3 روايات فلسطينية جديدة تواجه مآسي الواقع بالخيال

محاولات مبتكرة لتقديم السردية الفلسطينية

3 روايات فلسطينية جديدة تواجه مآسي الواقع بالخيال

يبدو أن الهروب من أخبار الدمار والحرب أمر جائز، بل وممكن، لا سيما في عالم الأدب والخيال، حيث يمكن الكاتب أن يحلّق بقلمه وأفكاره بعيدا من آلام الواقع وجراحه التي تطارده ليل نهار، بل لعل هذه هي الطريقة المثلى أحيانا للعيش في هذا الواقع المؤلم، عبر اللجوء إلى الخيال، والانتقال بين الماضي والمستقبل، والرحيل في الزمان والمكان، وهو ما نجد أن روائيين فلسطينيين حاولوا فعله من خلال أعمالهم، وإن تباينت عوالمهم وأساليبهم الفنية.

"السفر إلى كعكة القمر " لزياد خداش

في أولى تجاربه الروائية بعد عدد من المجموعات القصصية، ينتقل بنا الروائي والقاص الفلسطيني زياد خدّاش بالزمن إلى الماضي، حيث يفترض أن بطل الرواية حصل على مركبة زمنية تجعله يعود إلى قريته الفلسطينية بيت نبالا، وتحديدا قبل عامٍ واحد من النكبة عام 1947، وتبدو تلك العودة محاولة إنقاذ لتراث القرية واستحضار قوي لذكريات ذلك العالم الذي كان.

يستحضر خداش في هذه الرواية الصادرة عن "مرفأ" (2025) بحساسية شديدة تفاصيل الحياة الفلسطينية في تلك الفترة، بدءا من طريقة تعامل الناس وحركتهم ومشاكلهم البسيطة وحياتهم اليومية وطريقة تجمعهم ومأكلهم وملبسهم، وصولا إلى علاقتهم الحميمة وقصص الحب والهجران، كيف يحتفلون في أفراحهم وكيف يتجمعون في أحزانهم، حكاياتهم في الأمسيات الطويلة والأساطير التي ينسجونها. الطريف في الرواية أن الراوي (وهو الكاتب) يعود إلى الماضي ولكن يبقى كما هو بعمره الحالي، فيجد أباه صغيرا ويلعب معه، ويحكي عن علاقة أبيه بأمه كيف بدأت وإلى أي شيء انتهت، يقابل أحد كبار المثقفين والمناضلين هناك، الذي أسس في ما بعد تنظيما سماه "الزوبعة" من أجل مقاومة العصابات الصهيونية التي بدأت بالانتشار في فلسطين في ذلك الوقت مدعومة بحماية الاستعمار البريطاني.

يخبر زياد ذلك البطل بحقيقته، ويسميه هايل، وبأنه قادم من المستقبل، لكي يكون ذلك الرجل دليله هناك، ويبدأ في التعرف الى تفاصيل عالم الماضي وشخصياته، ويتورط ذلك القادم من المستقبل في حياته بين الناس بل ويتعرض للاعتقال، لكنه سرعان ما يخرج ليعيش أياما مع أسرته في مخيمات اللاجئين، حتى نصل إلى النكسة في عام 1967 التي يختار الراوي فيها أن تكون هي النهاية، ويتوقف السرد.

لا تبدو العودة إلى الماضي عند زياد خداش مجرد رصد لتلك الفترة الأثيرة، لكنه يتجاوز ذلك ليطرح عددا من الأسئلة الفلسفية المتعلقة بحياة الناس في فلسطين

 تبدو اللغة عند زياد خداش واحدة من عناصر القوة في النوفيلا (90 صفحة) حيث يتأمل السارد تلك الحياة القديمة بشيء من الشاعرية والحنين من جهة، كما تحضر بعض الطرائف في طريقة تعامله مع أهل ذلك الزمن، لا سيما مع ذلك الجهاز الغريب الذي يحمله (الهاتف الجوال) وكيف يعتبرون أن به جنيا يتكلم! بل ويمتد الأمر به إلى أن يكون سببا من أسباب القبض عليه.

"السفر إلى كعكة القمر" لزياد خداش

هكذا، لا تبدو العودة إلى الماضي عند زياد خداش مجرد رصد لتلك الفترة الأثيرة، ولكنه يتجاوز ذلك ليطرح عددا من الأسئلة الفلسفية المتعلقة بحياة الناس في فلسطين، وعلاقتهم بالأرض والقضية التي سوف تظهر قوية بعد ذلك، سواء في التهجير أو أحلام العودة، كما يضيف توثيقا تاريخيا مهما وتأكيدا لجهود أهل الأرض للتخلص من الاحتلال التي يسعى الكثيرون الى إنكارها أو تجاهلها بعد سنوات.

