متلازمة كيسلر... حين يهدد الحطام الفضائي المدارات

زحام يتطلب إعادة تدوير

وكالة الفضاء الأوروبية
وكالة الفضاء الأوروبية
وكالة الفضاء المصرية تطلق قمرا صناعيا للاستشعار من بعد

متلازمة كيسلر... حين يهدد الحطام الفضائي المدارات

في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وبينما كان العالم لا يزال في بدايات تعرفه الى الفضاء بوصفه مجالا جديدا للنشاط البشري، اقترح عالم وكالة الفضاء الأميركية دونالد كيسلر تصورا علميا بدا آنذاك أقرب إلى تحذير نظري منه إلى خطر وشيك. هذا التصور، الذي صاغه كيسلر بالاشتراك مع بيرتون كور-بالايه عام 1978، انطلق من ملاحظة بسيطة لكنها عميقة الدلالة. فتزايد الأجسام الصناعية في مدار الأرض المنخفض قد لا يكون مجرد نتيجة طبيعية للتقدم الفضائي، بل قد يتحول بمرور الوقت إلى عامل يهدد هذا التقدم ذاته.

فقد رأى كيسلر أن تراكم الأقمار الصناعية ومراحل الصواريخ والحطام الناتج من انفجارات وتصادمات عرضية يمكن أن ترفع كثافة الأجسام المدارية إلى مستوى تصبح فيه الاصطدامات المتتالية حتمية، مولدة سيلا متزايدا من الشظايا، في عملية ذاتية التغذية قد تجعل بعض المدارات غير قابلة للاستخدام لعقود أو حتى لقرون. بهذه الرؤية، وضع كيسلر أساس مفهوم سيعرف لاحقا باسم "متلازمة كيسلر" الذي يطرح منذ ذلك الحين سؤالا جوهريا حول حدود التقدم التقني ومسؤولية الإنسان تجاه الفضاء بوصفه بيئة مشتركة.

الآن، وبعد سنوات طويلة من تحذير كيسلر، تقول دراسة علمية جديدة إن مستقبل الاستكشاف الفضائي لن يكون قابلا للاستمرار ما لم يتم تبني مبادئ الحد من الهدر، وإعادة الاستخدام، وإعادة التدوير في تصميم الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية وإدارتها طوال دورة حياتها.

تصف الدراسة المشكلة من جذورها، معتبرة أن الصناعة الفضائية لا تزال تعتمد إلى حد كبير على نموذج "الاستخدام لمرة واحدة" سواء في الصواريخ أو الأقمار الصناعية أو المركبات، وهو نموذج لم يعد قابلا للاستمرار بيئيا أو اقتصاديا. فكل عملية إطلاق صاروخ، بحسب الدراسة، لا تعني فقط إيصال حمولة إلى المدار، بل تعني أيضا فقدان أطنان من المواد العالية القيمة، وإطلاق كميات كبيرة من الغازات الدفيئة، إلى جانب مركبات كيميائية تضر بطبقة الأوزون في الغلاف الجوي. ومع ازدياد وتيرة الإطلاقات، خاصة من قبل القطاع التجاري الخاص، يتراكم هذا الأثر البيئي ليشكل عبئا متصاعدا لا يمكن تجاهله.

تشير سيناريوهات امتلاء المدارات إلى مجموعة من المسارات المحتملة التي قد يصل فيها المدار الأرضي، خصوصا المدار المنخفض، إلى مستويات كثافة من الأقمار الصناعية والحطام تجعل تشغيله الآمن إما شديد الصعوبة أو غير قابل للاستمرار

وتفصل الدراسة مصادر الحطام الفضائي الحالي، موضحة أن نحو 65% منه ناتج من تشظي المركبات بسبب الاصطدامات أو الانفجارات أو التحلل الذاتي، بينما تمثل المركبات ومنصات الإطلاق المتوقفة عن العمل قرابة 30%، في حين تعود نسبة 5% إلى الأجسام المرتبطة بالمهام الفضائية، وهي أدوات أو أجزاء تطلق عمدا أو تسقط عرضا أثناء العمليات.

