زخم إيراني مفتوح للسيطرة على الانتخابات العراقية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جندي عراقي يرفع إصبعه الملطخ بالحبر بعد التصويت في الجولة الأولى لانتخابات المجالس البلدية العراقية لعام 2023، في الكاظمية شمال بغداد

زخم إيراني مفتوح للسيطرة على الانتخابات العراقية

قبل أيام قليلة من إجراء الانتخابات البرلمانية العراقية، اُغتيل المرشح صفاء المشهداني بعبوة متفجرة اُلصقت بسيارته أثناء عودته من مشاهدة مباراة لكرة القدم. المشهداني عضو في مجلس محافظة بغداد وأبرز المرشحين عن "تحالف عزم"، الذي يقوده "الزعيم السُني" خميس الخنجر، المعروف بمواقفه الناقدة للنفوذ الإيراني في العراق.

قبل الحادثة بأيام، اُستبعد البرلماني ذائع الصيت سجاد سالم، بقرار من مجلس مفوضية الانتخابات، بدعوى "عدم توافر شرط حسن السيرة والسلوك"، ومثله عشرات المرشحين والبرلمانين السابقين "الشيعة" المعروفين بمناهضتهم للنفوذ الإيراني في العراق وانتقادهم لفصائل "الحشد الشعبي". في الوقت ذاته، لم يتمكن الحزبان الكرديان الرئيسان من تشكيل الحكومة المحلية في "إقليم كردستان"، على الرغم من مرور عدة أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية المحلية هناك، ما يؤشر إلى وجود ضغوط إيرانية واضحة لمنع حدوث ذلك قبل إجراء الانتخابات البرلمانية العراقية.

ضبط بأي ثمن

يرى المراقبون أن تلك الأحداث، ومثلها إجراءات وممارسات سياسية وميدانية يومية أخرى، تدل على مدى استنفار أدوات النفوذ الإيراني داخل العراق، وسعيها الدؤوب لضبط نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية قبل حدوثها، فضبط التشكيلة البرلمانية أمر بالغ الأهمية بالنسبة لإيران، وأداة جوهرية لحفاظها على نفوذها وأدوات قوتها هناك.

الانتخابات العراقية المزمع إجراؤها في الحادي عشر من شهر نوفمبر المقبل، هي الأولى بعد تفكك عدد من أجنحة إيران العسكرية والسياسية الإقليمية

الانتخابات العراقية المزمع إجراؤها في الحادي عشر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، هي الأولى بعد تفكك عدد من أجنحة إيران العسكرية والسياسية الإقليمية. وتجري عقب فشل إيران في تكريس أداة قوتها الرئيسة داخل بنية الدولة العراقية، بعد سحب الحكومة العراقية لـ"قانون الحشد الشعبي" من البرلمان، رغم الضغوط الإيرانية الشديدة، لكن السلطات العراقية خضعت في المحصلة للتحذيرات الأميركية. وفي ظل وضع أمني وسياسي قلق بالنسبة لإيران، إذ لا يُعرف إن كانت حرب إسرائيلية أخرى ستُشن على إيران أو باقي أدواتها أم لا، تحاول الأخيرة الحفاظ على نفوذها داخل العراق بأي ثمن.

أ.ف.ب
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يصافح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال مؤتمر صحافي في طهران، في 8 يناير 2025

يُصنف متابعو الشأن العراقي المساعي الإيرانية إلى ثلاثة مستويات، تتكامل مع بعضها لخلق الهدف النهائي لإيران، المتمثل في السيطرة على المؤسسة التشريعية الأولى، بغية خلق بيئة تشريعية/قانونية لأداة نفوذها الرئيسة– "الحشد الشعبي"- وهندسة انتخاب رئيسي الجمهورية والبرلمان القادمين وتشكيل الحكومة الجديدة. الأدوات الثلاث هي منع بروز كتلة "شيعية" وازنة منافسة لكتلة "الإطار التنسيقي" المقربة من إيران، وممارسة مختلف أشكال الضغط على المرشحين واللوائح المعروفة بمناهضتها للدور الإيراني، ومنع تشكل تحالفات برلمانية صلبة، قادرة على تشكيل جبهة برلمانية قبالة "الإطار التنسيقي".

