"القبة الذهبية"... أحلام ترمب الدفاعية وسباق التسلح الفضائي

تحذيرات من عسكرة الفضاء

AFP
AFP
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال إعلانه مشروع "القبة الذهبية"، وبدا وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث منصتا

"القبة الذهبية"... أحلام ترمب الدفاعية وسباق التسلح الفضائي

في ثمانينات القرن الماضي، فاجأ الرئيس الأميركي رونالد ريغان العالم بإعلانه "مبادرة الدفاع الاستراتيجي"، التي عُرفت إعلاميا باسم "حرب النجوم". كانت تلك المبادرة تصورا ثوريا يهدف إلى إقامة درع صاروخية متطورة تستخدم تكنولوجيا الفضاء—كالليزر والأقمار الصناعية—لصد أي هجوم نووي سوفياتي محتمل.

ورغم أن المشروع لم يُستكمل لأسباب تقنية وسياسية، إلا أنه شكّل تحولا جذريا في التفكير الأميركي حول الدفاع الاستراتيجي وأدخل مفهوم عسكرة الفضاء إلى المعادلة الأمنية العالمية.

اليوم، وفي خطوة أثارت موجة من الجدل على الساحة الدولية، أعلن الرئيس ترمب مشروعا جديدا يحمل اسم "القبة الذهبية"، يهدف إلى إقامة نظام دفاعي فضائي لحماية الولايات المتحدة من الهجمات الصاروخية.

ورغم أن المشروع لا يزال في مراحله الأولى، ومن غير المتوقع أن يدخل حيّز التنفيذ الفعلي قبل سنوات، إلا أن إعلانه أثار ردود فعل غاضبة من عدد من القوى الكبرى، التي اعتبرت الخطوة استفزازية وتدفع نحو عسكرة الفضاء وسباق جديد للتسلح.

يتساءل منتقدو المشروع، داخل الولايات المتحدة وخارجها، عما إذا كانت هذه "القبة الذهبية" ستجعل البلاد والعالم أكثر أمانا فعلا، أم أنها ستساهم فقط في تصعيد التوترات الدولية. كما أن تكلفة المشروع، التي يتوقع أن تكون بمئات المليارات من الدولارات، تُعدّ أحد أبرز العوائق، ناهيك عن الشكوك الفنية حول فعالية النظام في صد الهجمات المتقدمة، خصوصا من قِبل قوى تملك صواريخ فرط صوتية أو رؤوسا نووية متعددة.

"القبة الذهبية"

مشروع "القبة الذهبية" نظام دفاعي متعدد الطبقات اقترحته الولايات المتحدة بهدف التصدي لتهديدات الصواريخ الباليستية، والصواريخ فرط الصوتية، وصواريخ "كروز" التي قد تستهدف البر الرئيسي الأميركي.

يشبه هذا المفهوم من حيث البنية مشروعات الدفاع الفضائي التي طُرحت في الثمانينات، ويعتمد على نشر شبكة عالمية من أنظمة الاعتراض في الفضاء، وليس فقط نظاما دفاعيا متمركزا فوق الأراضي الأميركية كما توحي التسمية.

Getty Images
الرئيس رونالد ريغان خلال إلقائه خطابا الى الأمة حول مبادرة الدفاع الاستراتيجي عام 1983

وفي 27 يناير/كانون الثاني 2025، وقّع ترمب أمرا تنفيذيا يوجه القوات المسلحة الأميركية بإنشاء هذا النظام الدفاعي. وقد شبّهه البعض بـ"القبة الحديدية" الإسرائيلية، وكذلك بمبادرة الدفاع الاستراتيجي التي أعلنها ريغان عام 1983.

إلا أن مشروع "القبة الذهبية" يتجاوز هذه الأنظمة من حيث النطاق والطموح، إذ يعتمد على آلاف الأسلحة الفضائية أو "الأسلحة الاعتراضية" الموزعة حول كوكب الأرض وتتمركز على حافة الغلاف الجوي وتدور بسرعات عالية تجنبا للسقوط نحو الأرض، وهو ما يجعل من الصعب أن تنوجد في الموقع المناسب لاعتراض أي تهديد محتمل في لحظته، مما دفع المنتقدين إلى القول بأن المشروع أقل كفاءة من الأنظمة الإقليمية التقليدية مثل "القبة الحديدية".

