العراق... سجالات ما قبل الانتخابات

الدعاية الانتخابية لقوى السلطة ما زالت توظف شعارات الخوف من عودة حزب "البعث"

أ ف ب
أ ف ب
يحمل أحد موظفي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق صندوق اقتراع مغلقًا بينما يقوم آخرون بفرز الأصوات يدويًا لمطابقة الفرز الإلكتروني في أحد مقرات المفوضية في منطقة الكرخ ببغداد في 23 ديسمبر 2023

العراق... سجالات ما قبل الانتخابات

هل ستجرى الانتخابات في موعدها؟ هل سيحدث شيء يؤجل الانتخابات؟ ما مدى احتمالية الذهاب إلى حكومة طوارئ؟ هل سيؤثر المقاطعون على شرعية ومشروعية الانتخابات؟

هذه الأسئلة وغيرها، تُثير سجالات العراقيين قبل بدء الانتخابات المقرر إجراؤها في 11 نوفمبر/تشرين الثاني القادم. كان يفترض بتقادم العملية الانتخابية خلال ست دورات، أن يكون هناك تغير في السجالات التي تسبق الانتخابات. ويكون هناك تغيير في خطابات القوى السياسية وشخصياتها. إلا أن التجربة العراقية لا تعترف بهذه القاعدة، وكأنما الزمن متوقف ويعيد نفس السجالات التي تتعلق بالماضي أكثر مما تناقش آفاق المستقبل.

تخيل أن الدعاية الانتخابية لقوى السلطة، ما زالت توظف شعارات الخوف من عودة حزب "البعث" مرة أخرى إلى الحكم، إذا لم يشارك الجمهور الشيعي بقوة في الانتخابات! ونفس الخطاب في طياته يستثمر في المخاوف الطائفية، واحتمالية خسارة الأغلبية الشيعية وصعود القوى السياسية السنية، إذا لم تكن هناك مشاركة فاعلة في الانتخابات القادمة!

ومن بين تناقضات سجالات ما قبل الانتخابات، هي الحديث عن وجود من يتربص بالعملية السياسية، أو يريد تغييرها. وتتم دعوة الجمهور إلى ضرورة المشاركة في الانتخابات للمحافظة على المكسب الوحيد الذي تحقق بعد 2003، وهو حق الأغلبية في الحكم. ولكن في مقابل هذه الدعوة إلى الانتخابات يكون خطاب التلويح بحضور السلاح للدفاع عن هذا "المكسب"! إذ يبدو أن التلويح بالسلاح لحماية تجربة الحكم في العراق يوازي الانتخابات. وإلا كيف يمكن تفسير مرور اثنين وعشرين عاما، ولا زال سياسيونا يتحدثون عن مخاوف ومؤامرات تستهدف تجربتهم في الحكم. ويتم تجاهل علاقتهم بالمحكومين، هل هي جيدة أم سيئة!

سجالات مقاطعة الانتخابات، لم تعد ظاهرة جديدة. فمع كل دورة انتخابية ترفع رايات مقاطعة، ولا تخلو حجج المقاطعين من الأدلة المنطقية والدلالات الواقعية

وفي الوقت ذاته، يتم ترويج حالة من اللايقين بشأن إجراء الانتخابات في موعدها. ويعاد السيناريو نفسه عند كل انتخابات، بطرح احتمالية الذهاب نحو "حكومة طوارئ". ولا أحد يعرف من هو الذي سوف يقود هذه الحكومة، ولا حتى ما وظيفتها الأساسية! ربما تكون فرضية التأثر بأحداث المنطقة التي تواجه خطر العودة إلى الحرب بين طهران وتل أبيب مرة أخرى، هي سبب للتفكير بأن العراق هو برميل البارود الذي يمكن أن تصل إليه شرارة الحرب وينفجر. ولكن هذا الموضوع لا يرتقي إلى أن يكون سبباً لتأجيل الانتخابات والذهاب نحو "حكومة طوارئ"؛ فإذا حدثت الحرب وتوسعت ساحتها لتشمل العراق، فلن يكون الاستهداف للعراق كدولة ومؤسسات وإنما لشخصيات وفصائل مسلحة في عمليات محدودة.

تكرار الشعارات

على مستوى الدعاية الانتخابية، يتم تكرار نفس الشعارات الانتخابية التي لم تتحقق في خمس دورات سابقة، وعلى رأس هذه الشعارات نجد إعادة لشعار "بناء الدولة". والمفارقة هنا، أن من يطلق هذه الشعارات إما كان شريكاً أساسياً في معادلة الحكم بعد 2003، وإما كان في قمة هرم السلطة. وطوال تلك الفترة كانت وظيفته الأساسية ليس إعادة بناء الدولة، وإنما مأسسة الخراب والفوضى وتأسيس لأعراف تهمش الدستور ودور المؤسسات. والآن رغم تناقص حضور وأعداد نوابه يعيد نفس الوعود التي فشل في تنفيذها عندما كانت بيده السلطة والنفوذ.