سيناريوهات كارثية

وهذه الأرقام لا تقدم بوصفها إحصاء ساكنا، بل كدليل على ديناميكية خطرة، فكل حدث تشظٍّ لا يضيف مجرد قطع جديدة من الحطام، بل يزيد احتمالات الاصطدامات المستقبلية، مما يخلق حلقة ذاتية التعزيز تهدد استدامة المدارات الفضائية على المدى القريب والبعيد، وتعيد إلى الأذهان سيناريوهات "متلازمة كيسلر" التي قد تجعل بعض المدارات غير صالحة للاستخدام بسبب امتلائها.

فرانس برس
أطلقت الهند بنجاح في 5 ديسمبر قمرين صناعيين أوروبيين إلى الفضاء، سيحدثان كسوفا شمسيا اصطناعيا، لمساعدة العلماء في التقاط لمحة نادرة عن الغلاف الجوي الغامض للشمس

تشير سيناريوهات امتلاء المدارات إلى مجموعة من المسارات المحتملة التي قد يصل فيها المدار الأرضي، خصوصا المدار المنخفض، إلى مستويات كثافة من الأقمار الصناعية والحطام تجعل تشغيله الآمن إما شديد الصعوبة أو غير قابل للاستمرار، ويبدأ السيناريو الأول بالتراكم التدريجي "الهادئ" حيث يستمر إطلاق أعداد متزايدة من الأقمار الصناعية، خاصة تلك التي تملكها الشركات الضخمة التجارية، دون حوادث كبرى، لكن مع ارتفاع مستمر في احتمالات الاقتراب الخطر والمناورات القسرية، مما يرفع تكلفة التشغيل ويزيد معدلات فشل المهمات حتى قبل حدوث تصادمات كارثية.

أما السيناريو الثاني فيقوم على حدوث صدمة واحدة كبيرة، مثل تصادم بين قمر صناعي نشط وآخر متوقف أو انفجار مرحلة صاروخية ضخمة، تؤدي إلى إنتاج آلاف الشظايا في وقت قصير، فتقفز كثافة الأجسام فجأة إلى ما فوق العتبة الحرجة وتبدأ سلسلة تصادمات متتابعة ذاتية التعزيز، وهو السيناريو الأقرب لمتلازمة كيسلر، بينما يفترض السيناريو الثالث تراكب العوامل البشرية والطبيعية، حيث يؤدي حدث خارجي مثل عاصفة شمسية قوية إلى تعطيل أنظمة المناورة والتجنب لعدد كبير من الأقمار الصناعية في الوقت نفسه، فتحدث اصطدامات متزامنة تفتح نافذة قصيرة لانهيار جزئي في بيئة المدار.

في حين يصف السيناريو الرابع امتلاء غير متكافئ للمدارات، إذ تتحول ارتفاعات معينة مرغوبة تشغيليا إلى "نقاط اختناق" مكتظة، بينما تبقى مدارات أخرى أقل استخداما، مما يخلق تفاوتا في الأخطار ويقود إلى صراعات تنظيمية واقتصادية حول أحقية الوصول. أما السيناريو الأخير فيتمثل في الامتلاء الوظيفي لا الفيزيائي، حيث لا يصبح المدار ممتلئا بالحطام فقط، بل مشبعا تنظيميا وتقنيا، بحيث تفوق كثافة الأجسام والقيود القانونية والإنذارات اليومية قدرة المشغلين على الإدارة الآمنة، فيتحول المدار من بيئة مفتوحة للاستكشاف والتشغيل إلى نظام عالي الخطورة لا يمكن استخدامه إلا بحدود ضيقة وتكاليف مرتفعة، وهو سيناريو لا يعني إغلاق الفضاء بالكامل، لكنه يهدد جوهر الاعتماد البشري المتزايد على البنية التحتية المدارية.

