خمسة أسئلة ضرورية لإيقاف الحرب في السودان

أ ف ب
أ ف ب
جندي سوداني يراقب خط الجبهة في الخرطوم في الثالث من نوفمبر 2024

خمسة أسئلة ضرورية لإيقاف الحرب في السودان

لن يتحقق السلام في السودان بالصدفة، أو عبر تسوية سياسية تُصاغ تحت ضغوط أجنبية، أو بجولة جديدة من مساومات وصفقات النخب. فالأمر يتطلب أكثر من مجرد مفاوضات. إنه يحتاج إلى نظام سياسي مبني على السيادة وإصلاح للقطاع الأمني ومساءلة وطنية. ما يحتاجه السودانيون هو مواجهة الأسئلة الراهنة الصعبة.

إذا أراد السودانيون إنهاء الحرب الكارثية وتجنب الانزلاق نحو اللادولة، يجب على المجتمع السياسي مواجهة خمسة أسئلة أساسية بصدق وشجاعة. معالجة هذه الأسئلة ليست ترفا أكاديميا، بل هي الأساس لبناء السلام واستعادة استقرار الدولة. الاستمرار في تجنبها لم يعد خيارا، وأي عملية سياسية تتجنبها هي استسلام متعمد للتفكك والصوملة.

تتلخص هذه الأسئلة الخمسة في الآتي:

· ماذا نصنع بالجيش السوداني؟

· ماذا نصنع مع قيادة الجيش الحالية؟

· ماذا نفعل بميليشيا "قوات الدعم السريع"؟

· كيف نتعامل مع الحركة الإسلامية في السودان؟

· ماذا نفعل بشأن الأجندات الخارجية والإقليمية التي تغذي الحرب؟

لا يمكن تأجيل هذه الأسئلة إلى ما بعد الحرب، لأن الإجابة عليها حاسمة، وتجنبها هو ما قاد السودان إلى الحرب أصلا.

1. ماذا نصنع بالجيش السوداني؟

سيظلّ للسودان جيش، هذا أمر لا جدال عليه. فوجود الدولة الحديثة يعتمد على امتلاكها قوة نظامية تحتكر أدوات العنف المشروع داخل حدودها، وهو تعريف الدولة في الفكر السياسي من ماكس فيبر إلى كلاوزفيتز. الجيش ركن بنيوي في هيكل الدولة، وفي غيابه تنزلق الدولة إلى كانتونات مسلحة وميليشيات متناحرة وأمراء حرب. دور الجيش في صورته الصحيحة هو أن يحمي النظام السياسي ولا يصادره، وأن يصون الدولة ولا يحكمها. السؤال الحقيقي ليس إن كان يجب أن يكون للسودان جيش قوي، فهذا أمر مفروغ منه، السؤال هو: أي جيش نريد؟ وبأي عقيدة وقيادة واقتصاد وإطار مساءلة.

كان الجيش السوداني، عبر تاريخه، مؤسسة دولة وفاعلا سياسيا في آنٍ واحد؛ يتدخل في الحياة العامة وينفذ الانقلابات. هذا التداخل أضعف الجيش نفسه قبل أن يضعف الدولة، وأفقده صفة الحياد. ولكن الجيش لم يُخلق سياسيا بطبيعته، بل جرى تسييسه عبر عقود من تراكم النزعات السلطوية، والتلاعب السياسي والأيديولوجي وضعف أنظمة الحكم المدنية.

إصلاح الجيش اليوم ليس انتقاما، بل هو عملية إنقاذ ذات غايتين: إنقاذ الدولة من التفكك، وإنقاذ المؤسسة العسكرية من الانهيار المؤسسي، عبر استعادة احترافيتها وتثبيت دورها الطبيعي. يتطلب هذا إطارا وطنيا، حيث تحدد السلطة المدنية أهداف الأمن القومي، ويوكل للمؤسسة العسكرية تنفيذها.

 رويترز
عناصر من "قوات الدعم السريع" في الخرطوم في 18 يونيو 2019

ولتحقيق ذلك، لا بد من بناء أسس واضحة منذ الآن، تشمل:

· إعادة هيكلة مهنية شاملة: تحديث نظم التدريب، واعتماد التوظيف والترقي على أسس الكفاءة ورفض دعوات الهيكلة الإثنية والجهوية.

· رقابة مدنية وطنية: تتحقق عبر توافق وطني ودستور دائم يحدد بوضوح موقع الجيش في جهاز الدولة وخضوعه لإسراف السلطات المدنية المنتخبة.

