المسيرات الانتحارية الأميركية... للردع أم الحسم؟

كاميكازي أميركي

AFP
AFP
جنود مشاة البحرية الأميركية يحملون طائرة بدون طيار في معسكر مؤقت خلال التدريب العسكري المشترك السنوي بين الولايات المتحدة والفلبين

المسيرات الانتحارية الأميركية... للردع أم الحسم؟

في خطوة تعكس تسارع سباق التسلح في مجال الطائرات المسيرة وتحولها إلى ركيزة أساسية في الحروب الحديثة، أعلن الجيش الأميركي قبل أيام تأسيس أول قوة مهام مخصصة لسرب طائرات مسيرة هجومية أحادية الاتجاه يتمركز في الشرق الأوسط. تأتي هذه القوة الجديدة، التي تحمل اسم "سكوربيون سترايك" كجزء من توجه أميركي لتوسيع قدرات الجيش في مجال المسيرات المنخفضة التكلفة، بعد أربعة أشهر من أمر مباشر أصدره وزير الحرب بيت هيغسيث أن واشنطن لم تعد تتحدث بلغة تقليدية واحدة في إدارة المواجهات العسكرية، بل باتت تتقن ازدواجية الردع بين السلاح الثقيل العالي التكلفة، والسلاح الخفيف المنخفض التكلفة لتسريع تطوير هذه التكنولوجيا في ساحات القتال ونشرها.

وبحسب القيادة المركزية الأميركية، صممت قوة المهام الجديدة لتوفير حلول سريعة وفعالة لوحدات القتال، عبر طائرات هجومية صغيرة، رخيصة نسبيا، وقادرة على العمل الذاتي. وقد تمكنت "سكوربيون سترايك" بالفعل من تشكيل سرب أولي من مسيرات "لوكاس"، وهو طراز هجومي يتمركز حاليا في الشرق الأوسط، ويعد جزءا من استراتيجيا تعتمد على زيادة عدد المسيرات على حساب تكلفتها، لمواجهة التهديدات المتزايدة في المنطقة.

تتميز تلك المسيرات بمدى طيران واسع وقدرتها على العمل بشكل مستقل اعتمادا على الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستشعار، دون الحاجة إلى تدخل بشري مباشر. ويمكن إطلاقها عبر آليات عدة، من بينها المنجنيق والمقلاع، أو الإقلاع بمساعدة الصواريخ، أو من منصات أرضية ومركبات متنقلة، مما يمنحها مرونة عالية في الانتشار.

يأتي نشر هذا السرب في الشرق الأوسط بعد نحو عامين من الهجوم الذي قتل فيه ثلاثة جنود أميركيين في الأردن نتيجة استهدافهم بمسيرة إيرانية. ويخطط الجيش الأميركي، وفق رؤيته الاستراتيجية، لتزويد جميع وحداته مسيرات هجومية صغيرة أحادية الاتجاه في حلول نهاية السنة المالية 2026، في إطار تحول واسع نحو "عسكرة الذكاء الاصطناعي" والاعتماد على الطائرات غير المأهولة في المعارك المستقبلية.

هندسة عكسية

دخلت الولايات المتحدة مرحلة جديدة من حروب الطائرات المسيرة، عبر نشر أسطول من الطائرات الهجومية المنخفضة التكلفة المصممة على غرار المسيرة الإيرانية الشهيرة "شاهد-136". ففي مطلع ديسمبر/كانون الأول، أعلنت القيادة المركزية الأميركية تشكيل إطلاق أنظمة "لوكاس" التي تعد ذخائر جوالة أحادية الاستخدام، موجهة للطيران الذاتي وتنتشر بكثافة وبتكلفة زهيدة.

على عكس الطائرات الأميركية المتقدمة مثل "أم كيو- 9"، التي تبلغ تكلفة الواحدة منها نحو 30 مليون دولار، يقارب سعر مسيرات "لوكاس" 35 ألف دولار فقط، أي قريبا من تكلفة "شاهد-136".

