قبل أحد عشر عاما، كتبت مقالا بعنوان "الطريق السريع إلى الصومال" محذرا من أن المسار الذي كان يسلكه نظام البشير في السودان بعد تكوينه لميليشيا "الدعم السريع" في عام 2013، والذي قام على تفريغ مؤسسات الدولة، واعتمد على الميليشيات غير النظامية، لم يكن فقط نهجا غير مستدام، بل انتحاري. ذلك المقال، الذي نُشر في منتصف 2014، عقد مقارنة بين المسار الداخلي للسودان وانهيار الصومال في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. لم يكن الحديث عن تشابه ثقافي أو جغرافي، بل عن الانحلال الهيكلي: كيف تموت الدول عندما يستبدل الحكام الشرعية بالقمع ويستعيضون عن المؤسسات الوطنية بجيوش خاصة.
في ذلك الوقت، اعتبر الكثيرون مثل هذه التحذيرات مبالغا فيها. قالوا إن السودان قد صمد أمام الحروب سابقا. وأن لديه مؤسسات قوية وخبرة متراكمة في إدارة الأزمات. لكن خلف وهم الصمود كانت هناك شرارة تشتعل- تفكيك متعمد لتماسك الدولة على يد سلطة نظام البشير الإسلامي التي سعت لترسيخ سلطتها عبر تفتيت المهددات. وكان ظهور "قوات الدعم السريع" أوضح تجسيد لهذا المنطق: ميليشيا وُلدت ليس من رحم الضرورة أو حوجة الدولة، بل من الهوس بالمهددات.
اليوم، وبعد اندلاع الحرب بين جيش الحكومة السودانية وميليشيا "الدعم السريع"، تحققت النبوءة القاتمة. القوة التي خُلقت لحماية النظام انقلبت على الدولة نفسها. أصبح "الطريق السريع إلى الصومال" واقعا معاشا يتسيده الرعب وعدم اليقين: بلد تتنازعه قوى السيطرة المختلفة، ويشهد فظائع جماعية بشكل يومي، وتتناوب القوى الأجنبية على المتاجرة بالدم السوداني لتحقيق أجنداتها وطموحاتها الإقليمية.
أصول الدولة الموازية ومسار تفكك الدولة
تفكك الدولة يعني أن الكيان السياسي الذي يحتكر السلطة والسيادة داخل حدوده يفقد قدرته على ممارسة هذا الاحتكار. أي إن مؤسسات الحكم (الجيش، الشرطة، القضاء، الخدمة المدنية، المالية العامة) تتآكل تدريجيا حتى تفقد السيطرة على الأرض والسكان والموارد. وهنا فإن خصخصة العنف الشرعي ليست مجرد نتيجة لتفكك الدولة، بل هي إحدى آلياتها الأساسية. حين تفقد الدولة احتكارها للعنف تبدأ دوامة التمليش، ويتحول جهاز الحكم من بنية متماسكة إلى شبكة إقطاعيات مسلحة تتنازع على الموارد والشرعية. وهذه هي ديناميات الانهيار الهيكلي، حيث لا تسقط الدولة فجأة، بل تتحلل ببطء من الداخل، كلما سمحت بتقاسم سلطتها على العنف مع آخرين.