تربط الدراسة بين ما يحدث اليوم في الفضاء وبين تاريخ طويل من الاستغلال المفرط للموارد على الأرض. فالنشاط الفضائي المتسارع، من إطلاق مجموعات ضخمة من الأقمار الصناعية إلى خطط الاستيطان القمري والمريخي، يعكس — بحسب الباحثين — نمطا مألوفا يشمل التوسع السريع دون بناء منظومة مستدامة لإدارة الموارد والمخلفات

تنعكس سيناريوهات امتلاء المدارات مباشرة على الحياة على الأرض عبر تداعيات تتجاوز المجال الفضائي ذاته، إذ يؤدي تعطل أو تدهور عمل الأقمار الصناعية إلى إرباك واسع في أنظمة الاتصالات والإنترنت والبث التلفزيوني والملاحة الجوية والبحرية وتحديد المواقع، وهي بنى تحتية أصبحت أساسية للاقتصاد العالمي وسلاسل الإمداد وإدارة الطيران والموانئ والخدمات اللوجستية.

كما يضعف فقدان الأقمار المخصصة لرصد الطقس والمناخ القدرة على التنبؤ بالأعاصير والفيضانات وموجات الحر، مما يزيد الخسائر البشرية والاقتصادية، ويؤثر سلبا على الأمن الغذائي وإدارة الكوارث، وتؤدي الاضطرابات في أقمار المراقبة الأرضية إلى فجوات في تتبع إزالة الغابات والتلوث والانبعاثات، بما يعرقل السياسات البيئية.

وعلى المستوى الاقتصادي، ترفع هذه السيناريوهات تكلفة التأمين وإطلاق الأقمار الصناعية وتحد من دخول دول وشركات جديدة إلى الفضاء، مما يعمق الفجوة التكنولوجية بين الدول، بينما تخلق على المستوى الجيوسياسي أخطار سوء التقدير والصدام السياسي في حال فسر فقدان الأقمار أو التصادمات على أنها أعمال عدائية. وفي المدى الأبعد، يهدد فقدان الوصول الآمن والمستقر إلى المدارات المنخفضة، أسس الاقتصاد الرقمي الحديث، ويقوض قدرة المجتمعات على إدارة أنظمتها المعقدة، مما يجعل امتلاء المدارات مسألة تمس الأمن الإنساني والاقتصادي على الأرض بقدر ما تمس مستقبل الاستكشاف الفضائي.

استغلال مفرط

تربط الدراسة بين ما يحدث اليوم في الفضاء وبين تاريخ طويل من الاستغلال المفرط للموارد على الأرض. فالنشاط الفضائي المتسارع، من إطلاق مجموعات ضخمة من الأقمار الصناعية إلى خطط الاستيطان القمري والمريخي، يعكس — بحسب الباحثين — نمطا مألوفا يشمل التوسع السريع دون بناء منظومة مستدامة لإدارة الموارد والمخلفات. ويحذر المؤلف الرئيس للدراسة جين خوان من أن البشرية مهددة بإعادة إنتاج أخطائها الأرضية نفسها خارج الكوكب، مؤكدا أن "مستقبلا فضائيا مستداما يتطلب تفاعلا متكاملا بين التقنيات والمواد والأنظمة، وليس مجرد تحسين عنصر منفصل من عملية التصنيع".

لا تقتصر الخسارة البيئية، وفق الدراسة، على مرحلة الإطلاق التي تتسبب في انبعاث مئات الأطنان من الغازات الحبيسة فقط. فعندما تنتهي صلاحية الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية، تهدر مواد إضافية ثمينة نتيجة غياب آليات فعالة لإعادة التدوير أو إعادة التوظيف. وغالبا ما تنقل هذه الأجسام إلى ما يعرف بـ"مدارات المقبرة" أو تترك في مدارات عاملة لتتحول إلى حطام صامت، يهدد الأقمار الصناعية الأخرى بالتصادم، ويضاعف تعقيد الأزمة. ومع الزيادة السريعة في عمليات الإطلاق التجارية، ترى الدراسة أن هذه الممارسات لم تعد مجرد إشكاليات مستقبلية، بل تحولت إلى مشكلة حالية تهدد استمرارية الاقتصاد الفضائي ذاته.