عندما تقترب الانتخابات، يبدأ السياسيون العراقيون التعايش مع الثنائيات المتعارضة، إذ يستهويهم العيش في الحالة ونقيضها، فهم بيدهم السلطة والحكم ولكن المعارضة حاضرة في تفكيرهم وخطابهم وسلوكهم السياسي، بيدهم الدولة ومؤسساتها لكنهم يعملون على تنمية كل الأذرع والمافيات والسلوكيات التي تهدم الدولة، يريدون أن يكونوا حماة المذهب والطائفة والقومية وفي الوقت ذاته يدعون أن همهم الأول هو بناء الوطن وحمايته من التقسيم، يدعون أنهم أحرار في اتخاذ القرارات والمواقف التي تحدد مصير البلد، لكنهم لا يجتمعون ولا يتفقون لحسم المواضيع الحساسة إلا برعاية الأجنبي. ولا يمكن أن تستثني أحدا من الطبقة السياسية من حالة التناقض هذه فالشيعة والسنة والكرد جميعهم تستهويهم لعبة الدولة ونقيضها.

أ ف ب
رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني وهو يسجل للتصويت في مركز اقتراع في بغداد خلال انتخابات مجلس المحافظات العراقية لعام 2023، وهي أول انتخابات من نوعها منذ عقد

الجدل السياسي في مرحلة ما قبل الانتخابات يوحي لنا بأن العدم نطق في العراق مجددا؛ لأننا في مرحلة إفلاس الشعارات والعناوين التي كانت تتحدث عن امتلاكها حلولا لأزمات العراق. ولذلك ليس من المستغرب أن تنعدم ثقة الجمهور بالطبقة الحاكمة عندما تبقى تتعذر بوجود اختلالات مزمنة، وتفتقد القدرة على الحد من استمرارها أو مواجهة مستجداتها، وتوحي خطابات السياسيين بأنهم متفاجئون من حالة التدهور والفوضى! وكأنما هم ليسوا من ضمن المنظومة السياسية التي كانت ولا تزال السبب الرئيس في تنمية الفشل والفساد في جميع مفاصل الحياة العامة وليس مفاصل الدولة فقط.

التفكير باستقطاب الجمهور في مواسم الانتخابات من خلال رفع الشعارات السياسية، حتى إنْ كانت بعيدة عن برنامج سياسي واضح وصريح المَعالم، قد يكون مبرراً كتوظيف في الدعاية الانتخابية. لكنه يحتاج بالدرجة الأولى إلى حضور عنصر الإقناع وليس الاعتماد على الهتافات واللافتات الدعائية فحسب. لذلك قد تكون الدعاية ساذجةً وسمجة، عندما تفكر باستغفال الجمهور والتعامل معه وكأنه يعاني من الزهايمر، وهذا ما يفعله كثيرٌ من زعماء الطبقة السياسية وحاشيتهم هذه الأيام.

المقاطعون

أما سجالات مقاطعة الانتخابات، فلم تعد ظاهرة جديدة. فمع كل دورة انتخابية ترفع رايات مقاطعة، وتكون حجج المقاطعين لا تخلو من الأدلة المنطقية والدلالات الواقعية. وأهمها: "ماذا سوف تغير الانتخابات، بعد أن جربنا خمس دورات سابقة"، و"ما فائدة الانتخابات إذا كان القادة السياسيون يبقون بالسلطة ولا يتغيرون"؟

بسبب اعتماد الاقتصاد العراقي على الريع النفطي، اندمجت السلطتان الاقتصادية والسياسية في أيدي الأحزاب السلطوية وشخصياتها وزعامتها

المقاطعة هذه المرة تختلف كثيرا عن سابقاتها، فعندما يرفع لواءها التيار الصدري، بالتأكيد سيكون صوتها أقوى وصداها أوسع. صحيح أنها لن تؤثر على الشرعية القانونية للانتخابات، ولكن عندما يقاطعها أكثر الجماهير انتظاما في المشاركات السابقة، قطعا سيكون تأثيره واضحا على نسبة المشاركة. ومن ثم، مشروعية تمثيلها السياسي، والذي سيكون ثلمة في مصداقية تمثيل القوى السياسية الشيعية لجمهورها في إحدى عشرة محافظة.

يدرك الصدريون ودعاة مقاطعة الانتخابات، أن تدني نسبة المشاركة لا تطعن في شرعيتها القانونية، ولكن هذه المقاطعة وتأثيرها على نسبة مشاركة الجمهور في الانتخابات يمكن أن تستثمر في الطعن بمشروعية الانتخابات السياسية وليس القانونية. لاسيما أن نسبة المشاركة في نظام يشهد تحولا نحو تطبيق الديمقراطية، يفترض أن تتصاعد مع تقادم الممارسة الانتخابية، بيد أنها في العراق بدأت تنحدر نحو الانخفاض مقارنة بأول انتخابات جرت في 2005، والتي وصلت في انتخابات 2010 إلى أعلى نسبة إذ بلغت 62.4 في المئة. لكنها بدأت بالتراجع حتى بلغت 41 في المئة في انتخابات 2021!