· تنظيم النشاط الاقتصادي العسكري: تحديد حدود الاستثمار العسكري قانونيا، وإخضاع الشركات العسكرية للرقابة والشفافية لمنع تضارب المصالح.

هذه التدابير ليست عقابا للجيش، بل شرط ضروري لإنقاذ الدولة وضمان قيام جيش وظيفته الحماية وليس الوصاية، وتأسيس دولة مدنية ديمقراطية مستقرة.

من الخطأ تصور الحركة الإسلامية كتلة واحدة. فحزب "المؤتمر الوطني" فقد تماسكه. وما يبدو تماسكا اليوم هو تلاحم اضطراري بفعل الخوف من المحاسبة والإقصاء؛ إنها وحدة خندق لا وحدة مشروع

2. ماذا نصنع مع قيادة الجيش الحالية؟


ظلت قيادة الجيش الحالية جزءا أساسيا من المعادلة السياسية منذ2019  ومنذ اندلاع الحرب في أبريل/نيسان 2023، اكتسبت هذه القيادة شعبية واسعة ودعما قاعديا بسبب دورها في مواجهة المجازر، وجرائم العنف الجنسي والتهجير والتطهير العرقي التي ارتكبتها ميليشيا "الدعم السريع".
لكن هذه الشعبية المكتسبة لا تصلح لأن تكون ذريعة لتكريس الحكم العسكري. بل تضع على عاتق هذه القيادة مسؤولية إدارة انتقال منظم نحو حكم مدني. دورها يكمن في استراتيجية انتقالية لتسخير نفوذها وشعبيتها في عملية انتقال سياسي واضحة المعالم. هذه الخطوة حاسمة لتجنب انهيار المؤسسات وتفتت جهاز الدولة. هذا الترتيب الانتقالي هو إجراء وقائي أساسي لإرساء الاستقرار طويل الأمد. هذا الدور ليس امتيازا، بل مسؤولية تعيد تعريف المناصب القيادية كمواقع خدمة عامة لا غنائم.

3. ماذا نفعل بـ"قوات الدعم السريع"؟


هنا يجب أن يكون الجواب واضحا لا لبس فيه. "قوات الدعم السريع" ليست مؤسسة وطنية، بل هي ميليشيا صنعها الرئيس السابق عمر البشير كأداة لبقاء نظامه، خارج بنية الدولة وضد منطقها. إنهاء الوجود المؤسسي لهذه الميليشيا هو واجب وطني تأخر كثيرا. والصمت على تمددها كان خطيئة كبرى اشتركت فيها القوى السودانية جميعا بدرجات مختلفة. والآن يتحمل السودان كله وزر هذه الخطيئة. 
تمت صناعة "الدعم السريع" لحرق القرى في دارفور، وقتل المتظاهرين في الخرطوم، وتحولت إلى شركة مرتزقة، قبل أن يُعاد تغليفها دوليا كشريك في مكافحة الإرهاب وضبط الهجرة. غير أن حقيقتها أنها منظومة نهب مسلح ترتدي الزي العسكري: من تهريب الذهب، والإتجار بالبشر، والفساد المنظم.
الحل لأزمة السودان ليس المقترح الساذج الذي يروج له البعض بأن يقبل السودان نظاما أمنيا تتعايش فيه قوى مسلحة متعددة ضمن نموذج دمج تفاوضي طويل الأمد. التاريخ يقول العكس: الدولة التي يوجد فيها أكثر من جيش تتوقف عن أن تكون دولة. السيادة الوطنية واحتكار الدولة للقوة لا يمكن أن تتم مشاركتها بين جيش دستوري وميليشيا خاصة. أحدهما يجب أن يبقى، والآخر يجب أن ينتهي.
أثبتت الحرب الحالية أن "الدعم السريع" ليس لها مشروع سياسي سوى جشع الربح والسعي للسلطة. إنها نموذج كامل للاستحواذ الميليشياوي على الدولة. وجود هذه الميليشيا غير متوافق هيكليا مع بنية الدولة الطبيعية.
لا بد من تفكيكها. التفكيك لا يعني شعارات رومانسية عن السحق العسكري، ولا يعني الاستسلام لإفلات أمراء الحرب من العقاب. بل يعني تصميم استراتيجية جدّية لنزع السلاح وإنهاء اقتصاد الحرب. يستلزم ذلك أولويات واضحة:
· عزل مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم المستحقين للمساءلة.
· خلق مسارات خروج آمنة أو حوافز طوعية لإعادة الاندماج للمقاتلين غير المسيسين أو المجبرين.
· تحييد شبكات الرعاية الإقليمية عبر فرض سيادة الدولة.
· منع إعادة تدوير أمراء الحرب عبر أي تبييض سياسي.
· إعادة تأهيل نظم كسب العيش في الأطراف لمنع ولادة ميليشيات جديدة.
لا بد أن يكون هذا التفكيك منظما وسلميا قدر الإمكان. وقد تكون حزمة حوافز لقيادات الميليشيا ورعاتها الخارجيين دواء مرّا، لكنه قد يكون ضروريا لتجنب حرب لا نهاية لها.
لكن لا وهم ولا دعاية قادرة على تحويل "الدعم السريع" إلى قوة وطنية شرعية. مصيره محتوم إلى زوال، لأن السودان لا يمكن أن يتعايش مع جريمة منظمة ترتدي بزّة رسمية.