يعني الحد من الاستهلاك الفضائي إعادة تعريف العلاقة بين المهمة والقمر الصناعي نفسه، بحيث لا ينظر إلى القمر بوصفه أداة مؤقتة تطلق ثم تستبدل عند أول عطل أو تقادم تقني، بل كنظام طويل العمر قابل للتكيف مع متطلبات متغيرة

أمام هذا الواقع، تطرح الدراسة مفهوم "الاقتصاد الفضائي الدائري" بوصفه الإطار النظري والعملي القادر على كسر هذا المسار غير المستدام. يقوم هذا النموذج على تصميم الأقمار الصناعية والمركبات والأنظمة منذ البداية بحيث تكون قابلة لإعادة الاستخدام، والإصلاح، وإعادة التدوير، بدل التخلص منها بعد انتهاء المهمة. وتشير الدراسة إلى أن قطاعات صناعية على الأرض، مثل الإلكترونيات وصناعة السيارات، نجحت خلال العقود الماضية في التحول نحو نماذج أكثر دائرية، ويمكن القطاع الفضائي أن يستفيد من خبراتها، رغم خصوصية البيئة الفضائية وتعقيداتها.

ويؤكد الباحثون أن إدخال مفهوم "الدائرية" إلى الصناعة الفضائية، يمثل تحولا جذريا في التفكير، لأن هذا القطاع ظل طويلا أسير نموذج خطي يعتمد على الإطلاق، والاستخدام، ثم الإهمال. ومن هذا المنطلق، تقترح الدراسة تبني منهجية قائمة على ثلاثة محاور رئيسة تشمل الحد من الاستهلاك، وإعادة الاستخدام، وإعادة التدوير.

ويعني الحد من الاستهلاك الفضائي، إعادة تعريف العلاقة بين المهمة والقمر الصناعي نفسه، بحيث لا ينظر إلى القمر بوصفه أداة مؤقتة تطلق ثم تستبدل عند أول عطل أو تقادم تقني، بل كنظام طويل العمر قابل للتكيف مع متطلبات متغيرة. ويتحقق ذلك عبر إطالة العمر التشغيلي للأقمار الصناعية من خلال اختيار مواد أكثر مقاومة للإشعاع والتآكل الحراري، وتزويدها هوامش تشغيلية أوسع تسمح لها بالعمل بكفاءة لفترات أطول من المخطط تقليديا، إلى جانب زيادة متانتها الهيكلية والإلكترونية لتقليل احتمالات الفشل المفاجئ. كما يتطلب هذا التوجه تصميم الأقمار الصناعية بطريقة معيارية تسهل إصلاحها أو تحديثها أثناء وجودها في المدار، سواء عبر مركبات خدمة آلية أو مهمات صيانة مستقبلية، بدل اللجوء إلى استبدالها بالكامل وإطلاق أقمار جديدة، وهو ما يقلل عدد الإطلاقات المطلوبة، ويحد من استهلاك الوقود والمواد الخام، ويخفض العبء البيئي والاقتصادي المرتبط بالنشاط الفضائي، وفي الوقت نفسه يخفف الضغط على المدارات المكتظة ويقلل احتمالات توليد حطام جديد.

أما إعادة الاستخدام، فتقدم في الدراسة بوصفها حجر زاوية في أي انتقال جاد نحو اقتصاد فضائي دائري، لأنها تمس أكثر المراحل استنزافا للموارد وأكثرها تكلفة، أي مرحلة الإطلاق وبناء المركبات من الصفر. ففي هذا الإطار، تطرح الدراسة تصورا جديدا لوظيفة المحطات الفضائية، لا باعتبارها مختبرات علمية أو مواقع إقامة بشرية مؤقتة فحسب، بل كبنية تحتية دائمة تعمل كمراكز لإعادة تزود الوقود، والإصلاح، والصيانة، وحتى إعادة التأهيل للأقمار الصناعية والمركبات التي تظهر فيها أعطال أو علامات تقادم أثناء وجودها في المدار. ويعني ذلك عمليا إطالة عمر الأصول الفضائية القائمة، وتقليل الحاجة إلى إطلاق بدائل جديدة، وهو ما يخفف الضغط على المدارات ويقلص الأخطار المرتبطة بالإطلاقات المتكررة.

