النيل... حكاية النهر الذي كتب تاريخ المصريين (1 من 2)

من التقديس الى سد النهضة الأثيوبي

المجلة
المجلة

النيل... حكاية النهر الذي كتب تاريخ المصريين (1 من 2)

منذ فجر التاريخ، لم يكن النيل مجرد نهر في الجغرافيا، بل كان نهرا في الوعي، شريانا في الجسد الحضاري الذي صاغ هوية المصريين عبر آلاف السنين. فبينما كانت شعوب العالم القديم تبحث عن الماء لتستقر، كان المصريون أبناء الماء ذاته، إذ ولدت قراهم ومدنهم ومعتقداتهم على ضفافه، وارتسمت ملامح دولتهم على إيقاع فيضانه. وفي كل عام، حين كان النهر يفيض، لم يكن ذلك مجرد حدث طبيعي، بل طقس كوني يرمز إلى تجدد الخلق، وعودة النظام بعد الفوضى، وتجدد العهد بين الأرض والسماء.

لقد شكل النيل مع الزمن أكثر من مورد مائي، وأصبح ذاكرة جمعية تجري في الدم المصري. ومنه اشتقت مصر ذاتها اسمها في نصوص المصريين القدماء، كِمِت، أي الأرض السوداء، في إشارة إلى طمي النهر الذي يهب الأرض الحياة. ولهذا لم يكن المصري ينظر إلى النيل بعين المزارع فقط، بل بعين الفيلسوف الذي يرى فيه رمزا للاتصال بين الحياة والموت، بين النظام والفوضى، بين الزمن الدائري الذي يعود كل عام بفيضان جديد، والزمن الخطي الذي يقود إلى بناء الحضارة واستمرارها.

غير أن هذا النهر الذي كان رمزا للخصب والاستقرار، تحوّل في القرن الحادي والعشرين إلى محور توتر وصراع، تتقاطع عنده المصالح الوطنية والمخاوف الوجودية. فبينما ازدهرت حوله واحدة من أقدم الحضارات في التاريخ، أصبح اليوم مسرحا لواحدة من أعقد الأزمات الجيوسياسية في أفريقيا، وهي أزمة سد النهضة الإثيوبي الكبير.

المجلة
النيل.. نهر الحياة

فالسد الذي تبنيه إثيوبيا منذ أكثر من عقد على النيل الأزرق – الرافد الذي يمد مصر بنحو 85% من مياهها – غيّر معادلة النهر القديمة من شريان حياة مشترك إلى أداة سيطرة وتحكم.

كانت مصر على مدى قرون تنظر إلى النيل باعتباره "نعمة إلهية" ذات نظام طبيعي لا يمس، يفيض في موعده ويهب الأرض خصبها. لكن في العصر الحديث، ومع صعود السياسات المائية القائمة على السيطرة، بدأ مفهوم النهر نفسه يتبدل. فبناء السدود لم يعد مجرد مشروع هندسي، بل أصبح فعلا سياديا يمس جوهر السيادة الوطنية، ويعيد طرح سؤال طالما تجاهلته البشرية: من يملك الماء؟ ومن يملك الحق في ضبط حركة الطبيعة؟

في السنوات الأخيرة، خصوصا مع فيضان هذا العام، بدا المشهد أكثر تعقيدا. فقد أدت معدلات الأمطار غير المعتادة على الهضبة الإثيوبية إلى زيادة كبيرة في التصريفات، انعكست في فيضان ضخم تجاوز التقديرات الطبيعية، متسببا بأضرار بالغة في السودان وموجات غمر في مناطق طرح النهر داخل مصر.

وفي الوقت نفسه، جاءت الخطوة الإثيوبية بالملء الأحادي الجديد لخزان السد دون تنسيق مسبق لتثير أزمة مضاعفة، أزمة علمية مرتبطة بإدارة المياه، وأخرى سياسية تمس مبادئ القانون الدولي والثقة الإقليمية.