رويترز
الرئيس السوداني السابق عمر البشير

4. ماذا نفعل بالحركة الإسلامية؟


حكمت الحركة الإسلامية السودان ثلاثين سنة، مخلفة سجلا وحشيا من الفساد والاستبداد والقمع. وقد قال الشعب السوداني حكمه ضد هذا المشروع في ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018–2019 لكن الثورات تُسقط الحكام ولا تقتلع شبكاتهم المتغلغلة في الدولة؛ فسقوط البشير لم يعنِ هزيمة الإسلام السياسي، فقد بقيت شبكات التمكين مزروعة في مفاصل الدولة.
تقتضي العدالة السياسية- لا الانتقام- التمييز بين مستويات المسؤولية. ليس كل إسلامي مجرم حرب؛ فمنهم من تورط في الجرائم والتآمر، لكن آخرين انشقوا، ومنهم من شارك في الثورة، وبعضهم اليوم يقاتل ضد "الدعم السريع". التعميم هنا هروب من المسؤولية.
من الخطأ تصور الحركة الإسلامية كتلة واحدة. فحزب "المؤتمر الوطني" فقد تماسكه. وما يبدو تماسكا اليوم هو تلاحم اضطراري بفعل الخوف من المحاسبة والإقصاء؛ إنها وحدة خندق لا وحدة مشروع.

لا يعاني السودان من أزمة تفاوض، بل أزمة رؤية. كثير من الفاعلين السياسيين يهرعون نحو مقاعد التفاوض دون الاتفاق أولا على الأسئلة الأساسية. لكن لا أحد سيبني سلطة مستدامة فوق ركام دولة تتفكك

لذلك، النهج العملي يكمن في معادلة الشمول الانتقالي المشروط مع المحاسبة بلا مساومة:
· من ارتكب جرائم يجب أن يُحاسب.
· من يقبل قواعد الديمقراطية يمكن منحه مسارا سياسيا.
· من يعمل لإعادة الاستبداد يجب أن يُهزم سياسيا.
تجارب العدالة الانتقالية (مثل جنوب أفريقيا) تشير إلى أن المجتمعات لا تتعافى بالثأر. السؤال ليس: كيف نستأصل الإسلاميين؟ بل: كيف نمنع أي قوة- إسلامية كانت أو غيرها- من إعادة اختطاف الدولة؟
لا يمكن بناء ديمقراطية بإقصاء تيار اجتماعي كامل، ولكن لا يمكن بناء استقرار بإعادة إنتاج الإفلات من العقاب. دعم العناصر المعتدلة من التيار الإسلامي يعزل الفصائل المتطرفة. لكن مشاركتهم يجب أن تكون مشروطة بقبول المساءلة، والمساهمة في تفكيك شبكات التمكين، والالتزام الصارم بالديمقراطية. وفي المقابل، لا يجوز لحزب "المؤتمر الوطني"- الذي حُلّ قانونيا- أن يدعي التمثيل.