وتذهب الدراسة أبعد من ذلك حين تقترح تحويل هذه المحطات، أو منصات مدارية متخصصة، إلى مواقع تصنيع في الفضاء نفسه، بحيث تنتج مكونات جديدة أو تعاد معالجة أجزاء تالفة باستخدام مواد موجودة في المدار، سواء عبر إعادة تدوير حطام فضائي أو الاستفادة من مواد تجلب بكميات محدودة من الأرض.

نجاح إعادة الاستخدام في الفضاء لا يعتمد فقط على توفر التقنيات، بل على تبني فلسفة تصميم جديدة تضع منذ البداية في الحسبان دورات الحياة المتعددة للمركبات والمكونات، وتقبل بفكرة أن القيمة الحقيقية للأصل الفضائي لا تكمن في مهمته الأولى فقط

ويقلل هذا التوجه بشكل جذري الاعتماد على سلاسل الإمداد الأرضية، ويجنب تحمل تكلفة إطلاق كل قطعة معدنية أو إلكترونية من سطح الكوكب، فضلا عن أنه يفتح الباب أمام تصاميم جديدة لمركبات وأقمار صناعية تبنى خصيصا لتجميعها أو تحديثها في بيئة انعدام الجاذبية.

أ ف ب
رسم تعبيري لمركبة الهبوط Blue Moon التابعة لشركة Blue Origin التي ستعيد رواد الفضاء إلى القمر كجزء من برنامج "أرتميس" التابع لوكالة "ناسا"

وتشدد الدراسة على أهمية تطوير أنظمة هبوط آمن تتيح استرجاع أجزاء من المركبات الفضائية بدل فقدانها أو تدميرها عند الدخول الجوي. وتشمل هذه الأنظمة استخدام مظلات متطورة، أو وسائد هوائية، أو تقنيات هبوط موجه تقلل الإجهادات الحرارية والميكانيكية التي تتعرض لها المكونات أثناء العودة.

وتكمن أهمية هذا المسار في أنه يسمح بإعادة إدخال أجزاء عالية القيمة — مثل الهياكل، والمحركات، وبعض الأنظمة الإلكترونية — في دورات تشغيل جديدة، مما يقلل الحاجة إلى تصنيع بدائل كاملة من المواد الخام.

غير أن الدراسة تحذر من النظر إلى إعادة الاستخدام بوصفها عملية بسيطة أو تلقائية، إذ تؤكد أن بيئة الفضاء تعد من أكثر البيئات قسوة على المواد والمكونات. فالإشعاع الكوني، والتغيرات الحادة في درجات الحرارة بين الظل وأشعة الشمس، والتعرض المستمر للفراغ والميكرونيازك، كلها عوامل تحدث تدهورا تدريجيا قد لا يكون ظاهرا للعين المجردة. ولهذا يشدد الباحثون على ضرورة إخضاع كل مكون قابل لإعادة الاستخدام لاختبارات صارمة بعد عودته أو أثناء صيانته في المدار، تشمل الفحص البنيوي، والاختبارات الحرارية والإشعاعية، والتحقق من سلامة الأنظمة الإلكترونية والميكانيكية، لضمان أن إعادة استخدام هذه الأجزاء لا تأتي على حساب السلامة أو الموثوقية.

وتخلص الدراسة إلى أن نجاح إعادة الاستخدام في الفضاء لا يعتمد فقط على توفر التقنيات، بل على تبني فلسفة تصميم جديدة تضع منذ البداية في الحسبان دورات الحياة المتعددة للمركبات والمكونات، وتقبل بفكرة أن القيمة الحقيقية للأصل الفضائي لا تكمن في مهمته الأولى فقط، بل في مجموع ما يمكن أن يؤديه من وظائف عبر الزمن، سواء في المدار أو بعد العودة إلى الأرض.