هذا الفارق الضخم يتيح لواشنطن خوض نمط جديد من الحرب يمكنها فيه تحمل خسائر أكبر والرد بطريقة متوازنة التكلفة على الهجمات الإيرانية، من دون المجازفة بمنصات باهظة الثمن تعد أساسية للمهام الاستخبارية والضربات الدقيقة.

يعكس هذا التحول أيضا خطوة نادرة تتبنى فيها الولايات المتحدة نهجا اعتمدته إيران وروسيا في السنوات الأخيرة الذي يعتمد على الحرب بالمسيرات الرخيصة القابلة للاستهلاك، القادرة على إغراق دفاعات الخصم بعددها الضخم وليس بتفوقها التكنولوجي.

يبدو أن واشنطن لم تعد تتحدث بلغة تقليدية واحدة في إدارة المواجهات العسكرية، بل باتت تتقن ازدواجية الردع بين السلاح الثقيل العالي التكلفة، والسلاح الخفيف المنخفض التكلفة

منذ ثمانينيات القرن الماضي اعتمدت إيران على استنساخ تقنيات عسكرية أميركية حصلت عليها من عهد الشاه أو من السوق السوداء أو من غنائم الحروب، فأنتجت صاروخ "طوفان"، وصاروخ "فاروق- 90" المبني على تقنيات أميركية. كما طورت أسطولا من المسيرات الشبحية بعد استيلائها على الطائرة الأميركية "أر كيو- 170"عام 2011. لكن هذه المرة انعكست المعادلة، إذ قامت الشركات الأميركية بتحليل نسخة تالفة من مسيرة شاهد-136 حصلت عليها واشنطن سابقا، واستفادت من دروسها الهندسية في تطوير نظام "لوكاس" الجديد.

ورغم تقديم "شاهد" كمنتج إيراني خالص، يؤكد الخبراء أن بنيتها تعج بمكونات غربية، بينها رقائق ملاحة أميركية، مما يعني أن الولايات المتحدة كانت تقيم تقنياتها داخل هيكل إيراني الصنع. ويشير محللون، منهم بول إيدون في "فوربس"، إلى أن الشرق الأوسط لطالما كان ساحة للهندسة العكسية وإعادة توظيف الذخائر المصادرة، وهي حلقة تتواصل اليوم مع تقارير عن نقل روسيا صواريخ "جافلين" الأميركية التي استولت عليها في أوكرانيا إلى إيران للدراسة.

AFP
قاعدة فورت براغ العسكرية الأميركية

ومع دخول "لوكاس" الخدمة يبدو أن واشنطن مستعدة الآن لمنافسة إيران في ميدان المسيرات المنخفضة التكلفة الذي أسهمت طهران في رسم قواعده، في رسالة تكنولوجية واضحة بأن مستقبل الحرب يتجه نحو الأنظمة الرخيصة القابلة للتصنيع السريع، لا المنصات المتطورة وحدها.

فاليوم، يبدو أن واشنطن لم تعد تتحدث بلغة تقليدية واحدة في إدارة المواجهات العسكرية، بل باتت تتقن ازدواجية الردع بين السلاح الثقيل العالي التكلفة، والسلاح الخفيف المنخفض الكلفة. فمن جهة، لا تزال الولايات المتحدة تعتمد على أحدث المنظومات القتالية المتطورة من مقاتلات شبحية، وأنظمة دفاع جوي، وأساطيل بحرية لضمان ردع الدول الكبرى التي تمتلك بدورها جيوشا نظامية ومنظومات استراتيجية متقدمة. هذا هو منطق الردع التقليدي الذي يقوم على مراكمة القوة النوعية، مهما بلغت تكلفتها بمليارات الدولارات.

لكن في المقابل، ومع تغير طبيعة التهديدات، وازدياد دور الميليشيات المسلحة والفاعلين من غير الدول، دخلت واشنطن مرحلة جديدة من التفكير العسكري البراغماتي، قوامه مواجهة السلاح الرخيص بسلاح أرخص، والكم بالكم. فعندما تصبح أداة الخصم هي المسيرات الانتحارية المنخفضة التكلفة، والمستخدمة بأعداد كبيرة في حرب استنزاف مرهقة، يصبح من غير المنطقي مواجهة هذا التهديد بصواريخ اعتراضية باهظة أو منظومات ثقيلة مصممة لحروب الدول الكبرى.