علاوة على ذلك، لم يُخفِ ترمب أن الأسلحة الفضائية في هذا المشروع ستُستخدم لأغراض هجومية أيضا، وليس فقط دفاعية، إذ تعمل تلك الأسلحة جنبا إلى جنب مع شبكة متطورة من منصات الاستشعار والرادارات الأرضية، وتوظف الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات وتحديد التهديدات في الوقت الحقيقي.

حذّر بعض أعضاء مجلس الشيوخ من أن التكلفة النهائية قد تصل إلى تريليونات الدولارات


ويستند التخطيط الحديث للمشروع إلى الأساس الذي وضعه مايكل دي. غريفين، نائب وزير الدفاع السابق للتكنولوجيا في مبادرة الدفاع الاستراتيجي، والذي أنشأ "وكالة تطوير الفضاء" خلال إدارة ترمب الأولى عام 2017.

وكان غريفين من الداعمين الأوائل لاستخدام مركبات الإطلاق القابلة لإعادة الاستخدام لتقليل تكلفة إرسال الأسلحة إلى الفضاء.

ورغم فشل المحاولات الأولى لمبادرة ريغان، فإن دعم غريفين لاحقا لشركات الإطلاق التجاري مثل "سبيس إكس"، ساهم في نجاح هذه الفكرة. كما روّجت مؤسسة "هيريتيج" المحافظة بقوة للمشروع ضمن خطتها المعروفة بـ"مشروع 2025"، مشيرة إلى أن تطوير شركة "سبيس إكس" لشبكة "ستارلينك" يبرهن على إمكان بناء طبقة فضائية دفاعية تضم آلاف الأقمار الصناعية واعتراضات الشبكية. وخلال حملة ترمب الانتخابية لعام 2024، استخدم المشروع كأحد محاور خطابه، لكنه قوبل بترحيب محدود.

في مايو/أيار 2025، تقدم 42 نائبا في الكونغرس بطلب إلى المفتش العام في وزارة الدفاع للتحقيق في دور إيلون ماسك في المشروع، معربين عن قلقهم في شأن الانحراف عن إجراءات الشراء التقليدية، وبسبب نموذج اشتراك مقترح قد يمنح ماسك نفوذا غير مبرر على الأمن القومي الأميركي.

كما أثيرت شبهات تتعلق بتضارب المصالح، خاصة أن الجنرال المتقاعد تيرينس ج. أوشونيسي، المسؤول السابق عن الدفاع الصاروخي لأراضي الولايات المتحدة، يعمل الآن تحت إدارة ماسك في "سبيس إكس".

كما خضع غريفين نفسه للتدقيق، إذ إنه سافر مع ماسك إلى روسيا في عام 2001 لدراسة إمكان شراء صواريخ باليستية عابرة للقارات، قبل أن يوجه لاحقا عقودا ضخمة من "ناسا" إلى شركة "سبيس إكس".

ومنذ ذلك الحين، حصلت الشركة على عقود لنشر أقمار صناعية تتعقب الصواريخ ضمن برنامج "ستارشيلد"، في حين يشارك غريفين في قيادة شركة "كاستيليون"، وهي شركة مشتقة من "سبيس إكس" متخصصة في إنتاج الأسلحة فرط الصوتية.

في 20 مايو/أيار 2025، أعلن ترمب رسميا من المكتب البيضاوي مشروع "القبة الذهبية"، وقال إنه مصمم لحماية الولايات المتحدة من التهديدات الصاروخية البعيدة المدى وفرط الصوتية. وقد عُيّن الجنرال مايكل أ. غيتلاين من "قوة الفضاء الأميركية" لقيادة المشروع.

تضمن مشروع قانون الإنفاق الجمهوري دفعة أولية بقيمة 25 مليار دولار للمشروع، بينما قدّرت الميزانية الإجمالية له بـ175 مليار دولار وفقا للبيت الأبيض، في حين رجح "مكتب الميزانية في الكونغرس" أن التكلفة قد تتراوح بين 161 و542 مليار دولار خلال عشرين عاما.

