"جدار المسيرات"... مشروع أوروبي أم وهم بيروقراطي؟https://www.majalla.com/node/327758/%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85-%D9%88%D8%AA%D9%83%D9%86%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7/%D8%AC%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D8%A3%D9%85-%D9%88%D9%87%D9%85-%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%9F
خلال الأسابيع الماضية شهدت أوروبا تكرارا لحالات اختراق جوي بطائرات صغيرة مسيرة، مما أثار موجة قلق على مستوى الحكومات والفضاء المدني. وقد اجتمع زعماء الاتحاد الأوروبي في كوبنهاغن لمناقشة حزمة إجراءات لحماية سماء القارة، وفي قلب هذه المقترحات ظهرت فكرة سميت إعلاميا وديبلوماسيا بـ"جدار الطائرات الدرون" أو ببساطة "جدار الدرون".
عقد الاجتماع الرسمي في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن في نهاية سبتمبر/أيلول 2025 ولم يكن مجرد لقاء بروتوكولي عابر، بل شكل حدثا سياسيا وأمنيا استحوذ على اهتمام واسع داخل أوروبا وخارجها. فالتوقيت لم يكن عاديا، إذ جاء بعد سلسلة من الحوادث المقلقة التي شهدت اختراقات متكررة للمجال الجوي الأوروبي بطائرات مسيرة مجهولة المصدر، وصلت في بعض الحالات إلى مناطق حساسة في شمال بولندا وعلى مقربة من حدود دول البلطيق. تلك الحوادث، التي وصفت في الإعلام الأوروبي بأنها "جرس إنذار متأخر"، دفعت القادة إلى الإسراع في مناقشة فكرة إنشاء "جدار الدرون الأوروبي" كوسيلة لحماية سماء القارة.
وخلال الأسابيع السابقة للاجتماع، كانت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، قد أشعلت الجدل بخطابها السنوي عن حالة الاتحاد الذي ألقته في 11 سبتمبر/أيلول 2025 أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ. ففي ذلك الخطاب، طرحت فون دير لاين فكرة مثيرة للجدل تتعلق بناء حائط دفاعي متعدد الطبقات ضد الطائرات المسيرة، يجمع بين الرادارات وأنظمة التشويش والليزر وأنظمة الاعتراض الإلكتروني.
وجاء هذا الطرح ضمن إطار أوسع تحاول فيه أوروبا تعزيز دفاعاتها أمام ما تصفه بـ"الحرب الهجينة" التي تشنها روسيا منذ الغزو الأوكراني، والتي توسعت أدواتها في الشهور الأخيرة لتشمل هجمات سيبرانية وتوغلات بطائرات مسيرة داخل أجواء دول أوروبية مثل إستونيا، وبولندا، ورومانيا، وحتى الدنمارك نفسها.
لكن، وكما يحدث كثيرا في المشاريع الأوروبية الطموحة، اصطدمت الفكرة منذ اللحظة الأولى بجدار آخر من نوع مختلف، جدار الخلافات البيروقراطية والسياسية. فبينما رأت بعض الدول – وفي مقدمها بولندا ودول البلطيق – أن المشروع ضروري بل وملح، اعتبرته دول أخرى مثل فرنسا وإسبانيا أقرب إلى الخيال العسكري منه إلى الخطة الواقعية. السبب بسيط، لا توجد بعد رؤية موحدة لكيفية التنفيذ، ولا اتفاق حول الجهة التي ستدير المنظومة، ولا حتى تصور واضح عن كيفية تقاسم التمويل. الاتحاد الأوروبي – رغم وحدته الشكلية – لا يزال يواجه صعوبة في تنسيق الدفاعات الجوية المشتركة بين أعضائه، وهو ما يجعل الفكرة تبدو حتى الآن أقرب إلى "شعار سياسي" أكثر منها مشروعا عسكريا جاهزا للتطبيق.
رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تلقي خطابها السنوي عن حالة الاتحاد خلال جلسة عامة في البرلمان الأوروبي
وللمقارنة، يكفي النظر إلى المشروع الأميركي، "القبة الذهبية"، الذي أعلنه الرئيس دونالد ترمب في يناير/كانون الثاني الماضي. فبينما خرجت فكرة الجدار الأوروبي في شكل تصريح عابر من منصة خطابية، جاءت "القبة الذهبية" نتيجة سلسلة خطوات منظمة. في البداية من إعلان رسمي للفكرة في يناير/كانون الثاني، مرورا بتحديد الإطار التصميمي والتقني في مايو/أيار، وصولا إلى إعلان التمويل والمكتب التنفيذي المسؤول في يوليو/تموز. كل مرحلة بنيت على ما قبلها ضمن خطة متكاملة تقودها وزارة الدفاع الأميركية بالتعاون مع شركات صناعات دفاعية كبرى.