السوداني بديلا عن الصدر

يعتبر الباحث في "مركز الفرات للدراسات" وليد جويلي أن منع حصول لائحة رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني على كتلة تتجاوز خمسين مقعدا برلمانيا (من أصل 329 مقعدا) هو هدف مركزي في استراتيجية إيران. لأن حدوث ذلك يعني على الأقل وجود كتلتين "شيعيتين" كبيرتين ضمن البرلمان. ويضيف جويلي في حديث مع "المجلة" قائلا: "حدوث ذلك يعني واحدا من احتمالين صعبين للغاية بالنسبة لإيران. فإما أن تتمكن كتلة السوداني من عقد تحالفات برلمانية مع الكتل السُنية والكردية، وتاليا تتشكل أول حكومة عراقية من خارج النفوذ الإيراني، بل على التضاد معها. أو أن تتحول تلك الكتلة البرلمانية (الشيعية) لتيار برلماني معارض ذي شرعية وخطاب وأدوات فعل من ضمن البيئة الشيعية العراقية نفسها".

طوال العامين الماضيين، خسرت إيران عددا من حلفائها الإقليميين، "حزب الله" والنظام السوري السابق وحركة "حماس"، وضعفت الفصائل الحوثية إلى حد بعيد

يتابع جويلي حديثه "طوال عقدين ماضيين، كان ذلك يحدث بنسب مختلفة في مواجهة التيار الصدري. لكن الأخير كان قابلا للضبط من قِبل إيران، سواء عبر الضغوط الأمنية الشديدة عليه، مثلما حدث في عام 2022، أو إشراكه أعضاء التيار في مؤسسات الدولة والسماح له بتشكيل فصائل مسلحة والحصول على (المغانم)، لو صح التعبير. لكن الفارق الأهم كان في هوية التيار الصدري نفسه، التي لم تكن مُقلقة لإيران. فهو في المحصلة كان من نفس البيئة التقليدية للنفوذ الإيراني في العراق، وعلى التضاد تماما من الولايات المتحدة، صاحبة النفوذ الموازي. هذه السمات التي لا تنطبق على الهوية السياسية للسوداني، بل العكس تماما يبدو صحيحا. فالسوداني من البيئة الشيعية نفسها، مدني الهوية وذو تجربة حُكم مستقرة، حقق خلالها بعض المنجزات التنموية، ويملك علاقات إقليمية ودولية واسعة. لو أضفنا لكل ذلك كتلة برلمانية وازنة، فإن فقدان إيران لمؤسسة (شرعية) كانت تحفظ وتشرعن نفوذها يبدو أمرا واردا تماما".

يفكك الباحث صبر جويلي ما يسميه "الاستراتيجية الإيرانية" للبرلمان العراقي، مصنفا الأمر كسلوك تقليدي مارسته إيران طوال السنوات الماضية، ولا تريد له أن يتكرر، ويزيد: "منذ أن فقدت الكتل البرلمانية المقربة من إيران القدرة على تشكيل الحكومات العراقية عبر زعماء كتلها مباشرة، على الأغلب منذ عام 2014، بعدما أجبر النفوذ الأميركي رئيس الوزراء وقتئذ نوري المالكي على التنازل عن تشكيل ثالث حكومة برئاسته، فإن الاستراتيجية الإيرانية كانت عبر دعم مرشح ما لرئاسة الوزراء، لكن فعل كل شيء في اليوم التالي كي لا يخرج هذا الرئيس عن الإطار العام لما تعتبره إيران خطوطها الحمراء في الداخل العراقي، تحديدا فيما خص نزع الشرعية عن فصائل "الحشد الشعبي".

أ.ف.ب
امرأة تمر أمام لوحات إعلانية انتخابية واحدة منها تحمل صورة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وسط بغداد في 19 أكتوبر 2025.

المثير أن مختلف رؤساء الوزراء منذ ذلك الوقت: حيدر العبادي، وعادل عبد المهدي، ومصطفى الكاظمي، ومحمد شياع السوداني، حاولوا فعل ذلك بطرق مختلفة، ليس كسلوك سياسي أو نزوع أيديولوجي مناهض لفصائل "الحشد الشعبي"، بل كمحاولة لإزالة المنافسة المانعة لتحولهم إلى زعماء سياسيين. وهو أمر لا تريد إيران له أن يتكرر".

هيمنة على بنية الدولة

طوال العامين الماضيين، خسرت إيران عددا من حلفائها الإقليميين، "حزب الله" والنظام السوري السابق وحركة "حماس"، وضعفت الفصائل الحوثية إلى حد بعيد. العامل السياسي المشترك بين مختلف هذه الأدوات الإيرانية كان عدم استحواذها على "شرعية الدولة"، وهو أمر لا ترغب في تكراره داخل العراق، ولأجل ذلك تسعى لاجتراح برلمان عراقي يسيطر فيه حلفاؤها على الكتلة الأكبر بوضوح، لتقر "الحشد الشعبي" كمؤسسة "شرعية" ضمن الدولة العراقية، وتاليا حفظ مصالح ونفوذ إيران بشكل مستدام ومستقر.