أ ف ب
أنصار رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر يحتفلون في ساحة التحرير ببغداد في 11 أكتوبر 2021 بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية

ولكن، صحيح أن مقاطعة الانتخابات تعد موقفاً سياسياً احتجاجيا، إلا أنها موقف وليست استراتيجية لتصحيح المسار السياسي، كونها تفتقر إلى التفكير في الخطوة اللاحقة. لاسيما أنها في النتيجة النهائية قد تكون لصالح قوى السلطة التقليدية حتى يكون التنافس بين مرشحي الأحزاب السياسية التقليدية محصوراً بين زبائن الاقطاعيات السياسية. والمقاطعة بالنتيجة ستكون لصالح القوى السلطوية التي تهيمن على مراكز النفوذ السياسي، وستبقى في إطار المواقف السجالية التي لا يمكن لها أن تغير من واقع سطوة الزعامات السياسية وحاشيتها على القرار السياسي في العراق. فمنظومة الحكم تأسست على أساس التعاطي مع الانتخابات باعتبارها أدوات تجميلية لإضفاء "الشرعية" على نفوذها وسيطرتها السياسية.

المسكوت عنه

يبدو أن ساستنا لا يجيدون غير الثرثرة السياسية في قضايا الاقتصاد، أو في أحسن الأحوال هم بارعون في التشخيص، ولكنهم عاجزون عن تحويل الحلول من التخطيط على الورق والحديث في المنتديات الإعلامية والندوات السياسية والأكاديمية إلى الواقع العملي. وهم يجيدون خطاب التشكي والتذمر مِن تضخم عبء الإنفاق الحكومي على الرواتب.

بسبب اعتماد الاقتصاد العراقي على الريع النفطي، اندمجت السلطتان الاقتصادية والسياسية في أيدي الأحزاب السلطوية وشخصياتها وزعامتها. ومن ثم، أصبحت وظيفة الحكومات تنحصر في مهمتين: الأولى تنمية موارد الأحزاب وزعامتها السياسية وضمان هيمنتها على موارد الدولة ونشاطاتها الاقتصادية. والثانية، توسيع دائرة زبائنها السياسيين من خلال التعيينات في دوائر الدولة، فهم بالنتيجة رعايا وأصوات انتخابية تابعون لهذا الحزب السياسي أو ذاك، وليسوا مواطنين تضمن الدولة توفير فرص العمل لهم.

لا نسمع في خطاب القوى السياسية الانتخابي كيف يمكن إدارة طموحات الشباب إلى دخول سوق العمل بربع مليون وظيفة حكومية كل عام

يقول عصام الخفاجي: إن الدولةَ الريعيةَ في العراق لا تؤمن الإذعان لها والسكوت على تجاوزاتها لمجرد أنها تشغل أكبر عدد مِن العاملين فحسب، بل هي تخرب كل مفهوم حول اقتصاد السوق وتحيله إلى نظام مافيا مقنن لأنها هي مَن يمنح العقود والمقاولات، ويتم ذلك في أجواء بعيدة كل البعد عن التنافس المتكافئ.

لذلك ليس غريبا عدم إصغاء الطبقة الحاكمة إلى الناس، ولامبالاتها في تكرار شعاراتها واستمرارها بالفساد والسطو على المال العام، ما دام النفط هو شريان الاقتصاد. فالحكومات هي من تهب وتوزع العطايا على الرعايا، ما دامت قادرة على تمويل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية وشرطتها وجيشها مما تدره عليها موارد النفط. وتغطي على فشلها وسوء إدارتها وحتى فسادها من خلال تأسيس شبكات إعلامية دعائية تروج لمنجزاتها الوهمية وتسقط خصومها ومَن يعارضها.

لا نسمع في خطاب القوى السياسية الانتخابي كيف يمكن إدارة طموحات الشباب إلى دخول سوق العمل بربع مليون وظيفة حكومية كل عام، ووصول عدد الموظفين والمتقاعدين إلى عتبة الخمسة ملايين! وتأمين الرواتب في الموازنة العامة يحتاج إلى بقاء أسعار النفط أعلى من 60 دولارا للبرميل الواحد. وفي جردة حساب لبيانات حسابات الدولة للموازنة الاتحادية الصادرة عن وزارة المالية، نجد أن أجمالي الرواتب المدفوعة قد استهلك 99.2 في المئة من واردات النفط في النصف الأول لعام 2025.

كذلك، لا أحد يجادل عن ارتفاع الدين العام الداخلي إلى أعلى نسبة في تاريخ المالية العامة في العراق، حسب وصف الخبير الاقتصادي الدكتور عماد عبد اللطيف سالم، إذ ارتفع من 70 تريليون دينار في 2023 إلى 92 تريليون دينار في نهاية أغسطس/آب 2025.

font change