وتذهب الدراسة أبعد من ذلك حين تقترح تحويل هذه المحطات، أو منصات مدارية متخصصة، إلى مواقع تصنيع في الفضاء نفسه، بحيث تنتج مكونات جديدة أو تعاد معالجة أجزاء تالفة باستخدام مواد موجودة في المدار، سواء عبر إعادة تدوير حطام فضائي أو الاستفادة من مواد تجلب بكميات محدودة من الأرض. هذا التوجه يقلل بشكل جذري الاعتماد على سلاسل الإمداد الأرضية، ويجنب تحمل تكلفة إطلاق كل قطعة معدنية أو إلكترونية من سطح الكوكب، فضلا عن أنه يفتح الباب أمام تصاميم جديدة لمركبات وأقمار صناعية تبنى خصيصا لتجميعها أو تحديثها في بيئة انعدام الجاذبية.

تقترح الدراسة استخدام مجموعة من التقنيات الميكانيكية المتقدمة لالتقاط الحطام، من بينها الشباك القابلة للانتشار التي يمكنها احتواء الأجسام غير المتحكم بها، والأذرع الروبوتية الدقيقة القادرة على الإمساك بالأقمار الصناعية المتوقفة أو بمراحل الصواريخ الكبيرة وتثبيتها بأمان

وتشدد الدراسة على أهمية تطوير أنظمة هبوط آمن تتيح استرجاع أجزاء من المركبات الفضائية بدل فقدانها أو تدميرها عند الدخول الجوي. وتشمل هذه الأنظمة استخدام مظلات متطورة، أو وسائد هوائية، أو تقنيات هبوط موجه تقلل الإجهادات الحرارية والميكانيكية التي تتعرض لها المكونات أثناء العودة. وتكمن أهمية هذا المسار في أنه يسمح بإعادة إدخال أجزاء عالية القيمة — مثل الهياكل، والمحركات، وبعض الأنظمة الإلكترونية — في دورات تشغيل جديدة، مما يقلل الحاجة إلى تصنيع بدائل كاملة من المواد الخام.

تهديد الاستدامة المدارية

أما في ما يخص إعادة التدوير، تتجاوز الدراسة الفهم التقليدي الذي يحصر هذا المفهوم في التعامل مع المخلفات بعد انتهاء عمرها التشغيلي على الأرض، لتطرح تصورا أكثر جذرية يتمثل في التعامل مع الحطام الفضائي نفسه بوصفه موردا ماديا محتملا لا مجرد خطر يجب تجنبه. فبدل الاكتفاء بمحاولات خفض عدد الأجسام الجديدة في المدار، تدعو الدراسة إلى إطلاق مشاريع واسعة النطاق مخصصة لاستعادة الحطام القائم بالفعل، باعتباره أحد أكبر مصادر التهديد للاستدامة المدارية. وتؤكد أن استمرار تجاهل ملايين الشظايا، الصغيرة والكبيرة، سيبقي المدارات الحيوية عرضة لخطر الانهيار التدريجي بفعل الاصطدامات المتسلسلة.

وتقترح الدراسة استخدام مجموعة من التقنيات الميكانيكية المتقدمة لالتقاط الحطام، من بينها الشباك القابلة للانتشار التي يمكنها احتواء الأجسام غير المتحكم بها، والأذرع الروبوتية الدقيقة القادرة على الإمساك بالأقمار الصناعية المتوقفة أو بمراحل الصواريخ الكبيرة وتثبيتها بأمان. ويجري النظر أيضا في وسائل مساعدة مثل الحبال المربوطة أو الأنظمة المغناطيسية لبعض أنواع الحطام، بهدف التحكم في حركة الأجسام بعد التقاطها ومنع توليد شظايا إضافية أثناء عملية الاستعادة نفسها. وتؤكد الدراسة أن هذه العمليات لا تهدف فقط إلى إزالة الخطر الفوري للاصطدام، بل إلى نقل الحطام إلى مدارات آمنة أو إلى منصات معالجة مخصصة.

