف السياقات والتحديات والموارد اختلافا جذريا.
ومع ذلك، تبقى الدينامية الجوهرية التي نجحت اليابان في توظيفها، أي الاستعانة بالأيديولوجيا الإحيائية لإشعال التغيير الثوري ثم تجاوزها لاحقا لتحقيق التحديث العملي، أكثر قابلية للتطبيق.

هل تستطيع الدول العربية المعاصرة أن تسلك المسار نفسه الذي سلكته اليابان؟ الجواب ليس واضحا، لكن التجربة اليابانية أثبتت أن مثل هذه التحولات ممكنة، مهما بدت بعيدة المنال

فإذا استطاعت الدول العربية أن تجد صيغة تُكرِّم من خلالها تراثها الإسلامي مع تبني مقاربة برغماتية في استخدام التقنيات والمؤسسات الحديثة، وأن ترسخ وحدة وطنية قائمة على أهداف مشتركة من تنمية وازدهار واستقرار، وأن تُفرز قيادة تتمتع ببرغماتية استراتيجية بدلا من الجمود الأيديولوجي، فقد تتمكن بدورها من تحقيق التحوّل التاريخي الذي حققته اليابان.

أ ف ب
متظاهرون يرفعون لافتات تحمل صور الامبراطور الراحل هيروهيتو اثناء تجمع في هونغ كونغ احتجاجا على جرائم الحرب اليابانية في الصين في 15 اغسطس 2000

لا شك أن الطريق أمام سوريا وسائر الدول العربية سيكون شاقا وطويلا، غير أن تجربة اليابان تؤكد أن المجتمعات ذات الجذور التقليدية العميقة قادرة على تحقيق التحديث دون أن تفقد هويتها الثقافية، وأن الثورات المستندة إلى أيديولوجيات إحيائية يمكن أن تتحوّل، في نهاية المطاف، إلى قوة دافعة للتقدم لا إلى سبب للنكوص، وأن القيادة الحكيمة والوحدة الوطنية قادرتان على فتح آفاق لتحولات غير عادية.
فهل تستطيع الدول العربية المعاصرة أن تسلك المسار نفسه الذي سلكته اليابان؟ الجواب ليس واضحا، لكن التجربة اليابانية أثبتت أن مثل هذه التحولات ممكنة، مهما بدت بعيدة المنال.
إن التحدي الذي يواجه العالم العربي لا يكمن في تقليد اليابان تقليدا أعمى، بل في استخلاص جوهر تجربتها وتطبيقه بشكل خلّاق داخل سياقات مغايرة تماما. فإذا استطاع العرب تسخير الطاقة الثورية للأيديولوجيا الإحيائية مع تجاوز حدودها في نهاية المطاف، فقد يتمكنون من كتابة قصة نجاحهم الخاصة في تحديث يحافظ على الأصالة الثقافية. فالمستقبل لم يُكتب بعد، والتاريخ يقدّم لنا في آن واحد أسبابا للأمل ومبررات للحذر.

font change