وقد حذّر بعض أعضاء مجلس الشيوخ من أن التكلفة النهائية قد تصل إلى تريليونات الدولارات. وفي الوقت نفسه، بدأت شركات دفاع كبرى مثل "سبيس إكس" و"بالانتير" و"أندريل" و"لوكهيد مارتن" بالتنافس على فرص التعاقد، رغم شكوك الخبراء في مدى واقعية الجدول الزمني أو جدوى المشروع تقنيا. وقد ذكرت "لوكهيد مارتن" أنها تسعى لتسليم النظام في نهاية عام 2026 باستخدام اعتراضات فضائية وفرط صوتية.

وقد أبدت كندا اهتمامها بالمشاركة في المشروع أيضا، إذ صرح وزير الدفاع الكندي بيل بلير في 6 فبراير/شباط 2025 باستعداد بلاده للنظر في التعاون. وفي إعلان ترمب في مايو/أيار، أشار إلى أن "كندا اتصلت بنا وتريد أن تكون جزءا منه"، في إطار مفاوضات أوسع تشمل الأمن والتجارة.

دعا الأمر التنفيذي الخاص بالمشروع إلى تطوير بنية تضم ثمانية مكونات أساسية، هي: الدفاع ضد الصواريخ الباليستية وفرط الصوتية وصواريخ كروز والهجمات الجوية المتقدمة، نشر طبقة تعقب الصواريخ الباليستية وفرط الصوتية في الفضاء، نشر اعتراضات فضائية قادرة على اعتراض الصواريخ في مرحلة الدفع، تطوير قدرات اعتراض نهائية للتصدي لهجمات مركزة، نشر طبقة "الوصاية" ضمن "البنية الفضائية القتالية المنتشرة"، تطوير قدرات هجومية استباقية لتدمير الصواريخ قبل إطلاقها، ضمان سلسلة توريد مؤمنة للمكونات، وتفعيل وسائل غير تقليدية وغير تصادمية تدعم الهجمات التقليدية.

العنصر الأكثر تقدما في المشروع هو استخدام تقنيات الليزر العالية الطاقة، التي تُختبر حاليا على متن طائرات بدون طيار مخصصة للتحليق على ارتفاعات شاهقة. وتتيح هذه التقنية قدرة اعتراض دقيقة وخالية من الذخائر التقليدية، مما يوفر استجابة سريعة ضد أهداف متعددة.

قد يفسر المشروع لدى خصوم الولايات المتحدة كخطوة عدائية تندرج ضمن استراتيجيا "أميركا أولا" التي تنتهجها واشنطن، مما يغذي سباق التسلح في الفضاء ويقوض اتفاقيات الحد من الأسلحة الاستراتيجية

في الوقت نفسه، تهدف "القبة الذهبية" إلى تحقيق تكامل حقيقي بين الدفاع الفضائي والأرضي، من خلال شبكة رقمية موحدة تربط الأقمار الصناعية بمنظومات الدفاع التقليدية مثل "باتريوت" و"ثاد". هذا التكامل يتيح ما يُعرف بـ"صورة موحدة للتهديد"، أي قدرة تحليل فوري ومشترك بين مختلف الطبقات الدفاعية للتعامل مع أي هجوم محتمل خلال ثوانٍ معدودة.

لكن التحديات التي تواجهها "القبة الذهبية" كبيرة للغاية، نظرا لاتساع المساحة الجغرافية المستهدفة وتنوع التهديدات الصاروخية، كما أن الجيش الأميركي -الذي يبدو أنه سيأخذ المشروع على محمل الجد- أشار إلى أن اكتماله خلال فترة ترمب الرئاسية أمر غير واقعي، كما أن تكلفته ستلتهم حصة ضخمة من ميزانية الدفاع.

ويمثل المشروع تحولا في سياسة الدفاع الصاروخي الأميركية في اتجاه مواجهة التهديدات المستقبلية من روسيا والصين، خصوصا في ما يتعلق بالأسلحة فرط الصوتية وأنظمة القصف المداري الجزئي، وهي تهديدات لا تستطيع الأنظمة الحالية مثل "الدرع الصاروخية" التعامل معها بفعالية، كما أن المشروع يهدف إلى ترسيخ الردع ضد هذه التقنيات المتطورة.