من هنا يمكن فهم التحول الأميركي نحو نشر مسيرات انتحارية في الشرق الأوسط، ليس فقط كأداة هجومية، بل كجزء من معادلة توازن جديدة تقوم على الردع المنخفض التكلفة، والاستجابة السريعة، والقدرة على خوض معركة الاستنزاف دون التورط في نزيف مالي مفتوح. إنها لغة عسكرية مختلفة، تعكس تحولا في عقيدة المواجهة الأميركية مع خصوم غير تقليديين لا يلعبون وفق قواعد الحروب الكلاسيكية.

كاميكازي أميركي

خلال الحرب العالمية الثانية؛ قام الطيارون اليابانيون باستخدام طائراتهم كرؤوس حربية مباشرة تنفجر في تحصينات العدو. وتنتمي المسيرات التي تم نشرها إلى فئة الهجوم أحادي الاتجاه، أي أنها تطلق لتنفيذ مهمة واحدة فقط تنتهي بانفجارها في الهدف مباشرة تماما مثلما كان يفعل الطيار الياباني قديما، لكن الفارق أن المسيرة آلية بشكل كامل ومصممة لتنفيذ ضربات دقيقة ضد أهداف ثابتة ومتحركة مثل منصات إطلاق صواريخ، تجمعات عسكرية، عربات مدرعة خفيفة، أو أنظمة رصد ودفاع جوي. وتتميز هذه المسيرات بصغر حجمها نسبيا، وانخفاض بصمتها الرادارية، وقدرتها على الطيران لمسافات طويلة بسرعات متوسطة، مما يجعل اعتراضها أكثر صعوبة، مقارنة بالطائرات التقليدية.

ومن الناحية التشغيلية، تتميز هذه المسيرات بإمكان إطلاقها من منصات متعددة، سواء من قواعد أرضية ثابتة، أو من مركبات متحركة، أو باستخدام أنظمة دفع صاروخي مساعد عند الإقلاع، مما يمنح القوات الأميركية مرونة عالية في توزيعها ميدانيا. كما تعتمد على أنظمة ملاحة تجمع بين القصور الذاتي وتحديد المواقع، مما يسمح لها بالتحليق الذاتي لمسافات بعيدة دون الحاجة إلى تحكم مباشر مستمر، مع إمكان التدخل البشري في المراحل النهائية من الهجوم عند الحاجة. وتحمل هذه المسيرات رؤوسا حربية شديدة الانفجار قادرة على إحداث أضرار كبيرة في الأهداف العسكرية الحساسة رغم صغر حجمها.

كشفت هذه الدراسات أن قوة "شاهد-136" لا تكمن في تعقيدها التقني، بل في معادلتها البسيطة والفعالة

وبحسب التقديرات العسكرية، فإن الميزة الأهم في هذه المسيرات تكمن في تكلفتها المنخفضة مقارنة بالصواريخ الدقيقة أو الطائرات المأهولة، وهو ما يسمح باستخدامها بأعداد كبيرة في هجمات متزامنة تهدف إلى إنهاك الدفاعات الجوية للخصم عبر إغراقها بعدد كبير من الأهداف في وقت واحد. وتؤكد واشنطن أن هذا الانتشار لا يأتي في إطار تصعيد مباشر بقدر ما يندرج ضمن تغيير قواعد الاشتباك، بحيث تتمكن القوات الأميركية من الرد السريع والمنخفض التكلفة على أي تهديد يستهدف قواعدها أو مصالحها في المنطقة.

ويأتي هذا التطور في ظل تصاعد غير مسبوق في استخدام الطائرات المسيرة كسلاح رئيس في المنطقة، سواء من الحوثيين في اليمن، أو الفصائل المسلحة في العراق وسوريا، أو ضمن منظومة الرد غير المباشر التي تديرها إيران. وهو ما دفع واشنطن إلى الانتقال من موقع الدفاع باستخدام منظومات اعتراض باهظة الثمن، إلى موقع الهجوم الوقائي باستخدام أدوات رخيصة قادرة على تنفيذ ضربات دقيقة واستباقية وبتكلفة محدودة.