أعاد فيضان هذا العام فتح جرح قديم في الوعي المصري، جرح الخوف من فقدان السيطرة على المصدر الوحيد للحياة

إن ما يميز أزمة النيل الراهنة ليس فقط بعدها الفني، بل طابعها الحضاري الوجودي. فالنهر لم يعد مجرد مورد، بل أصبح ميدان اختبار لعلاقة الإنسان بالطبيعة. فبينما بنت الحضارة المصرية القديمة وعيها على التعايش مع النهر وتقبل إيقاعه، يسعى العالم الحديث إلى السيطرة عليه وتطويعه. هذه النقلة من الفهم التوافقي إلى الفهم القهري، تعبر عن تحول فلسفي عميق في علاقة الإنسان بالبيئة، من الاحترام إلى الهيمنة، ومن التقديس إلى الحسابات الميكانيكية.

وهكذا، فإن قضية السد الإثيوبي لا يمكن قراءتها فقط بوصفها نزاعا على الحصص المائية، بل بكونها تعبيرا عن أزمة رؤية في فهم معنى الماء ذاته، وعن صدام بين منطقين، منطق "الحق الطبيعي" في البقاء، ومنطق "الحق السيادي" في التنمية. وفي قلب هذا الصراع تقف مصر، أمة النهر التي بنت على ضفافه تاريخها كله، تواجه اليوم احتمالات أن يختزل مصيرها في معادلات تصريف وملء تتحكم فيها إرادة خارجية.

وأعاد فيضان هذا العام فتح جرح قديم في الوعي المصري، جرح الخوف من فقدان السيطرة على المصدر الوحيد للحياة. ففي حين ينظر المصري إلى النهر بعين الامتنان، تتعامل السياسات الإقليمية معه بمنطق الموارد الاستراتيجية. وبين الشعور بالقداسة والنظرة النفعية تتسع الفجوة الحضارية، وتتعمق الأزمة.

من بين الظواهر الطبيعية التي شكّلت التاريخ الإنساني، يظل فيضان النيل حالة فريدة تجمع بين العلم والأسطورة، بين الهيدرولوجيا والميتافيزيقا. فالنهر الذي ينبع من قلب الهضبة الإثيوبية، ويتدفق عبر آلاف الكيلومترات حتى يصل إلى دلتا البحر المتوسط، لم يكن مجرد مجرى مائي، بل هو نظام بيئي متكامل يعبّر عن نبض الطبيعة ذاته. وفي كل عام، حين يرتفع منسوب النيل في منتصف الصيف، كان المصري القديم يشهد ما يشبه «الخلق الدوري» للعالم من جديد، فيرى الطين يعانق البذور، والحياة تخرج من قلب الماء، والأرض تكتسي بالسواد الذي اشتُق منه اسم الوطن: كِمِت، أي الأرض السوداء.

يُعد فيضان النيل نتيجة مباشرة لتباين الأمطار الموسمية على مرتفعات الهضبة الإثيوبية، ولا سيما في منطقتي بحيرة تانا ونهر أباي (النيل الأزرق). تبدأ الأمطار الغزيرة عادة في يونيو/حزيران، وتبلغ ذروتها في أغسطس/آب، ثم تتراجع في سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول. هذه الأمطار تغذي روافد النيل الأزرق والسوباط وعطبرة، التي تمد النيل الرئيس في السودان ومصر بالجزء الأكبر من مياهه خلال الصيف.

تُظهر الدراسات الحديثة أن نحو 85% من تصريف النيل عند أسوان يأتي من النيل الأزرق وحده، مما يفسر الدور الحاسم للهضبة الإثيوبية في تشكيل الفيضان التاريخي.