وفي المرحلة التالية، تبرز فكرة إعادة تدوير المواد في المدار بوصفها عنصرا محوريا في الاقتصاد الفضائي الدائري. فالمعادن المستخدمة في الأقمار الصناعية ومراحل الصواريخ — مثل الألمنيوم والتيتانيوم وبعض السبائك المتقدمة — تمثل موارد عالية القيمة يمكن، نظريا، صهرها أو إعادة تشكيلها في بيئة انعدام الجاذبية باستخدام تقنيات تصنيع متقدمة، مثل الطباعة الثلاثية الأبعاد أو المعالجة الحرارية الموجهة. وبدل دفع تكلفة إطلاق هذه المواد من الأرض، يمكن إعادة استخدامها مباشرة في بناء هياكل جديدة، أو دروع حماية، أو مكونات لأقمار صناعية ومحطات مستقبلية.

تمثل كل مرحلة أولى تستعاد وتعاد إلى منصة الإطلاق شكلا من أشكال إعادة تدوير الوظيفة والقيمة حيث يعاد استخدام مادة ومنظومة معقدة صممت بتكلفة طاقة وموارد هائلة بدل فقدانها نهائيا بعد رحلة واحدة

وتشير الدراسة إلى أن هذا التوجه يتطلب بنية تحتية مدارية جديدة، تشمل "مصانع فضائية" صغيرة أو وحدات معالجة متنقلة، قادرة على فرز المواد، وإزالة الملوثات، ومعالجة السبائك بما يتناسب مع متطلبات الاستخدام الفضائي. كما تؤكد أن هذه العمليات يجب أن تصمم بعناية لتفادي إنتاج حطام ثانوي أثناء التفكيك أو المعالجة، وهو ما يستلزم مستويات عالية من الدقة والتحكم الآلي.

ورغم أن هذا السيناريو يبدو طموحا تقنيا ومكلفا في مراحله الأولى، ترى الدراسة أنه ضرورة استراتيجية على المدى الطويل، لأن الاعتماد الحصري على الإطلاقات الأرضية لتزويد الفضاء المواد سيصبح غير عملي مع ازدياد كثافة النشاط الفضائي. كما أن تجاهل الحطام القائم سيجعل أي جهود للحد من الاستهلاك أو إعادة الاستخدام غير كافية وحدها. ومن هذا المنطلق، تقدم إعادة تدوير الحطام الفضائي بوصفها خطوة حاسمة ليس فقط للحفاظ على سلامة الأقمار الصناعية العاملة، بل لإعادة تعريف الحطام نفسه من عبء متراكم إلى عنصر فاعل في منظومة فضائية أكثر استدامة، قادرة على حماية مداراتها الحيوية من الانهيار التدريجي وضمان استمرار الوصول الآمن إلى الفضاء للأجيال القادمة.

وحدة مترابطة

يمكن النظر إلى برنامج "سبيس إكس" لتطوير أنظمة الإطلاق القابلة لإعادة الاستخدام بوصفه تجسيدا عمليا ومبكرا لفكرة "إعادة التدوير" بالمعنى الواسع الذي تقترحه الدراسة، حتى وإن لم يُصمَّم ابتداءً تحت هذا المسمى.

Shutterstock
إيلون ماسك و"ستارلينك" رمز التكنولوجيا واستكشاف الفضاء وخدمات الإنترنت

فالدراسة تدعو إلى كسر منطق "الاستخدام لمرة واحدة" الذي هيمن طويلا على الصناعة الفضائية، وهو المنطق نفسه الذي نجح برنامج "فالكون 9" في تقويضه عبر استعادة المراحل الأولى، وفحصها، وإعادة إدخالها في الخدمة مرات متعددة بدل التخلص منها في المحيط أو تركها تحترق في الغلاف الجوي.

