بعد سقوط الفاشر... لماذا ستحدد الأبيّض مصير السودان؟

نقطة تحول تنذر بما هو أسوأ

أ ف ب
أ ف ب
سودانية تحمل لافتة كُتب عليها باللغة العربية "#أنقذوا_الفاشر" خلال احتجاج منظم ضد انتهاكات قوات "الدعم السريع" بحق أهالي الفاشر، في مدينة القضارف شرقي السودان، في 6 نوفمبر 2025

بعد سقوط الفاشر... لماذا ستحدد الأبيّض مصير السودان؟

بعد سقوط مدينة الفاشر السودانية بيد "قوات الدعم السريع"، تتجه الأنظار نحو الأبيض- المدينة التي قد تحدد مصير السودان. فإذا كانت الفاشر قد أظهرت قدرة "الدعم السريع" على الحسم الميداني رغم الكلفة الإنسانية الفادحة، فإن الأبيض ستكشف ما إذا كان الجيش قادرا على وقف هذا التمدد، أم إن البلاد تتجه فعليا نحو تقسيم لم يعد بالإمكان تجاهله.

لم يكن سقوط الفاشر مجرد سيطرة عسكرية على مدينة استراتيجية، بل كان نقطة تحول ميدانية حملت معها كارثة إنسانية واسعة. فقد تعرضت المدينة لقصف عنيف بالطائرات المسيّرة والمدفعية الثقيلة، وسقط فيها عدد كبير من القتلى والجرحى. الأسوأ من ذلك هو ما جرى داخل المستشفى السعودي، حيث وثقت منظمات محلية ودولية عمليات إعدام لمرضى ومصابين على يد "قوات الدعم السريع". انتشرت الصور على وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة، كاشفة حجم الوحشية التي طالت المدنيين، ومحولة الفاشر من مدينة منكوبة إلى رمز لانهيار كل الضوابط الأخلاقية والإنسانية في الحرب السودانية.

إذا كانت الفاشر قد سقطت، فإن الأبيض هي الاختبار الحقيقي لما إذا كان هذا السقوط مجرد نكسة تكتيكية أم بداية انهيار استراتيجي للجيش السوداني

وفي ظل هذا الانهيار المريع، انشغل الطرفان بتبادل الاتهامات. فـ"الدعم السريع" حاول التنصل من مسؤوليته عن الفظائع، زاعما أنها "حوادث فردية" أو "مؤامرات إعلامية"، بينما عاد الجيش للمطالبة بتصنيف "الدعم السريع" منظمة إرهابية. لكن هذا السجال لم يغير شيئا على الأرض، ولم يقدّم أي حماية للمدنيين، بل كشف فقط مدى ضياع البوصلة لدى الطرفين، واتساع الهوة بين الواقع الميداني وخطاب المسؤولية السياسية.

الأبيض: لماذا هي المعركة الفاصلة؟

إذا كانت الفاشر قد سقطت، فإن الأبيض هي الاختبار الحقيقي لما إذا كان هذا السقوط مجرد نكسة تكتيكية أم بداية انهيار استراتيجي للجيش السوداني. فالأبيض ليست مجرد مدينة كبيرة، بل عقدة استراتيجية تتحكم بخطوط الإمداد التي تربط غرب السودان بشرقه ووسطه، وتفتح الطريق نحو الخرطوم وولايتَي الجزيرة والنيل الأبيض شرقا، وإلى دارفور غربا. وتزداد أهميتها مع مرور خط أنابيب النفط قرب حدودها الشرقية، وهو الشريان الحيوي الأخير للدولة ولجنوب السودان.

أ.ب
المنطقة المحيطة بمقر الفرقة السادسة للجيش السوداني في الفاشر، السودان، في 26 أكتوبر 2025

تشهد المدينة حاليا تأهبات قصوى وتحشيدات عسكرية غير مسبوقة من كلا الطرفين. فبعد سقوط الفاشر مباشرة، وسّع الجيش السوداني دفاعاته حول المدينة وحشد أعدادا كبيرة من قواته فيها وفي مدينة أم روابة المجاورة. تضم الأبيض الفرقة الخامسة مشاة، المعروفة باسم "الهجانة"، وهي واحدة من أقدم فرق الجيش السوداني وأشهرها، وتمثل حاليا المدافع الأبرز عن المدينة في مواجهة أي محاولة اقتحام.