قبل بناء السد العالي عام 1960، كان النيل في مصر يتأثر مباشرة بالتقلبات المناخية على تلك الهضاب، فتتفاوت مواسم الفيضان بين الأعوام الجيدة والعجاف، وقد سجلت برديات الدولة الوسطى نصوصا تصف أعوام الجفاف بوصفها "سنوات القحط السبع" التي ارتبطت بأسطورة الملك زوسر وإله الخلق خنوم. هذه النصوص تظهر أن المصريين القدماء لم يفصلوا بين الظاهرة الطبيعية ومعناها الأخلاقي والديني. فحين يفيض النهر بكرم، كان يرى ذلك دليلا على رضا الآلهة، وحين يشحّ ماؤه، كانت تُستدعى الطقوس لتجديد العهد بين الإنسان والسماء.

كان الفيضان بالنسبة الى المصريين ساعة الزمن الكبرى، يقيسون به أعمارهم ومواسمهم، بل نظموا تقويمهم الشمسي والنجمي بناءً على ظهوره السنوي

ومع تطور المعرفة الهيدرولوجية، بات الفيضان يُقاس بمنهجية علمية دقيقة. فالمصريون القدماء أنشأوا منذ الدولة القديمة المقاييس النيلية لقياس منسوب المياه، مثل مقياس النيل بجزيرة الروضة في القاهرة، الذي يُعدّ من أقدم أدوات الرصد الهيدرولوجي في التاريخ. وكان الكهنة يستخدمون هذه القياسات ليس فقط لتقدير الضرائب الزراعية، بل لتحديد مواعيد الأعياد الدينية المرتبطة بدورة النهر.

نظام بديع

كان الفيضان بالنسبة الى المصريين ساعة الزمن الكبرى، يقيسون به أعمارهم ومواسمهم، بل نظموا تقويمهم الشمسي والنجمي بناءً على ظهوره السنوي. فكل عام يبدأ مع طلوع نجم سيريوس في السماء، وهو المؤشر الفلكي الى اقتراب الفيضان، فيتجدد العام الزراعي والطقسي معا.

من الناحية الحضارية، ساهم فيضان النيل في تشكيل رؤية المصريين للعالم والزمن. فالزمن عندهم لم يكن خطا مستقيما، بل دورة متكررة، يتجدد فيها الخلق مع كل فيضان. ولهذا كانت طقوس رأس السنة المصرية القديمة – عيد وِپِت رِنبت – احتفالا بعودة المياه إلى الأرض، أي بعودة الحياة ذاتها.

اقتصاديا، مثل الفيضان نظام إعادة توزيع سنوي للثروة: الطمي الذي يحمله النهر من أعالي الهضبة كان يعيد خصوبة الأرض كل عام دون حاجة إلى أسمدة، مما منح مصر تفوقا زراعيا مستداما عبر العصور. بيئيا، كان الفيضان يعمل كآلية طبيعية لتجديد النظم البيئية في وادي النيل؛ إذ يغذي المستنقعات، ويعيد ملء الخزانات الجوفية، ويوازن درجات الملوحة في الدلتا.

لكن هذا النظام البديع كان هشا في الوقت ذاته، لأن أي خلل في الفيضان – زيادة أو نقصا – يعني تهديدا مباشرا للحياة. ولهذا ارتبطت سلطة الحاكم المصري بقدرته على "ضبط النهر" رمزيا، أي ضمان انتظام فيضانه، فصار الملك يلقب بـ"سيد النيلين"، باعتباره ضامنا للتوازن الكوني.

من الناحية الحضارية، ساهم فيضان النيل في تشكيل رؤية المصريين للعالم والزمن. فالزمن عندهم لم يكن خطا مستقيما، بل دورة متكررة، يتجدد فيها الخلق مع كل فيضان. ولهذا كانت طقوس رأس السنة المصرية القديمة – عيد وِپِت رِنبت – احتفالا بعودة المياه إلى الأرض، أي بعودة الحياة ذاتها.

وفي النصوص الدينية، يصوّر الإله حابي – مجسّد النيل – بوصفه كائنا مزدوجا يجمع بين الذكر والأنثى، بين الماء والطين، أي بين القوة المولّدة ومادة الخلق. بهذا المعنى، يصبح الفيضان ليس مجرد حركة ماء، بل حدثا كونيا يتجلى فيه الإله.