من هذا المنظور، تمثل كل مرحلة أولى تستعاد وتعاد إلى منصة الإطلاق شكلا من أشكال "إعادة تدوير الوظيفة والقيمة" حيث يعاد استخدام مادة ومنظومة معقدة صممت بتكلفة طاقة وموارد هائلة بدل فقدانها نهائيا بعد رحلة واحدة. كما أن استعادة أغطية الحمولة، التي تشكل جزءا مكلفا من الصاروخ، تتقاطع مباشرة مع مفهوم الاقتصاد الدائري الذي تؤكده الدراسة، إذ تمنع تحوّل هذه المكونات إلى نفايات فضائية أو بحرية، وتعيدها إلى دورة الاستخدام الصناعي.

ويُظهر البرنامج كيف يمكن التصميم المسبق من أجل الاستعادة – من أنظمة الهبوط، والحماية الحرارية، إلى سهولة الفحص والإصلاح – أن يحول الصاروخ من منتج استهلاكي إلى أصل قابل للتدوير المتكرر.

ولا ينبغي أن يظل النموذج محصورا في المراحل الأولى من الصواريخ، بل يمكن توسيعه ليشمل مستقبلا المراحل العليا، والمركبات المدارية، وحتى الحطام الفضائي نفسه، بحيث يصبح ما حققته "سبيس إكس" خطوة أولى في مسار أوسع نحو اقتصاد فضائي دائري يعيد استخدام مواده بدل تراكمها كنفايات تهدد المدارات واستدامة النشاط الفضائي.

وتولي الدراسة أهمية خاصة لدور البيانات والأنظمة الرقمية في هذا التحول. فهي ترى أن تحليل البيانات الناتجة من أداء المركبات في الفضاء يمكن أن يوجه أساليب التصميم المستقبلية ويقلل الهدر، بينما تسمح نماذج المحاكاة الرقمية بتقليص الحاجة إلى الاختبارات المادية المكلفة والمستهلكة للموارد. كما تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يلعب دورا حاسما في منع الاصطدامات بين الأقمار الصناعية والحطام، من خلال تحسين أنظمة التنبؤ والمناورة.

وفي عرضها للسيناريوهات المستقبلية، تؤكد الدراسة أن الانتقال إلى اقتصاد فضائي دائري ليس تحسينا تدريجيا بسيطا، بل تحول هيكلي يتطلب إعادة النظر في النظام الفضائي بأكمله بوصفه وحدة مترابطة. هذا النظام يشمل التصميم والتشغيل والإصلاح والتقاعد ومعالجة المواد، ولا يمكن أي حل جزئي أن ينجح بمعزل عن بقية العناصر. ويشير المؤلف الرئيس للدراسة جين خوان إلى أن الابتكار يجب أن يمتد من المواد القابلة لإعادة التدوير في المدار، إلى المركبات الفضائية المعيارية القابلة للترقية، وصولا إلى أنظمة بيانات قادرة على تتبع كيفية تآكل الأجهزة أثناء وجودها في الفضاء.

وتختتم الدراسة بالتأكيد أن النجاح في هذا المسار لا يعتمد على الهندسة والتكنولوجيا وحدهما، بل يتطلب تعاونا دوليا واسع النطاق، وأطر حوكمة واضحة تشجع على إعادة الاستخدام والاستعادة وإعادة التدوير خارج كوكب الأرض. فبدون قواعد مشتركة والتزامات جماعية، سيظل الفضاء عرضة لمنطق "السبق والإطلاق" الذي يقوض استدامته. ويرى خوان أن المرحلة المقبلة تتمثل في ربط الكيمياء والهندسة والتصميم والسياسات في منظومة واحدة، بحيث تصبح الاستدامة هي القاعدة الناظمة للوجود البشري في الفضاء، لا خيارا إضافيا أو مبادرة طوعية، بل شرط أساسي لأي مستقبل فضائي قابل للحياة.

font change