استنساخ "شاهد" الإيرانية

في قلب هذا التحول تقف الطائرة المسيرة الإيرانية "شاهد- 136" بوصفها النموذج الأوضح للحرب المنخفضة الكلفة العالية التأثير. هذه المسيرة، التي يبلغ طولها نحو ٣.٥ أمتار ويصل باع جناحيها إلى قرابة ٢.٥ متر، ووزنها عند الإقلاع ما بين ٢٠٠ و ٢٤٠ كيلوغراما، تحولت من أداة تكتيكية محدودة إلى عنصر ضغط استراتيجي واسع التأثير. فبعد أن ظهرت بقوة في الحرب الأوكرانية، تمددت لاحقا إلى ساحات الشرق الأوسط عبر الحوثيين والفصائل المسلحة في العراق وسوريا، لتصبح أحد أعمدة استراتيجية الاستنزاف الإيرانية ضد خصومها. وبفضل بساطتها ورخصها وإمكان إطلاقها بأعداد كبيرة، نجحت "شاهد" في نقل المواجهة من مستوى الضربات المحدودة إلى مستوى الاستنزاف الطويل الأمد.

وخلال السنوات الماضية، لم تتعامل الولايات المتحدة مع "شاهد-١٣٦" بوصفها مجرد هدف يجب اعتراضه فقط، بل كنموذج تقني يجب تفكيكه وفهمه من الداخل. ففي أكثر من مسرح عمليات، عثرت القوات الأميركية وحلفاؤها على طائرات "شاهد" بحالة شبه سليمة، مما أتاح إخضاعها لفحص هندسي وتقني شامل داخل مراكز الأبحاث العسكرية. شملت هذه الدراسات أنظمة الدفع، والملاحة، ودوائر التوجيه، ومواد التصنيع خفيفة الوزن، وآليات الإطلاق البدائية، بهدف فهم الكيفية التي نجحت فيها هذه الطائرة الرخيصة في إرباك أنظمة دفاع جوي تعد من بين الأكثر تطورا في العالم.

وكشفت هذه الدراسات أن قوة "شاهد-١٣٦" لا تكمن في تعقيدها التقني، بل في معادلتها البسيطة والفعالة. فهي تمتلك مدى تحليق طويل يتراوح بين ١٠٠٠ و ٢٥٠٠ كيلومتر حسب الحمولة، وتعمل بسرعة متوسطة تتراوح بين ١٦٠ و١٩٠ كيلومترا في الساعة، بمحرك احتراق داخلي بسيط قليل الأعطال. وتدار عبر نظام توجيه يجمع بين القصور الذاتي ونظام الملاحة عبر الأقمار الصناعية، مما يسمح لها بالوصول إلى أهداف بعيدة دون توجيه مباشر مستمر. كما تحمل رأسا حربيا يزن ما بين 30 و50 كيلوغراما من المواد الشديدة الانفجار، وهو كاف لتدمير رادارات، ومنشآت عسكرية، وعربات مدرعة خفيفة. هذا المزيج بين المدى، والحمولة، والرخص، والبصمة الرادارية المنخفضة الناتجة من تصميم جناح "دلتا"، جعل من "شاهد" سلاحا مثاليا لحرب الإغراق العددي، حيث تكون تكلفة الهجوم دائما أقل بكثير من تكلفة الاعتراض.

AFP
طائرة هجومية بدون طيار عالية السرعة، طورها معهد تشونغ شان الوطني للعلوم والتكنولوجيا

ومن هنا، لم تعد واشنطن تكتفي بسياسة الدفاع المكلف ضد هذا النوع من التهديد، بل انتقلت إلى مرحلة استيعاب الفكرة نفسها وإعادة إنتاجها بصورة أميركية، قائمة على الفلسفة ذاتها: سلاح رخيص، سريع الإنتاج، قابل للاستخدام بأعداد كبيرة، وقادر على فرض معادلة ردع جديدة في مواجهة خصوم غير تقليديين يعتمدون على منطق الاستنزاف بدل المواجهة المباشرة.