لقد وُلدت مفاهيم «النظام» (ماعت) و«الخصب» و«الاستقرار» من مراقبة الفيضان. فكما يعيد النهر النظام إلى الأرض بعد الفوضى، ينبغي للحاكم أن يعيد النظام إلى المجتمع. وكما يمنح الماء الحياة، ينبغي للعدالة أن تغذي الناس. بهذا الارتباط بين الطبيعة والأخلاق نشأ الضمير المصري القديم، الذي لم يفصل بين الفيزياء والميتافيزيقا، بل رأى في انتظام النهر مرآة لانتظام الكون نفسه.

مراقبة الفيضان اليوم تعني مراقبة مصير بأكمله، لأن ما يحدث في أعالي النيل لا ينعكس فقط على حقول القمح في دلتا مصر، بل على استقرار إقليمي وثقافي عمره آلاف السنين

حتى الفن والعمارة تأثرا بإيقاع الفيضان. فالمعابد المصرية، مثل الكرنك والأقصر، شُيّدت على ارتفاعات محسوبة تتجاوز مستوى الفيضان الأعظم، لتظل شاهدة على التوازن بين الماء والحجر، بين الزمن والديمومة. وكان الكهنة يقرأون ارتفاع المياه في الأحواض المقدسة داخل المعابد بوصفه رسالة من الآلهة عن خصب العام المقبل.

في العصر الحديث، ومع بناء السد العالي عام 1960، توقف الفيضان الطبيعي، واستُبدل بفيضان اصطناعي منظّم. وقد وفّر هذا التنظيم حماية من الفيضانات المدمرة وجفاف الأعوام العجاف، لكنه في الوقت ذاته فصل المصريين عن الطقس السنوي الذي شكّل وعيهم آلاف السنين. لم يعد النهر يفيض في الشوارع، ولم تعد الأرض تتجدد بالطمي كما كانت، فتغيّر وجه الريف والمدينة.

أنماط التصريف

إلا أن هذا الانفصال لم يلغِ أثر الفيضان في الوجدان الجمعي، إذ لا يزال المصري يشعر بالارتباط الغريزي بمستوى المياه في النهر، ويراقب زيادته ونقصانه كمن يراقب نبض وطنه.

إن مراقبة الفيضان اليوم تعني مراقبة مصير بأكمله، لأن ما يحدث في أعالي النيل لا ينعكس فقط على حقول القمح في دلتا مصر، بل على استقرار إقليمي وثقافي عمره آلاف السنين.

في هذا المعنى، يمكن القول إن الفيضان هو "الترمومتر الحضاري" الذي يقيس حرارة العلاقة بين الإنسان والبيئة. فإذا كان منتظما، ساد النظام والخصب، وإذا اختلّ، اهتز البناء من جذوره. وفي هذا تكمن رمزية النيل الكبرى: أنه ليس مجرد ماء، بل مبدأ للوجود ذاته، لا يفرّق بين الفيزياء والسياسة، ولا بين الجغرافيا والفلسفة.

واليوم، مع أزمة السد الإثيوبي وما رافقها من تغيّر في أنماط التصريف والفيضان، يعود الحديث عن النيل إلى الواجهة بوصفه مؤشرا حضاريا الى التوازن أو الاضطراب. فالفيضان لم يعد مجرد رقم في بيانات وزارة الري، بل أصبح مرآة تكشف هشاشة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين الدول التي تتقاسم هذا النهر الأبدي.

وما حدث أخيرا من فتح لبوابات السد الإثيوبي، وغمر آلاف الهكتارات في السودان، تسبب بأزمة إضافية بين مصر وإثيوبيا.