وبعد نجاحه في إبعاد "قوات الدعم السريع" عن ولايتي الجزيرة والخرطوم، حرّك الجيش قوات ضخمة إلى المحور الغربي، حيث تمكن من استعادة السيطرة على مدينة بارا الاستراتيجية ثم التقدم نحو مناطق أم صميمة والخوي. وقد أعلن قائد "كتائب البراء بن مالك" عن تجهيز قوة مشتركة من ولاية الجزيرة قوامها 60 ألف جندي، في إشارة إلى حجم التعبئة التي يشهدها الجيش وحلفاؤه. كما توعد مساعد القائد العام للقوات المسلحة، الفريق ياسر العطا، بتحقيق نصر حاسم على "الدعم السريع"، متنبئا بانهيارها الوشيك في ولايات كردفان وإقليم دارفور.

"الدعم السريع"، الذي يرتكب الانتهاكات ويقوم بتوثيقها بنفسه ونشرها بلا خجل، يتحدث عن السلام ويوافق على الهدن، ويقدّم نفسه باعتباره الطرف الأكثر مرونة

في المقابل، لم تقف "قوات الدعم السريع" مكتوفة الأيدي. فقد حشدت قوات ضخمة في مدينة بارا ومناطق متفرقة في كردفان، وتفرض حاليا وجودها في منطقة أم صميمة الاستراتيجية، الواقعة على بعد 40 كيلومترا غرب الأبيض، بهدف واضح: منع تقدم الجيش غربا نحو دارفور. وقد ازداد عدد مركباتها في المنطقة بشكل ملحوظ بعد سيطرتها على الفاشر، في محاولة لتعزيز خطوط دفاعها وتأمين مناطق نفوذها الجديدة.

وسط هذه التحشيدات، توقف السكان المدنيون عن التوجه إلى مزارعهم خوفا من المواجهات المحتملة، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما حدث قبل سقوط الفاشر، حين تحولت المدينة إلى ساحة معركة دفع ثمنها المدنيون غاليا.

الدبلوماسية المعطلة: لماذا فشلت المفاوضات؟

تواصل المجموعة الرباعية جهودها لإعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات، لكن مواقف الجانبين تجعل أي حوار فعلي شبه مستحيل.

AFP
عرض عسكري للجيش السوداني في يوم الجيش،14 اغسطس 2024

الجيش السوداني يشترط انسحاب "الدعم السريع" من المناطق التي تسيطر عليها قبل بدء أي مفاوضات. ومن وجهة نظره، فإن أي هدنة في هذا التوقيت ليست أكثر من فرصة يمنحها لخصمه كي يعيد ترتيب صفوفه وتموضعه، وهو ما يسميه "المؤامرة المضمّنة داخل اتفاقات الهدنة". ورغم أن هذا الطرح قد يبدو مفهوما في السياق العسكري، فإنه عمليا يتحول إلى شرط يشبه الاستسلام. وتزداد الصورة قتامة مع البيان الرسمي الذي أصدره مجلس الأمن والدفاع السوداني في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني، معلنا رفضه للتفاوض، ثم خرج رئيس الوزراء السوداني وعدد من السفراء يتحدثون عن استمرار المعركة حتى النصر.

أما "الدعم السريع"، الذي يرتكب الانتهاكات ويقوم بتوثيقها بنفسه ونشرها بلا خجل، فإنه في المقابل يتحدث عن السلام ويوافق على الهدن، ويقدّم نفسه باعتباره الطرف الأكثر مرونة. ويصدر بيانات ناعمة يكرر فيها أن الحرب ليست هدفه وأنه "صديق السلام والديمقراطية"، محاولا تلميع صورة ميدانية تزداد سوءا كلما اتسعت رقعة سيطرته. لكن هذا الخطاب السياسي الناعم يصطدم بواقع ميداني أكثر قسوة: فالسيطرة الكاملة على الأبيض ستمنح "الدعم السريع" موقعا استراتيجيا يصعب التراجع عنه، وستجعل أي مفاوضات مستقبلية تنطلق من واقع جديد تماما على الأرض.