رغم أن نص خطة "حائط المسيرات" لم ينشر رسميا بعد، فإن التصور العام الذي يدور في الأروقة الأوروبية يستند إلى تراكم طويل من خبرات ميدانية وتقنية وسياسية، لا إلى فكرة لحظية ألقيت من منبر
أما أوروبا، فلا تزال في مرحلة تبادل المذكرات والتصريحات، دون خطة زمنية أو هندسية أو مالية واضحة. حتى على المستوى الرمزي، لم تتفق الدول بعد على من سيتولى القيادة السياسية للمشروع. وهنا يكمن الفرق الجوهري بين "طرح مدروس" و"رد فعل متعجل".
وبينما يزداد الحديث عن الجدار الأوروبي كرمز لتوحيد الدفاع الأوروبي في مواجهة التهديدات الروسية، تبدو موسكو – على الأرجح – تتابع هذه التطورات بابتسامة ساخرة. فمن منظور الكرملين، لا يزال الاتحاد الأوروبي يواجه صعوبة في تنسيق دفاعاته أو صوغ رد جماعي متماسك على الحرب الهجينة، التي تتجاوز حدود الأسلحة إلى ساحات الاقتصاد والمعلومات والطاقة. ومع كل تأخير أو تردد أوروبي، تزداد ثقة موسكو في أن خصومها في الغرب لا يزالون يعانون من انقسام بنيوي بين الحلم والوحدة من جهة، والواقع السياسي والعسكري من جهة أخرى.
حائط الصد
رغم أن نص خطة "حائط المسيرات" لم ينشر رسميا بعد، فإن التصور العام الذي يدور في الأروقة الأوروبية يستند إلى تراكم طويل من خبرات ميدانية وتقنية وسياسية، لا إلى فكرة لحظية ألقيت من منبر. فقد عملت ساحات القتال في أوكرانيا كمختبر عملي صارخ للأدوات والتكتيكات المرتبطة بالطائرات المسيرة مثل أساليب الإطلاق الجماعي، وتنويع منصات الطيران من الأرخص إلى الأكثر تعقيدا، وإمكانات إحداث أضرار كبيرة بوسائل زهيدة الثمن. هذا الخلفية الميدانية لم تكتف بكشف نقاط الضعف، بل أظهرت أيضا أين يجب تحسين زمن الكشف، وكيف يمكن لتكامل الحساسات أن يمنح مراكز القيادة "بصيرة مبكرة" تعادل فرق الثمن الكبرى في الترسانة التقليدية.
استقي التصور الأوروبي كذلك عبر مقارنة واعية مع حلول قائمة. لم تنسخ أنظمة جاهزة حرفيا، بل استلهمت منها مبادئ عامة مثل فكرة طبقات الدفاع التي تستبدل الاعتماد على سلاح واحد باعتماد شبكة من الأدوات المتكاملة، واستخدام وسائل اعتراض لا تتطلب بالضرورة ذخائر باهظة الثمن. في هذه المقاربة تبرز الفروق الإقليمية، فأوروبا لا تشبه سهلا واحدا أو مساحة رملية مفتوحة، بل هي فسيفساء من ساحات حضرية، وسواحل طويلة، ومناطق حدودية متقاربة، لذا فإن الحل القاري يجب أن يكون موزعا ومرنا أكثر منه أحادي المركز.
من الناحية التقنية، يتصور المخطط طبقات متداخلة تبدأ بطبقة الكشف المبكر التي تعتمد على رادارات متعددة التردد، وحساسات راديوية سلبية تلتقط إشارات التحكم، وكاميرات بصرية وحرارية متصلة بشبكة مركزية. هذه الطبقة ليست مجرد معدات تنصب، بل منظومة برمجية متقدمة قادرة على تصفية "الضجيج" البيئي والتفرقة بين طائر أليف أو طائرة شراعية ومدى اختراق تشكيل مسير صغير. هنا يأتي دور الخوارزميات التي تتعلم من أنماط الطيران وتحدد المؤشرات الدقيقة التي تميز الهجمات المنسقة عن الحوادث المدنية العفوية.