ليست مصادفة

قد يبدو نشر المسيرات الانتحارية الأميركية في الشرق الأوسط مجرد رسالة ردع مباشرة لإيران ووكلائها، وهو تفسير منطقي في ظل التصعيد المستمر في المنطقة. لكن النظرة الأشمل تكشف أن هذا التحرك جزء من "استراتيجيا أميركية واسعة" تتجاوز الإقليم، وتهدف إلى إعادة بناء التفوق الأميركي في مجال المسيرات الرخيصة، والكثيفة، والسريعة الإنتاج، وهي الأدوات التي باتت تشكل العمود الفقري لحروب الاستنزاف والصراعات العالية الكثافة في القرن الحادي والعشرين.

يعود أصل هذا التحول إلى برنامج "ريبيليكاتور" الذي أطلقته وزارة الدفاع الأميركية في أغسطس/آب 2023، بهدف تصنيع ونشر آلاف المسيرات المنخفضة التكلفة خلال 18 إلى 24 شهرا. يقوم البرنامج على فلسفة واضحة تتمثل في الانتقال من الاعتماد على منظومات باهظة الثمن قليلة العدد، إلى "قوة قتالية قائمة على الحجم وسرعة التعويض وقابلية الفقد" دون أن يشكل ذلك خسارة استراتيجية تماما كما تفعل الصين وروسيا وإيران في ساحات القتال اليوم.

لا تقضي المسيرات الأميركية على التهديد، لكنها تعيد هندسته عبر رفع تكلفته على الطرف الآخر

وفي هذا السياق، جاء توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 6 يونيو/حزيران على الأمر التنفيذي المعروف بـ"مبادرة الهيمنة الأميركية في مجال الطائرات المسيرة" لتسريع التصنيع وإزالة العقبات البيروقراطية وتوجيه الموارد مباشرة نحو بناء هذا الجيل الجديد من القوة الجوية غير المأهولة. لم يكن القرار إعلانا سياسيا فقط، بل خطوة عملية لفرض واقع ميداني جديد يقوم على ضخ أعداد ضخمة من المسيرات المنخفضة التكلفة داخل القوات الأميركية لرفع القوة النيرانية دون تضخم في النفقات.

ثم جاء في يوليو/تموز توجيه وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث الذي دعا إلى أكبر عملية توسعة لقدرات الأنظمة غير المأهولة في تاريخ الولايات المتحدة، ضمن ما أصبح يعرف باسم "برنامج هيمنة المسيرات". وأشار هيغسيث إلى أن هذا البرنامج الممول بمليارات الدولارات يقوم على فلسفة جديدة في التعاقد والتصنيع، تشجع دخول شركات ناشئة ومهندسين مبتكرين عبر عقود مرنة وتمويل ثابت طويل الأجل، بهدف توسيع القاعدة الصناعية الأميركية للمسيرات.

ويستهدف البرنامج إنتاج أكثر من 300 ألف مسيرة صغيرة في السنوات القليلة المقبلة للتشغيل في بيئات عالية الأخطار، حيث يصبح فقدانها جزءا طبيعيا من التكتيك وليس عبئا سياسيا أو عسكريا. في هذا المعنى، فإن نشر المسيرات الانتحارية الأميركية في الشرق الأوسط ليس سوى "حلقة تنفيذية متقدمة" داخل هذه الاستراتيجيا الكبرى، التي تعكس إصرار إدارة ترمب على تثبيت تفوق أميركي شامل في عصر حروب المسيرات الرخيصة قبل أي شيء آخر.

إعادة هندسة الأخطار

أصبحت واشنطن في الشرق الأوسط تراهن على إدارة الصراع بتكلفة منخفضة أكثر مما تراهن على الحسم العسكري السريع. ويأتي نشر المسيرات الانتحارية الأميركية كجزء دقيق من هذا المنطق، إذ يعكس إدراكا متزايدا بأن المسيرات غيرت شكل المعركة، لكنها لم تمنح أي طرف القدرة على إنهائها. فهي أدوات للاستنزاف والتعطيل وإرسال رسائل ردع محسوبة، لكنها عاجزة وحدها عن فرض تسوية أو إنهاء صراع معقد مثل الصراع مع إيران وشبكتها الواسعة من الوكلاء. وهكذا تضيف واشنطن طبقة جديدة من القوة المنخفضة التكلفة إلى أدواتها، من دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة أو تدخل بري واسع.