خطوة عدائية

لكن الأخطر، وفق المحللين، هو أن المشروع قد يُفسر لدى خصوم الولايات المتحدة كخطوة عدائية تندرج ضمن استراتيجيا "أميركا أولا" التي تنتهجها واشنطن، مما يغذي سباق التسلح في الفضاء ويقوض اتفاقيات الحد من الأسلحة الاستراتيجية.

رويترز
وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث يتحدث خلال إعلان "القبة الذهبية"

رد بيونغ يانغ لم يتأخر. ففي بيان صادر عن وزارة الخارجية الكورية الشمالية، وُصفت "القبة الذهبية" بأنها "سيناريو لحرب نووية في الفضاء" ومجرد غطاء لاستراتيجيا الولايات المتحدة في السعي للهيمنة الأحادية القطبية، وأضاف البيان أن المشروع يعكس "نموذجا من الغطرسة والأنانية الأميركية" ويهدف إلى "تسليح الفضاء تحت ذريعة الدفاع".

تمتلك كوريا الشمالية، التي أجرت 47 تجربة صاروخية في عام 2024 وحده، بما في ذلك صواريخ عابرة للقارات قادرة نظريا على الوصول إلى الأراضي الأميركية، ترسانة نووية تُقدر من 70 إلى 90 رأسا نوويا، بحسب جمعية الحد من التسلح في واشنطن. ووفق وسائل الإعلام الكورية الرسمية، فإن واشنطن تستغل المشروع كذريعة لتبرير عسكرة الفضاء وتحقيق تفوق عسكري استباقي.

قبل إعلان ترمب الرسمي عن المشروع، أصدرت موسكو بيانا مشتركا مع بكين عبّرت فيه عن رفضها التام لـ"القبة الذهبية"، ووصفتها بأنها "خطوة مزعزعة للاستقرار بشكل عميق". وجاء في البيان أن المشروع يمثل إنكارا للعلاقة المتكاملة بين الأسلحة الاستراتيجية الهجومية والدفاعية، ويهدد بتحويل الفضاء إلى ساحة معركة.

لكن بعد إعلان ترمب من المكتب البيضاوي، خففت روسيا نبرتها، إذ قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن المشروع "مسألة سيادية أميركية"، مضيفا أن بلاده ستنتظر التفاصيل قبل تقييم تأثيره على توازن القوى النووية.

ورغم القيود التي تفرضها العقوبات الدولية على برامج الفضاء الروسية، إلا أن موسكو لا تزال تملك قدرات صاروخية معتبرة. وتشير تقديرات استخبارات الدفاع الأميركية إلى أن روسيا قد تمتلك في عام 2035،  ألف صاروخ فرط صوتي و5 آلاف صاروخ كروز، و400 صاروخ عابر للقارات، كثير منها قادر على حمل رؤوس نووية.

وقد برزت روسيا كقوة فضائية عسكرية ذات طموحات استراتيجية واضحة، إذ تبنت موسكو نهجا متكاملا يمزج بين تطوير أنظمة هجومية مضادة للأقمار الصناعية، مثل صاروخ "بي أل-19" ونشر أقمار صناعية هجومية قادرة على المناورة، مثل "كوزموس-2543".

هذه القدرات، إلى جانب شبكة الإنذار المبكر المعروفة باسم "كبول"، تعكس إدراكا روسيا متقدما لطبيعة التهديدات الحديثة في الفضاء، وخصوصا في ظل الاعتماد المتزايد على الأقمار الصناعية في القيادة والسيطرة والاتصالات العسكرية.

في موازاة ذلك، عززت روسيا قدراتها الدفاعية عبر تطوير أنظمة مثل "أس- 500 بروميثيوس" التي يقال إنها تستطيع التصدي لهجمات صاروخية وحتى لأهداف فضائية، مما يجعلها جزءا من عقيدة "الدفاع الفضائي الطبقي". وبدعم من شبكات الملاحة "جلوناس" والاتصالات العسكرية "ماريديان" الروسيين، يظهر البرنامج الفضائي الروسي كأداة استراتيجية لتعزيز الردع وفرض التوازن مع القوى الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة والصين، في ساحة الصراع الجديدة التي باتت تدور رحاها في المدار الأرضي وما بعده.