ويلعب الذكاء الاصطناعي دور المنسق العصبي لهذه الشبكة، فهو الذي يجمع البيانات من مصادر متعددة، يصفيها، ويقدم استنتاجات فورية عن مستوى الخطر وتوصيات العمل—التوصيات التي قد تتراوح بين مراقبة المسار، وتفعيل التشويش المحدود، وإذن لوسائل اعتراض مادي محددة. الفكرة ليست إلغاء القرار البشري، بل منح القادة وقتا ومساحة قرار أفضل. بالطبع هناك مخاطرة حقيقية في الاعتماد الزائد على خوارزميات قد تتعلم من أنماط خاطئة أو تسيء تفسير سلوك غير مألوف، وبالتالي فإن آليات الشفافية والتدقيق والتدرب العملي تبقى حجر الأساس.
ثمة متغير سياسي لا يقل أهمية عن المتغير التقني، فقدرة الدول الأعضاء على الانسجام سياسيا وماليا متباينة
وتعد طبقة التشويش والحرب الإلكترونية الوسيلة الأولى المفضلة لأسباب عملية وقانونية. فالتشويش أو "خداع" أنظمة الملاحة، يمكن أن يقطع علاقة المشغل بالجهاز أو يجعله يهبط بسلام، وهو خيار أقل تكلفة وأكثر أمانا من إطلاق ذخيرة مدمرة فوق مناطق مأهولة. ومع ذلك، فهذه الوسائل تحمل تبعات فنية وقانونية—فالتشويش قد يتعدى نطاقه ويؤثر على خدمات مدنية، وهناك تساؤلات عن حقوق الاستخدام حين تتداخل الأجواء المدنية والعسكرية في نطاق جغرافي ضيق.
شاشة تُرى خلال مناورة "الثقة البلطيقية 25" العسكرية الدولية لمكافحة الطائرات المسيرة
حين تفشل الوسائل الإلكترونية أو لا تكون مناسبة، تظهر طبقة الاعتراض المادي المقنن التي تتضمن حلولا مبتكرة ومحدودة التأثير مثل منصات شبك آلية تصطاد الطائرات الصغيرة، ومركبات اعتراض دون طيار تقبض على الهدف أو تعطل إلكترونياته، وحتى مدافع قصيرة المدى مخصصة لاعتراض الطائرات الصغيرة.
وبدلا من إنفاق صاروخ مكلف على هدف بوزن كيلوغرامات قليلة، يستخدم أسلوب أقل تكلفة يحافظ على سلامة المدنيين والبنى التحتية. هذا الوهم الرومانسي للقبة السحرية ينهار أمام حقيقة الحساب الاقتصادي، فيجب أن تكون كل رمية أو اعتراض مبررة من حيث التكلفة والنتيجة.
يتطلب تكامل هذه الطبقات أكثر من معدات. إنه يتطلب إطارا مؤسسيا وقانونيا. وناقشت المفوضية الأوروبية، الوكالة الأوروبية للدفاع، ودوائر داخل حلف الناتو لسنوات، ضرورة وجود شبكة مشتركة لربط قدرات الدول الأعضاء، ولكن تحويل الحديث إلى منظومة عملية يتطلب تحديد معايير التشغيل المشتركة، واتفاقات تمويل شفافة، وإطارا قانونيا يحسم مسائل مثل سلطة إطلاق الاعتراض، حماية الخصوصية، ومسؤولية التعويض عند حدوث أخطاء. بالإضافة إلى ذلك، مطلوب ميدانات اختبار وتجارب فعلية—لا يمكن الأنظمة أن تقرر فعاليتها إلا بعد اختبارات في بيئات حضرية وموانئ ومناطق حدودية، وإلا ستبقى الأمثلة النظرية جميلة على الورق ومربكة في الواقع.
من جهة أخرى، ثمة متغير سياسي لا يقل أهمية عن المتغير التقني، فقدرة الدول الأعضاء على الانسجام سياسيا وماليا متباينة. بعض العواصم قد تفضل حلولا وطنية أو ثنائية تحافظ على صناعتها المحلية أو تأثيرها الإستراتيجي، وهو ما قد يطيل زمن التوصل إلى حل قاري. كما أن اعتماد تقنيات من موردين دوليين يثير نقاشات حول سلسلة التوريد والأمن التقني، مما يدفع صناع القرار إلى الموازنة بين السرعة والرغبة في سيادة تقنية على المدى الطويل.
مبادرات سابقة
ليست تلك هي المرة الأولى التي تفكر فيها أوروبا في اتخاذ إجراءات للحد من التهديدات الجوية. ففي عام 2022، ناقشت بعض الدول الأوربية مشروعا لإنشاء منظومة دفاع جوي متكاملة قادرة على حماية أجوائها من التهديدات المتزايدة، خصوصا بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وما رافقها من هجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة على البنية التحتية المدنية والعسكرية، ووُلدت مبادرة الدرع الجوية الأوروبية التي تهدف إلى بناء نظام دفاعي أرضي متعدد الطبقات يغطي القارة الأوروبية ويمتلك قدرة على التصدي للصواريخ الباليستية، في محاولة لتقليص اعتماد أوروبا على المظلة الدفاعية الأميركية داخل حلف الناتو.