المسار الأخطر والأكثر دموية، يتمثل في تحول الحرب إلى حرب مدن شاملة تمتد إلى مناطق الوسط، بما في ذلك العاصمة وأطرافها

في ظل هذا الجمود، جاء تصريح مسعد بولس مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليضيف بُعدا جديدا للمشهد، حين قال إن هناك "وسائل يمكن استخدامها لدفع الأطراف نحو حل حقيقي للأزمة السودانية". ورغم أنه لم يحدد طبيعة هذه الوسائل بشكل مباشر، فإن حديثه حمل إشارة واضحة إلى أن المجتمع الدولي يمتلك أدوات ضغط لم يستخدمها بعد بالكامل، سواء عبر تشديد الرقابة على تدفق السلاح، أو عبر إقناع القوى الإقليمية بلعب دور أكثر مسؤولية، أو عبر إعادة هيكلة مسار التفاوض نفسه ليكون أكثر إلزاما وأقل هشاشة. لكن السؤال يبقى: لماذا لم تُفعّل هذه الوسائل حتى الآن؟ ولماذا ينتظر المجتمع الدولي حتى تحسم المعارك الميدانية مصير مدن استراتيجية كالأبيض قبل أن يتدخل بجدية؟

سيناريوهات ما بعد الأبيض

مع كل التحديات التي تشهدها الوساطات الإقليمية والدولية، يقف السودان اليوم أمام مفترق حاسم يتمثل في مسارين محتملين، كلاهما مُر.

المسار الأول: التقسيم الفعلي

يتجه هذا المسار نحو توزيع مناطق النفوذ بين الطرفين، بحيث يتركز الجيش السوداني في الشرق و"قوات الدعم السريع" في الغرب. والمفارقة المؤلمة أن هذا السيناريو يتشكل فعليا على الأرض اليوم، بصمت ودون أن يلتفت إليه كثيرون. فالخريطة الميدانية الحالية تكاد تكون خريطة تقسيم واضحة المعالم، حيث بات لكل طرف مناطقه ومدنه وخطوط إمداده.

هذا السيناريو، رغم أنه يعكس حالة "توازن قلق"، قد يكون الأقل سوءا لأنه يفتح المجال لوقف إطلاق نار نسبي أو تفاهم ميداني يوقف نزيف الدم المستمر. وفي ظل هذا الواقع، قد تنطوي تحت هذا الخيار مستقبلا مساعٍ للحصول على سودان موحد أو فيدرالي بصيغة ما، رغم أن هذا الاحتمال يبدو صعب التقبل في الوقت الحالي في وجدان المواطن السوداني.

أ.ف.ب
أشخاص فروا من مخيم زمزم للنازحين بعد سقوطه تحت سيطرة قوات الدعم السريع، يصطفون للحصول على حصص غذائية، في منطقة دارفور غرب السودان في 13 أبريل

لكن السؤال الأكثر جوهرية يبقى معلقا: ما طبيعة الكيان الذي يريد "الدعم السريع" إنشاءه في الغرب؟ فـ"الدعم السريع" تنظيم عسكري قائم على النهب والانتهاكات، ولا يمتلك تصورا واضحا عن الحكم أو المؤسسات أو الشرعية. وحتى لو سيطر على مناطق واسعة، فإن أي حديث عن "دولة" في الغرب يبقى مجرد وهم يخفي واقعا أقرب إلى الفوضى والسيطرة الميليشياوية منه إلى أي مشروع سياسي حقيقي.