فقد قالت مصر في بيانها الأخير الصادر عن وزارة الموارد المائية والري إن استمرار إثيوبيا في إدارة سد النهضة بصورة أحادية يشكل خرقا واضحا لقواعد القانون الدولي، وانتهاكا لمبدأ التعاون وحسن الجوار، وتقويضا للحقوق المائية التاريخية لدول المصب. لم يكن البيان مجرد رد ديبلوماسي على خطوة فنية، بل جاء تعبيرا عن إدراك استراتيجي عميق لطبيعة التحول الذي تحاول إثيوبيا فرضه في معادلة نهر النيل، من نهر دولي قائم على المشاركة والتشاور، إلى مشروع قومي مغلق تحكمه قرارات منفردة تصدر من طرف واحد.

من هذا المنطلق، يتجاوز البيان المصري كونه احتجاجا، ليصبح وثيقة سياسية قانونية تعيد تذكير المجتمع الدولي بحدود السلوك المسموح به في إدارة الموارد المائية العابرة للحدود

ويبرز البيان المصري ثلاث نقاط جوهرية، الأولى، أن الملء أو التشغيل الأحادي للسد يتعارض مع المادة الخامسة من اتفاق إعلان المبادئ لعام 2015، التي تنص صراحة على ضرورة الاتفاق بين الدول الثلاث على قواعد الملء والتشغيل قبل تنفيذها. والثانية، أن الإجراءات الأحادية لا تقتصر آثارها على المسائل الفنية فحسب، بل تمس الأمن المائي لمصر والسودان مباشرة. والثالثة، أن النهج الأحادي يُفرغ مبدأ "المنفعة المشتركة" من مضمونه، ويحوّل النهر إلى أداة ضغط سياسي واقتصادي.

من هذا المنطلق، يتجاوز البيان المصري كونه احتجاجا، ليصبح وثيقة سياسية قانونية تعيد تذكير المجتمع الدولي بحدود السلوك المسموح به في إدارة الموارد المائية العابرة للحدود. وهو ما يضع السلوك الإثيوبي في موضع المساءلة أمام منظومة القانون الدولي للمجاري المائية، خاصة اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997، التي تؤكد مبدأي عدم الإضرار والاستخدام المنصف والمعقول.

الإدارة الأحادية

الإدارة الأحادية (Unilateral Management) في مفهومها القانوني تشير إلى اتخاذ دولة من دول الحوض إجراءات أو قرارات تتعلق بتطوير أو تشغيل مشروع مائي مشترك دون التشاور أو التوافق مع بقية الأطراف المتأثرة. ويُعدّ هذا السلوك خرقا لجوهر العلاقات التعاونية التي يقوم عليها القانون الدولي للأنهار، لأنه يتجاهل مبدأ "الإخطار المسبق"، أحد الأعمدة الأساسية لاتفاقية 1997، الذي يُلزم الدولة صاحبة المشروع إخطار الدول الأخرى مسبقا بكل التفاصيل الفنية والبيئية المحتملة للمشروع.

AFP
لاجئون من جنوب السودان يحاولون إصلاح كوخهم وسط مياه فيضانات النيل الأبيض في مخيم للاجئين غمرته المياه بعد هطول أمطار غزيرة قرب القنا بجنوب السودان

وتذهب لجنة القانون الدولي في تفسيراتها إلى أن الإخطار المسبق ليس إجراء شكليا، بل عملية تفاوضية متكاملة تهدف إلى تحقيق التوازن بين حق التنمية وحق الحماية من الضرر. بمعنى أن أي مشروع مائي كبير يجب أن يكون محل تشاور علمي وقانوني مستمر، وأن نتائج الدراسات الفنية يجب أن تعرض على جميع الدول المعنية قبل الشروع في التنفيذ.

أما أن تتخذ دولة قرارات منفردة في مسار نهر دولي، فهذا يعني عمليا إعلان السيطرة المنفردة على مورد مشترك، أي تحويل الملكية الجماعية إلى سيادة أحادية، وهو ما يخالف جوهر القانون الدولي.

يمثل النهج الإثيوبي في إدارة سد النهضة نموذجا كلاسيكيا لما يُعرف في فقه القانون الدولي بـ"الانتهاك المركب"، لأنه يجمع بين خرق الالتزامات التعاهدية (اتفاق إعلان المبادئ)، وخرق الالتزامات العرفية (مبدأ عدم الإضرار والإخطار المسبق)، وخرق الالتزامات الأخلاقية المرتبطة بالتعاون الإقليمي.