يكشف انتشار المسيرات الانتحارية الأميركية عن استراتيجيا تقوم على "الاستنزاف والردع المحدود" بدل الحسم وإعادة رسم خرائط السيطرة

وتظهر تجارب أوكرانيا وغزة أن كثافة المسيرات، مهما بلغت، لا تحسم الحروب، لأن الحسم الحقيقي يمر عبر السيطرة البرية على الأرض. وقد تهيمن الولايات المتحدة جوا عبر منظومات متقدمة من المسيرات الهجومية والانتحارية، لكنها لا تملك ولا ترغب في امتلاك قوات برية تمسك الميدان في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان. في المقابل، تعتمد إيران على فاعلين محليين يمسكون بالأرض يوميا، ويتحكمون بالمجتمعات ويديرون شبكات النفوذ. هنا يتجلى التناقض الاستراتيجي: واشنطن تدير الحرب من السماء، وطهران تديرها من الأرض، مما يعني أن الصراع سيدار طويلا بدل أن يحسم.

وعمليا، لا تقضي المسيرات الأميركية على التهديد، لكنها تعيد هندسته عبر رفع تكلفته على الطرف الآخر. فهي لا تمنع الهجمات تماما، لكنها تجعل تنفيذها أكثر صعوبة وتكلفة من حيث الموارد والوقت والخسائر. وتظهر تجربة أوكرانيا التي تحولت إلى مختبر مفتوح لحروب المسيرات، أن امتلاك آلاف المسيرات لم يمنع الصواريخ والمسيرات المعادية من الوصول، لكنه أجبر المهاجم على العمل في بيئة شديدة الخطورة والضغط.

وفي الشرق الأوسط، تعمل المسيرات الأميركية بالمنطق ذاته، فهي تزيد عبء الحوثيين عبر استهداف منصات الإطلاق فور رصدها، مما يضطرهم إلى نقلها وإخفائها باستمرار، ويستنزف قدرتهم البشرية واللوجستية. وتضغط على "حزب الله" عبر استهداف خطوط الإمداد ومخازن السلاح والبنية اللوجستية، بحيث تتحول كل عملية نقل أو تجهيز إلى مخاطرة حقيقية. وفي العراق، تربك الميليشيات عبر ملاحقة قادتها واستهداف مراكز القيادة وإضعاف شبكات الاتصال، مما يجبرها على العمل تحت ضغط دائم ومستمر.

AFP
جنود مشاة البحرية الأميركية يحملون طائرة بدون طيار في معسكر مؤقت خلال التدريب العسكري المشترك السنوي بين الولايات المتحدة والفلبين

إلى جانب الأثر العسكري، تفرض المسيرات بعدا نفسيا جديدا في معادلة الصراع. فوجود "عين دائمة في السماء" وسلاح قادر على الضرب في أي لحظة، يدفع المجموعات المسلحة إلى تغيير أنماط تحركها، والتخفي، والعمل تحت الأرض أو وسط التجمعات المدنية. وهو ما ينتج "حالة رعب مسيرات" تقيد الحركة وتربك الحسابات، لكنها لا تكفي لتفكيك هذه التنظيمات أو إنهاء نفوذها. فواشنطن لا تستهدف القضاء عليها، بل احتواءها ومنعها من بلوغ مستوى تهديد تعتبره خطا أحمر.

وفي النهاية، يكشف انتشار المسيرات الانتحارية الأميركية عن استراتيجيا تقوم على "الاستنزاف والردع المحدود" بدل الحسم وإعادة رسم خرائط السيطرة. فهي تمنح واشنطن أداة فعالة لإدارة الاشتباك مع إيران ووكلائها بتكاليف منخفضة، لكنها لا تغير الحقيقة الجوهرية لأي صراع طويل: "من يسيطر على الأرض هو من يملك مفاتيح الحسم"، وهكذا تبقى المسيرات عنصر ضغط مهما في معركة مفتوحة، لكنها لا تكتب سطرها الأخير.

font change