سباق تسلح

أما الصين، التي كانت شريكة روسيا في البيان المشترك، فواصلت انتقاداتها للمشروع الأميركي، ودعت إلى التخلي عنه بشكل كامل. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ في مؤتمر صحافي في 21 مايو/أيار، إن المشروع "سيزيد خطر تحويل الفضاء إلى ساحة حرب، ويشعل سباق تسلح فضائيا، ويقوض منظومة الأمن والسيطرة على التسلح العالمية".

وتُعدّ الصين اليوم واحدة من أبرز القوى الصاروخية في العالم، وتمتلك، وفق تقارير وزارة الدفاع الأميركية، أكثر من 600 رأس نووي و400 صاروخ عابر للقارات، إلى جانب ترسانة من الصواريخ فرط الصوتية المتطورة. كما تستفيد من أنظمة دفاع جوي روسية المنشأ، في الوقت الذي تطور فيه أنظمتها المحلية بسرعة كبيرة.

على الرغم من امتلاك الولايات المتحدة قرابة 44 صاروخا اعتراضيا موزعة بين كاليفورنيا وألاسكا، إلا أن هذا العدد يُعتبر غير كافٍ لضمان التفوق الأميركي الكامل أو صد الهجمات المعقدة المحتملة من أكثر من جهة في وقت واحد

كما أنها تطور منذ سنوات برنامجا شاملا لما يُعرف بـ"الردع الفضائي المزدوج"، يجمع بين القدرات الهجومية الفضائية وأنظمة الدفاع الصاروخي المتكاملة. ففي عام 2023، أعلنت بكين تطوير نسخة متقدمة من الصواريخ الفرط صوتية DF-27، القادرة على المناورة في الغلاف الجوي، التي يُعتقد أنها مصممة خصيصا لاختراق أنظمة الدفاع الأميركية. كما تختبر الصين أقمارا صناعية ذات مهام عسكرية خفية، قادرة على الاقتراب من أقمار صناعية أجنبية وتعطيلها أو تدميرها باستخدام أذرع روبوتية أو نبضات كهرومغناطيسية.

في العقدين الأخيرين، صعدت الصين بقوة إلى ساحة الفضاء العسكري، مدفوعة برؤية استراتيجية تهدف إلى ضمان تفوقها التكنولوجي وتحقيق الاكتفاء الذاتي في البنية التحتية الفضائية. وقد تجلى هذا الطموح في تطوير قدرات هجومية متقدمة، مثل صاروخ SC-19، الذي استخدمته بكين في عام 2007 لإسقاط قمر صناعي للأرصاد الجوية، في أول تجربة حقيقية أثبتت امتلاكها لسلاح مضاد للأقمار الصناعية. ومنذ ذلك الحين، أجرت الصين سلسلة من الاختبارات لتطوير هذا الصاروخ واعتماده في أدوار متعددة، من بينها الدفاع الصاروخي الاعتراضي في منتصف المسار، مما يضعها في مصاف القوى القليلة القادرة على تنفيذ عمليات اعتراض فضائي دقيق.

إلى جانب ذلك، وسعت الصين برنامجها الفضائي العسكري ليشمل مجالات الاستطلاع والاتصالات والملاحة عبر منظومات خاصة بها، وأقمار صناعية للاستشعار عن بُعد، والرصد الإلكتروني، مما يمنح الجيش الصيني قدرة مستقلة على مراقبة الساحات العالمية والتحكم في العمليات العسكرية دون الاعتماد على البنى التحتية الأجنبية. كما تعمل بكين على تطوير تكنولوجيا "القمر الصناعي القاتل" والأقمار التي تستطيع تنفيذ مناورات قريبة أو تعطيل أهداف أخرى في المدار، وهو ما يُعد مؤشرا واضحا الى دخول الصين سباق تسلّح فضائيا متقدما يهدف إلى تقييد حرية خصومها في الفضاء وضمان تفوقها الاستراتيجي في النزاعات المستقبلية.