تشير الحسابات الهيدرولوجية إلى أن تخزين 74 مليار متر مكعب من المياه في بحيرة السد دون تنسيق، يمكن أن يؤدي إلى انخفاض منسوب النيل الرئيس بمعدل قد يصل إلى متر ونصف المترخلال سنوات الجفاف

من الناحية الفنية، تظهر إدارة السد الأحادية انعكاسا واضحا في غياب آلية مشتركة لتبادل البيانات بين الدول الثلاث. فحين تنفرد إثيوبيا بقرارات تتعلق بمعدلات الملء أو توقيت فتح بوابات التصريف، فإنها تُحدث خللا مباشراً في النظام الهيدرولوجي للنيل الأزرق، الذي يغذي أكثر من 80% من مياه النيل الواردة إلى السودان ومصر.

فعلى سبيل المثل، تشير الحسابات الهيدرولوجية إلى أن تخزين 74 مليار متر مكعب من المياه في بحيرة السد دون تنسيق، يمكن أن يؤدي إلى انخفاض منسوب النيل الرئيسي بمعدل قد يصل إلى متر ونصف المتر خلال سنوات الجفاف، مما ينعكس على محطات المياه، والزراعة، وتوليد الكهرباء في دول المصب.

وإذا كانت إثيوبيا تؤكد أن السد لأغراض توليد الكهرباء فقط، فإن الإدارة الأحادية تفقد هذا الادعاء صدقيته، لأن توليد الكهرباء لا يتطلب السيطرة المطلقة على توقيتات التصريف والملء، بل يمكن تحقيقه ضمن منظومة تشغيل متفق عليها تراعي مصالح جميع الأطراف.

أما في الوضع الحالي، فإن غياب الشفافية الفنية يجعل السد أداة للتحكم في تدفق المياه، وهو ما يضفي على المشروع طابعا سياسيا أكثر منه تنمويا.

من زاوية هندسية أوسع، فإن إدارة السد تتطلب منظومة تشغيل دقيقة، تعتمد على البيانات اليومية للأمطار والتدفقات والسيول الموسمية، وهذه البيانات ليست متاحة بشفافية للدول الأخرى. وهذا ما يجعل مصر –من وجهة نظر فنية بحتة– تتعامل مع السد كعامل "عدم يقين هيدرولوجي"، أي كمصدر خطر محتمل، وليس كمشروع مشترك يمكن التنبؤ بسلوكه.

مرآة لعلاقات القوة والتعاون

يكتسب السلوك الإثيوبي بعدا حضاريا أعمق حين يقرأ في سياق تاريخي طويل من تفاعل وادي النيل. فالنهر لم يكن في أي لحظة "ملكا لدولة"، بل كان دائما نظاما حضاريا مفتوحا يربط الشعوب والثقافات. مصر والسودان وإثيوبيا تشترك في تاريخ مائي طويل من التبادل الطبيعي والمنافع المتبادلة، ولذلك فإن التحول إلى منطق "الملكية الوطنية للنهر" يمثل قطيعة مع الفلسفة التاريخية التي شكلت هوية الوادي.

في الفلسفة السياسية للمياه، تعد الأنهار المشتركة مرآة لعلاقات القوة والتعاون في الإقليم. ومن ثم فإن اتخاذ قرارات أحادية في هذا المجال لا يعبّر فقط عن إرادة فنية، بل عن إرادة هيمنة رمزية، تهدف إلى إعادة رسم موازين القوة في الإقليم عبر السيطرة على المورد الأهم، الماء.

AFP
نُحت نقش بارز يُصوّر الإله حابي، إله النيل، على قاعدة تمثال ضخم للفرعون المصري القديم رمسيس الثاني

هنا يمكن فهم موقف مصر لا كمجرد دفاع عن حصتها المائية، بل كدفاع عن مفهوم حضاري للنهر بوصفه "مجالا مشتركا للحياة"، وليس مجرد أداة اقتصادية.