"لعنة صبي كرات الطين" لمازن معروف

بينما يعود خداش إلى الماضي، فإن الروائي والقاص مازن معروف يعود بنا في هذه الرواية (نوفل، هاشيت أنطوان 2024)  إلى المستقبل، من خلال بطل روايته الطفل الذي يجد نفسه آخر فلسطيني في عام 2048 (ويبدو الاختيار مقصودا بعد مائة عام من النكبة) يعيش مع أخته وجدته ويحاول أن يصنع لنفسه عالما خارقا يتجاوز فيه ظروف عالمه المقبضة ليتمكن من معالجة أخته المريضة.

نتعرف الى ذلك العالم السوداوي الذي يرسمه معروف حيث يفقد الفلسطيني حتى اسم بلاده الذي يتحول إلى "فلاسطا" ويتعايش مع جيران إسرائيليين على اعتبار أنه آخر فلسطيني موجود على الأرض، ليتحول إلى "فرجة" يضعه جاره في صندوق زجاجي ليشاهده الأطفال الآخرون ويتعرفوا الى ذلك الكائن العجيب الذي ينتمي الى زمن سابق، وحيث يفصل بين فلسطين وإسرائيل جدار عازل يحمل مجسات فائقة الحساسية لا تسمح لأي شيء بالتسلل إلى إسرائيل الكبرى التي أصبحت هي "أرض الخيال".

"لعنة صبي كرات الطين" لمازن معروف

 تفترض الرواية أنه تم إطلاق قذيفة بيولوجية عام 2037 قادرة على تحديد الفلسطينيين أينما وجدوا والقضاء عليهم، ولم يتبق في فلسطين إلا الطفل البطل الذي استطاع جسده أن يقاوم تلك القذيفة بل وأن يتوهج بشكل مفاجئ، وكأن طاقة كل الفلسطينيين تحولت إلى جسده، ويتحول هو إلى لاعب يجتمع الأطفال حوله بدهشة وحذر.  

لا تقتصر الرواية على عرض تصوراتها عن حياة "الفلسطيني الأخير"، بل يشير الكاتب من خلال مقاطع الرواية القصيرة المتصلة المنفصلة إلى حياة اليهود كذلك

لا تقتصر الرواية على عرض تصوراتها عن حياة "الفلسطيني الأخير"، بل يشير الكاتب من خلال مقاطع الرواية القصيرة المتصلة المنفصلة إلى حياة اليهود كذلك، وكيف سخروا كل إمكاناتهم لتوفير قدر أكبر من الرفاهية حوّل ممارساتهم الجنسية إلى ألعاب تجمع بين القتل والتعذيب، وهو ما نراه في فصول تحمل أسماء "بورنو" و"رئيف" وعازرا وغيرهم، وتستفيد بأفكار الخيال العلمي المتعلقة بالطاقة واستخدامها في الحروب التنكولوجية وغير ذلك، لكي تعرض صورة شديدة السوداوية والقتامة لمستقبل لا يبدو بعيدا عنّا.

AFP
فلسطينيون نازحون يجمعون كتبا من أنقاض الجامعة الإسلامية لاستخدامها كوقود للطهي في غزة، 21 مارس 2025

هكذا يبدو العالم في الرواية مزيجا بين الواقعي والمتخيل الفانتازي، فالقارئ يكتشف أن المرض الذي تعاني منه أخت البطل هو أنها "بلا مخيلة"، ويحكي عن جدته التي كان يجف الماء في عروقها ليروي شجرة الجوافة بجوارها، والأطفال الذين يراقبون بطل الرواية في مدارس خاصة، كما يتحول الطفل إلى كرة طين متوهجة تكون مصدر إزعاج وقلق، بل إن الأمر يتطور لكي يتمكن ذلك الطفل من استعادة أرواح الفلسطينيين بالفعل، مما يجعلهم يعودون إلى أماكنهم مرة أخرى، وكأن كل تلك المحاولات وكل وسائل التكنولوجيا سوف تبوء بالفشل ويتمكن الفلسطينيون في النهاية من استعادة حقهم ولو من خلال الخيال.

يعرض مازن معروف كل ذلك في مساحة نوفيلا لا تتجاوز الثمانين صفحة، لكنها تجنح بالخيال لتصور ما يمكن أن يتطور إليه ذلك المستقبل مهما بدا الواقع مظلما وكئيبا.  