وبين تيارات التأييد والرفض، تبدو "القبة الذهبية" كأنها لا تمثل مجرد مشروع عسكري ضخم، بل بداية فصل جديد من فصول الصراع على الهيمنة في الفضاء. فما هي هذه "القبة الذهبية"؟ وما مدى واقعيتها وإمكاناتها التكنولوجية؟ وهل يسعى دونالد ترمب من خلالها إلى تعزيز إرثه السياسي عبر المشاريع العملاقة؟ أم أن الولايات المتحدة، رغم بعدها الجغرافي عن أعدائها التقليديين—الصين وروسيا—بحاجة فعلية إلى مثل هذه الدرع الفضائية لحماية أمنها القومي في عصر تتداخل فيه الحدود بين الأرض والفضاء؟

رفاهية أم ضرورة؟

ومع توسع التهديدات في المدار، يبدو أن "القبة الذهبية" لا تُعدّ رفاهية استراتيجية، بل ضرورة مفروضة بواقع عالمي متحول. وإذا ما نُفذ المشروع وفق ما هو مخطط له، فقد يؤسس لتحول جذري في معادلة الردع الأميركية، يعيد ترتيب موازين القوى في سباق التسلح الفضائي.

ما يثير القلق لدى صانعي القرار في واشنطن، هو أن المشروع الأميركي، رغم طموحه، قد يؤدي إلى تسريع عسكرة الفضاء بدلا من ردعها.

فبينما تسعى الولايات المتحدة إلى حماية تفوقها التكنولوجي، ترى الصين وروسيا في هذه الخطوات تهديدا وجوديا لمعادلة الردع، وتعملان على بناء منظومات هجومية موازية، قد تفجّر في لحظة ما سباقا تسليحيا غير قابل للاحتواء.

يُعرف الرئيس ترمب بولعه بالمشاريع العملاقة، ليس فقط كوسيلة لتعزيز القدرات الوطنية، بل كجزء من نهجه الإداري القائم على التسويق السياسي وإثارة الرأي العام. ورغم الطابع الاستعراضي لبعض هذه المشاريع، فإن الولايات المتحدة تواجه بالفعل حاجة استراتيجية حقيقية لتعزيز منظوماتها الدفاعية، خاصة في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة وتقدّم القدرات الصاروخية والفضائية لكل من الصين وروسيا.

رويترز
وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث يتحدث مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في شأن "القبة الذهبية"

فعلى الرغم من امتلاكها قرابة 44 صاروخا اعتراضيا موزعة بين كاليفورنيا وألاسكا، إلا أن هذا العدد يُعتبر غير كافٍ لضمان التفوق الأميركي الكامل أو صد الهجمات المعقدة المحتملة من أكثر من جهة في وقت واحد. فالبعد الجغرافي الذي كان يوما ما درعا طبيعية، لم يعد يشكل حاجزا أمام الخصوم الذين باتوا يمتلكون قدرات للوصول إلى العمق الأميركي خلال دقائق، مما يعزز مبررات تطوير مشاريع ضخمة مثل "القبة الذهبية" لتأمين المجال الفضائي والردع الاستراتيجي.

إذا كان الجدل الدائر اليوم يتمحور حول سباق تسلح فضائي أو صراع متسارع للسيطرة على الفضاء الخارجي، فإن الصين وروسيا تقفان في طليعة القوى الطامحة لترسيخ حضورها في هذا المجال. كلتاهما تعمل على تطوير قدرات هجومية مخصصة لتعطيل أو تدمير الأقمار الصناعية، إلى جانب أنظمة قادرة على تنفيذ مناورات هجومية دقيقة أو شن هجمات تشويش إلكتروني تستهدف البنى التحتية الفضائية الحساسة.

انطلاقا من هذه المعادلة المتغيرة، تنظر واشنطن إلى حماية أصولها في الفضاء – من أقمار الاتصالات والملاحة إلى أنظمة الاستطلاع العسكري – باعتبارها أولوية أمن قومي لا تقل شأنا عن حماية الموانئ أو شبكات الكهرباء داخل الولايات المتحدة.

أصبحت هذه المنظومات الفضائية ضمن "البنية التحتية الاستراتيجية الجديدة"، وأي استهداف لها قد يُفقد الولايات المتحدة القدرة على القيادة والسيطرة، ويُضعف قدرتها على الردع في لحظات حرجة. ومن هذا المنطلق، تبرر الإدارات الأميركية، سواء في عهد ترمب أو من سبقوه أو من يأتون بعده، ضخ مليارات الدولارات في تطوير الدفاعات الفضائية المتقدمة باعتبارها استثمارا حيويا في أمن قومي لعصر تجاوز حدود الأرض وتخطى مفاهيم الردع التقليدية.

font change