السلوك الأحادي يخلق مناخا من انعدام الثقة يهدد أي مشاريع تكامل إقليمي مستقبلية

أما على المستوى الجيوسياسي، فإن الإدارة الأحادية للسد تعيد ترتيب التحالفات الإقليمية في شرق أفريقيا. فبينما تسعى القاهرة إلى تأكيد مبدأ التشارك، تبني أديس أبابا رؤيتها على فكرة "السيادة المطلقة" على الموارد، وهو مبدأ إذا ساد فسيقوّض أي إمكان للتعاون المستدام في المستقبل، ليس فقط في النيل، بل في الأحواض المائية الأخرى في القارة.

ومن منظور القانون الدولي، فإن تكرار التصرفات الأحادية دون اعتراض فعال من المجتمع الدولي قد يؤدي إلى "تثبيت أمر واقع" بمرور الوقت، وهو ما يجعل التحرك المصري في كل مرحلة بمثابة حماية قانونية مستمرة للحق التاريخي. ولذلك، فإن البيانات المصرية المتكررة ليست مجرد بيانات سياسية، بل تعد جزءا من سجل قانوني يوثق الرفض المصري لأي اعتراف ضمني بشرعية التصرف الأحادي.

كما أن اللجوء إلى المنظمات الدولية –من مجلس الأمن إلى الاتحاد الأفريقي– ليس فقط آلية تفاوض، بل وسيلة لإثبات أن مصر استنفدت كل سبل الحل السلمي. هذه النقطة بالذات تعد أساسية في أي مسار محتمل للتحكيم أو التقاضي الدولي مستقبلا، إذ تضع إثيوبيا في موضع الدولة التي "رفضت التعاون"، وهو وصف له ثقل قانوني كبير.

أما سياسيا، فإن السلوك الأحادي يخلق مناخا من انعدام الثقة يهدد أي مشاريع تكامل إقليمي مستقبلية. فالتنمية في حوض النيل لا يمكن أن تتحقق إلا على أساس "التنمية المشتركة"، أي ربط مصالح الأطراف بعضها ببعض، بحيث تصبح المنفعة جماعية لا صفرية.

إثيوبيا –بمنطقها الأحادي– تختار معادلة صفرية، ترى فيها أن مكسبها لا يتحقق إلا بخسارة الآخرين. وهذه الفلسفة، في التحليل الحضاري، تعكس انتقالا من روح "الوفرة الجماعية" إلى عقلية "الاحتكار والسيطرة"، وهي نقلة خطيرة في مفهوم إدارة الموارد المشتركة.

وحين ننظر إلى الأزمة من منظور حضاري، يتضح أن المسألة تتجاوز مجرد الأمتار المكعبة من المياه، لتصل إلى سؤال أعمق: ما طبيعة العلاقة التي تربط الإنسان بالموارد التي يتقاسمها مع غيره؟


فالماء، في الوعي المصري القديم كما في الثقافات الأفريقية القديمة، لم يكن موردا اقتصاديا فحسب، بل كان رمزا للخصب والاتصال والاستمرارية. ولذا فإن تحويله إلى موضوع صراع أحادي يعكس تغيرا جوهريا في رؤية الإنسان للطبيعة والمجتمع.

والإدارة الأحادية للسد، في هذا المعنى، ليست فقط مخالفة قانونية، بل علامة على تحول ثقافي من فلسفة "العيش المشترك" إلى فلسفة "التحكم والسيطرة". وحين تفقد الأنهار بعدها الإنساني وتتحول إلى أدوات ضغط، تفقد المنطقة قدرتها على بناء مشروع حضاري متوازن. من هنا، فإن دفاع مصر عن مبدأ المشاركة ليس دفاعا عن حق مائي فحسب، بل عن فكرة العيش المشترك كقيمة حضارية.

font change