اغتيال المرشح عن "قائمة تحالف عزم" وعضو مجلس محافظة بغداد صفاء المشهداني أظهر إمكانية تصعيد الأمور إلى أقصى الدرجات، والعودة إلى أحداث وممارسات سابقة

يعتقد القائمون على السياسة الخارجية الإيرانية أن إسرائيل تمكنت من قصف وتدمير البنى التحتية لحلفائها الإقليميين طوال العامين الأخيرين، لأن هؤلاء الحلفاء لم يكونوا محميين بمظلة وشرعية الدول التي نبتوا فيها، ما سمح لإسرائيل بالتأكيد على أن شكل حربها هو مع ميليشيات غير شرعية في هذه الدول، بل مهيمنة على دولها ومجتمعاتها.

ترى إيران أن عاما واحدا فحسب يفصلها عن موعد تحديد مستقبل فصائل "الحشد الشعبي" في الداخل العراقي. فشهر سبتمبر/أيلول من العام القادم هو الموعد النهائي لانسحاب القوات الأميركية من باقي مناطق العراق، ولو كانت الاستراتيجية الإسرائيلية تتضمن خطة بشن حرب ضد "الحشد الشعبي" العراقي، فإنها يجب أن تفعل ذلك ضمن هذه المدة، لا بعدها. استباقا لذلك، فإن إيران ستسعى بكل حزم لأن تكون تشكيلة البرلمان القادم شديدة القرب والتآلف معها، لتقر قانون "الحشد الشعبي" بسرعة فائقة قبل حدوث الضربة، وتاليا أن يكون أي هجوم إسرائيلي ضدهم بمثابة إعلان حرب ضد العراق نفسه.

كل أدوات الضغط

يعتقد متابعو الشأن العراقي أن ثمة استراتيجية إيرانية كاملة خاصة بالانتخابات العراقية. فعقب الزيارة التي قام بها أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني إلى العاصمة العراقية بغداد في أواسط شهر أغسطس/آب المنصرم، بدأت مختلف الأدوات الميدانية بالعمل بشكل متناغم. إذا أكد لاريجاني قُبيل مغادرته طهران نحو بغداد أن "أمن المنطقة مبدأ استراتيجي مشترك"، وهو الخطاب التقليدي الذي تطرحه إيران حينما تحاول إعادة إحياء نفوذها في بقعة إقليمية ما. وكان لافتا توقيعه لـ"اتفاقية أمنية ثنائية مع الحكومة العراقية"، رغم توقيع أخرى قبل عام واحد، ولقائه بعدد كبير من المسؤولين والقوى السياسية والاجتماعية العراقية، كان يؤكد عقب كل واحدة منها أن الهدف هو "تعزيز التعاون الثنائي".

أ.ف.ب
لوحات إعلانية انتخابية في وسط بغداد في 19 أكتوبر 2025

استبعاد النائب السابق سجاد سالم من السباق الانتخابي شكل مؤشرا على رفض تشكل كُتلة "شيعية/مدنية"، لأن الأخيرة يُمكن لها أن تتحالف مع كتلة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وتخلق "أغلبية شيعية" ضمن البرلمان. سالم، ومثله العشرات من المرشحين الآخرين، اُستبعدوا لأسباب واهية للغاية حسب رأي المتابعين. فمجلس المفوضين ألغى ترشح سالم لأنه حسب رأيهم "لا يحقق شرط حسن السيرة والسلوك"، مستندا إلى تصريح قديم للنائب، يُندد فيه بسلوك قادة الأحزاب السياسية العراقية، المتسترين على جريمة اغتيال المئات من الشُبان أثناء "انتفاضة تشرين 2019"، ويشاركون راهنا في "المواكب الحسينية".

الأمر ترافق مع حملات إعلامية وسياسية ودعائية مكثفة تُشن على المرشحين المناهضين للنفوذ الإيراني، كان واضحا أن مختلف قنوات ومنابر التأثير تستخدم نفس الخطاب والإشارات والأدوات، التي تخوّن المختلفين وتتهمهم بالارتباط بالدول الخارجية وتحذر القواعد الاجتماعية من إمكانية وصولهم إلى سُدة البرلمان.

لكن اغتيال المرشح عن "قائمة تحالف عزم" وعضو مجلس محافظة بغداد صفاء المشهداني أظهر إمكانية تصعيد الأمور إلى أقصى الدرجات، والعودة إلى أحداث وممارسات سابقة، فيما كان ثمة أي تهديد بإمكانية خروج التشكيلة البرلمانية القادمة عما هو مُخطط لها.

font change

مقالات ذات صلة