"واختفى أنف أبي" لخليل ناصيف

في روايتيه السابقتين، لم يتعمد خليل ناصيف أن تكون رواياته عن فلسطين أو القضية الفلسطينية، وهنا في الرواية الثالثة (منشورات إيبيدي، مصر 2025)، يجد القارئ نفسه في حكاية تدور أحداثها في مكان يبعد كثيرا عن فلسطين، ويتنقل في الزمان والأماكن. وإن كانت فلسطين حاضرة، فهذه المرة ليس بقضيتها الكبرى، ولكن بشخصياتها، أبطال الرواية، الذين تتناول الرواية ظروف حياتهم ومعاناتهم الشخصية، حتى بعد أن بعدت بينهم وبين فلسطين المسافات.

"واختفى أنف أبي" لخليل ناصيف

 تبدأ الرواية من طائرة في مطار جورجيا تسقط بالقرب من الحدود التركية، هناك نتعرف بشكل عام الى بعض شخصيات الرواية، الفتاة بتول أبو رمان وأحد ركاب الطائرة واسمه كمال، ينجوان من حادث سقوط الطائرة، ويمكثان يوما في أحد المستشفيات، ليعود بنا السارد إلى عام 2019 حيث بداية حكاية بتول في نابلس وعلاقتها التي تبدو مضطربة مع والدها أثناء زيارة قبره، ثم تعود بذكرياتها إلى تفاصيل حياتها هناك.

هكذا استطاع خليل ناصيف أن يعرض وجها آخر للسردية الفلسطينية يبدو أشد اختلافا وتركيزا على الجوانب الإنسانية والفردية

تواجه بتول العديد من المشكلات مع عائلتها، حيث أب مستبد رغم كونه من أثرياء قريتهم، إلا أن كل ما يفكر فيه داخل بيته هو إشباع رغباته الجنسية، وأم مقهورة تمتثل لأوامره وتحاول الاستعانة بالمشايخ والمشعوذين للخلاص منه دون جدوى.  لا تتمكن البنت ولا أمها من الخلاص منه إلا عند موته، وحينها تلجأ بتول إلى واحد من العرافين السامريين لكي يتنبأ لها بمستقبلها، فإذا بها تقع في فخ تلك النبوءة.

ينتقل السرد إلى كمال الدباغ لنتعرف اليه والى حياته في نابلس، حيث يدرّس اللغة الإنكليزية، يواجه فجأة اتهاما بالتحرش بإحدى تلميذاته فيتم فصله، حيث تتحول تلك الحادثة إلى فرصة لتغيير نمط حياته، وتجربة علاقات ومعارف جديدة. يعمل كمال نادلا في مطعم، ثم يقرر السفر للبحث عن حياة في بلاد لا يعرفه فيها أحد، ويجد لنفسه ملاذا في عالم صفحات التواصل الاجتماعي، فينشئ صفحة باسم مستعار، ويتبادل مع عدد من الأصدقاء أخبار عوالم القراءة والكتب والروايات.

AFP
طفل يلعب بالحبل في مخيم مؤقت للنازحين داخل مدرسة للأونروا في خان يونس، 30 سبتمبر 2025

 عالمان لا يبدو أنهما سيتقاطعان، ولكن مفاجأة في نهاية الرواية تجمع بين بتول وكمال، مثلما كان لقاؤهما مصادفة على متن الطائرة. عالم تحفه الأسرار والخبايا، بين السحر والمشعوذين وأسرارهم، وبين عقد الطفولة ومشكلاتها النفسية تدور الرواية، ومن خلال فصول قصيرة نتعرف الى عالم مختلف ورؤية مغايرة للواقع الفلسطيني، الذي يرزخ تحت العادات والتقاليد المختلفة التي تعيق كل تقدم، حتى مع محاولات الهرب المستمرة.

هكذا استطاع خليل ناصيف أن يعرض وجها آخر للسردية الفلسطينية يبدو أشد اختلافا وتركيزا على الجوانب الإنسانية والفردية والمشكلات داخل المجتمع الفلسطيني، وأن يلقي الضوء على جوانب أخرى من حياة الفلسطينيين ربما يبدو مسكوتا عنه بصفة عامة، فإذا بنا نتعرف الى مأساة بتول وكمال، وصراعاتهما المستمرة من أجل الحياة ومحاولاتهما الدؤوبة للتغيير. من جهة أخرى يتعرض الكاتب إلى عالم مختلف يسمى "جماعة السامرية" التي يصدّر الرواية بالتعريف بهم وبمهارتهم في أعمال السحر والشعوذة، وأن هناك الكثير من الناس ما زالوا يؤمنون بقدراتهم الخاصة تلك حتى اليوم.

font change