5. ماذا نفعل بشأن الأجندات الخارجية والإقليمية؟


كشف اندلاع الحرب أن سيادة السودان متصدعة منذ زمن، وأضحت تُعامل كسلعة قابلة للتفاوض. استغل الفاعلون الخارجيون الفراغات المؤسسية، محولين السودان إلى مسرح لصراعات بالوكالة واستخراج الموارد. رسخ هذا التصدع حلقات التبعية، وأضحت النخب السودانية تسعى لمكاسب داخلية عبر تحالفاتها الخارجية.
طريق السلام الحقيقي يتطلب إعادة تأكيد ثوابت وطنية واستعادة الوكالة السياسية الوطنية. أضحى ضروريا صياغة عقيدة وطنية في التعامل مع العلاقات الخارجية، ترتكز على التزامات:
· رفض أي رعاية أجنبية لميليشيات أو مؤسسات سياسية.
· الشفافية والمساءلة في الترتيبات الاقتصادية الأجنبية؛ فالموارد يجب أن تعزز قدرة الدولة لا تضعفها.
· سلطة مدنية على الاتفاقيات الأمنية والعسكرية (كالقواعد والتحالفات). 
· حياد سيادي في الموقف الاستراتيجي، بوصلته المصلحة الوطنية.
· شراكات متبادلة مبدئية تقوم على الاحترام المتبادل لا الاعتماد المعاملي.

أ ف ب
متظاهرون سودانيون مؤيدون للجيش في مدينة القضارف في 22 فبراير

السلام بلا سيادة ليس سلاما بل وهمٌ مؤقت. وحده مشروع وطني يعيد الوكالة الوطنية يمكن أن يكسر دورة الارتهان ويفتح الطريق لسلام مستدام يصنعه السودانيون.

الخيار أمامنا


لا يعاني السودان من أزمة تفاوض، بل أزمة رؤية. كثير من الفاعلين السياسيين يهرعون نحو مقاعد التفاوض دون الاتفاق أولا على الأسئلة الأساسية. لكن لا أحد سيبني سلطة مستدامة فوق ركام دولة تتفكك.
الإجابة على هذه الأسئلة الخمسة ليست ترفا، إنها مسألة بقاء. ما يحتاجه السودان اليوم ليس صفقة جديدة بين النخب، بل عملية إعادة تأسيس وطنية؛ مشروع واعٍ لإعادة بناء النظام السياسي من جذوره، استنادا إلى مواجهة الأسئلة الحتمية لا الهروب منها.
الطريق إلى الدولة يبدأ من ترتيب ضروراتها. المسار الوطني للخروج من الحرب يجب أن يسير وفق معادلة واضحة: إيقاف الاقتتال، يتبعه تفكيك الميليشيا، ثم الشروع في إعادة بناء جيش وطني مهني موحد، وإعادة تأسيس الدولة على أسس مدنية، وتنظيم التعددية السياسية، وصولا لاستعادة السيادة الوطنية وبناء اقتصاد منتج.

لا يفتقر السودان إلى الشجاعة في ساحات المعارك، بل إلى الشجاعة في ميدان السياسة

هذا التدرج يتحقق عبر هيكلة العملية التفاوضية نفسها، والفصل بين ثلاث عمليات تفاوضية مستقلة في موضوعاتها، مترابطة في نتائجها:
· التفاوض العسكري–العسكري: ملف عسكري بحت لوقف إطلاق النار الدائم وإنهاء الاقتتال وتفكيك الميليشيا. يُدار حصرا بين الفاعلين العسكريين المتحاربين، دون تسييس أو مقايضات، ولا ينبغي اختطافه أو رهنه لفرض مكاسب سياسية.
· التفاوض السياسي المدني: مستقبل الحكم (شكل الدولة، الدستور، العدالة الانتقالية) يجب أن يُصاغ بيد القوى السياسية المدنية الوطنية عبر عملية مستقلة عن ضغط السلاح. هذا المسار خارج ولاية العسكريين وتحالفاتهم تماما.
· التفاوض مع الرعاة الخارجيين: مسار خاص للتعامل مع الدول الضالعة في تغذية الحرب (بالمال أو السلاح أو الوكلاء). يجب أن يقوم هذا المسار على ثوابت السيادة الوطنية ومنع تحويل السودان لساحة صراع.
تقسيم هذه المسارات الثلاثة ليس ترفا تنظيميا، بل هو شرط لمنع تكرار التجارب الفاشلة: لا صفقة سياسية تحت فوهة البندقية، ولا مكافأة للميليشيات، ولا شرعنة للتدخل الأجنبي.
لا يفتقر السودان إلى الشجاعة في ساحات المعارك، بل إلى الشجاعة في ميدان السياسة. ومصير الاستقرار في السودان يعتمد على ما إذا كان قادته سيواجهون هذه الأسئلة الخمسة الآن أم سيتجاهلونها. فالسلام ليس مجرد غياب الحرب؛ السلام هو وجود دولة قادرة على الدفاع عن شعبها، والحكم بشرعية واستعادة سيادة شعبها على مصيرها.

font change