المسار الثاني: حرب المدن الشاملة والتفتت الكامل

وهو المسار الأخطر والأكثر دموية، ويتمثل في تحول الحرب إلى حرب مدن شاملة تمتد إلى مناطق الوسط، بما في ذلك العاصمة وأطرافها. وهذا لا يعني مجرد تصعيد عسكري، بل يعني تحول الصراع من خطوط مواجهة واضحة إلى فوضى أمنية شاملة داخل المدن، حيث تختلط القوات بالمدنيين وتتحول الأحياء السكنية إلى ساحات قتال. هذا السيناريو الكابوسي لا يقود فقط إلى انهيار كامل لمؤسسات الدولة، بل إلى تحويل السودان إلى دولة فاشلة بكل المقاييس، شبيهة بما حدث في الصومال وليبيا واليمن.

الجهود الدبلوماسية، رغم أهميتها، تبدو عاجزة عن وقف آلة الحرب التي تلتهم البلاد. لكن الحقيقة أن المجتمع الدولي يمتلك القدرة على ممارسة ضغط أكبر بكثير مما يفعله اليوم

والحقيقة أن المشهد العسكري السوداني لا يقتصر على الجيش و"الدعم السريع" فحسب، بل يشمل منظومة معقدة من الحركات المسلحة والميليشيات المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد: من "حركة تحرير السودان" بقيادة عبد الواحد نور في جبل مرة، إلى "الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال" بقيادة عبد العزيز الحلو في جنوب كردفان التي تطالب بحق تقرير المصير، مرورا بـ"قوات كيكل" في النيل الأزرق، و"قوات البجا" و"درع البطانة" في الشرق، وصولا إلى "القوات المشتركة" التي تضم تحالفا من حركات دارفور المسلحة، وميليشيات "المسلاتية" في الجزيرة، و"كتائب الدفاع الشعبي" السابقة المنتشرة في عدة مناطق والتي أُعيد تفعيلها خلال الحرب الحالية.

هذا التشرذم العسكري يعني أن السودان لم يعد يواجه حربا بين طرفين فقط، بل يواجه احتمال تفككه إلى دويلات ومناطق نفوذ متعددة، يحكم كلا منها منطق السلاح والقبيلة والمصلحة الضيقة، في غياب شبه تام لأي مشروع وطني جامع أو رؤية سياسية موحدة.

الضغط الدولي الغائب

الجهود الدبلوماسية، رغم أهميتها، تبدو عاجزة عن وقف آلة الحرب التي تلتهم البلاد. لكن الحقيقة أن المجتمع الدولي يمتلك القدرة على ممارسة ضغط أكبر بكثير مما يفعله اليوم. فرض حظر سلاح فعّال بمراقبة موانئ بورتسودان وحدود تشاد، والضغط على الدول الداعمة لوقف الإمداد العسكري، وتجميد الأصول المالية لقادة الطرفين، وإحالة ملف جرائم الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية بشكل جدي، كلها أدوات متاحة لكنها غير مُفعّلة.

وما لم يحدث تحول جذري في المعادلة، سواء بضغط دولي حقيقي أو بصحوة ضمير لدى قادة الطرفين، فإن السودان يتجه نحو كارثة إنسانية وسياسية لا يمكن التنبؤ بعواقبها. دولة بحجم السودان وموقعه الاستراتيجي الذي يربط شمال أفريقيا بشرقها، ويمتد من البحر الأحمر إلى قلب القارة، لا يمكن أن تنزلق إلى الفوضى أو التقسيم دون أن يدفع الجميع ثمنا باهظا. موجات اللجوء، وتهريب السلاح، وانتشار الجماعات المسلحة والإرهاب، وتعطيل طرق التجارة، كلها تداعيات لن تتوقف عند الحدود السودانية، بل ستضرب مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وليبيا وإريتريا.

فليس من مصلحة أحد أن تستمر دولة بهذا الحجم والموقع في الانزلاق نحو الهاوية. والسؤال الآن: هل ستنتظر الأطراف الدولية حتى يُحسم مصير الأبيض ميدانيا، أم إنها ستتحرك أخيرا لمنع ما يمكن أن يكون نقطة اللاعودة في تاريخ السودان؟

font change

مقالات ذات صلة