وقتها، دعا المستشار الألماني أولاف شولتس، إلى تأسيس درع جوية أوروبية موحدةة بعد تزايد القلق من قدرات روسيا الصاروخية، خاصة منظومات إسكندر 9K720 المنتشرة في منطقة كالينينغراد والموجهة نحو قلب أوروبا. جاءت دعوته في وقت كانت فيه أوروبا تتابع الهجمات الروسية على أوكرانيا بشعور من العجز، فالدفاعات الجوية الأوروبية ظلت مشتتة وضعيفة، وتعتمد على أنظمة وطنية متفرقة لا تعمل ضمن منظومة موحدة.
المشروع لم يحظ بإجماع أوروبي كامل، ففرنسا كانت أبرز الدول المعارضة للمبادرة في صورتها الحالية، معتبرة أنها تعتمد بشكل مفرط على التكنولوجيا الأميركية والإسرائيلية
في أكتوبر/تشرين الاول 2022، استجابت خمس عشرة دولة أوروبية للمبادرة، من بينها ألمانيا وبلجيكا وفنلندا وبريطانيا والنروج وهولندا، ووقعت إعلانًا مشتركا للانضمام إلى المشروع بقيادة برلين، بهدف توحيد جهود الشراء والتطوير لإنشاء شبكة دفاع جوي متكاملة، يمكن أن تعمل بالتوازي مع نظام الدفاع الجوي التابع للناتو. مع مرور الوقت، توسعت المبادرة تدريجيا، فانضمت إليها الدانمارك والسويد في فبراير/شباط 2023، ثم النمسا وسويسرا — وهما دولتان محايدتان تقليديا — في يوليو/تموز من العام نفسه، وهو تطور أثار نقاشا واسعا حول مستقبل سياسة الحياد الأوروبي في ظل تصاعد التهديدات الأمنية. وفي فبراير/شباط 2024، أعلنت ألمانيا انضمام كل من اليونان وتركيا إلى المبادرة، ثم تبعتهما ألبانيا والبرتغال في مطلع 2025، ليصل عدد الدول المشاركة إلى أربع وعشرين دولة حتى الآن.
غير أن المشروع لم يحظ بإجماع أوروبي كامل، ففرنسا كانت أبرز الدول المعارضة للمبادرة في صورتها الحالية، معتبرة أنها تعتمد بشكل مفرط على التكنولوجيا الأميركية والإسرائيلية، مثل نظام "باتريوت" و"آرو-3"، بينما تم تجاهل المنظومة الأوروبية المشتركة SAMP/T الفرنسية الإيطالية. دفعت باريس بهذا الاعتراض إلى تقديم مقترح بديل في منتصف 2023 يدعو لتطوير درع جوية أوروبية تعتمد بالكامل على الصناعة الأوروبية، ودعت بقية الدول إلى إعادة تقييم الخيارات قبل التزام مشروع تقوده برلين. كما لم تنضم بعد كل من إيطاليا وإسبانيا وبولندا رسميا إلى المبادرة، رغم إعلان رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك في أبريل/نيسان 2024 نية بلاده المشاركة في تطوير منظومة دفاعية أوروبية شاملة ضد هجمات الطائرات المسيرة والصواريخ.
في ديسمبر/كانون الاول 2022، عبر المستشار الألماني عن أمله في أن يبدأ تشغيل النظام خلال خمس سنوات، وهو جدول زمني طموح في ضوء التعقيدات الفنية والسياسية. وبعد عام واحد، وتحديدا في يونيو/حزيران 2023، وافق البرلمان الألماني على تخصيص نحو 4 مليارات يورو لشراء منظومة Arrow 3 من إسرائيل، وهو أحد أكبر العقود الدفاعية في تاريخ ألمانيا الحديث. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، تم توقيع العقد رسميا، لتبدأ في فبراير/شباط 2025 أعمال بناء وتطوير المنظومة داخل الأراضي الألمانية. من المقرر أن يتم تشغيل القدرات الأولية للنظام خلال العام نفسه، على أن تكتمل قدراته التشغيلية الكاملة بحلول عام 2030، مما يجعل ESSI أحد أكثر المشاريع الدفاعية طموحا في تاريخ أوروبا الحديثة.
ورغم هذا الزخم، فإن التحديات أمام المشروع لا تزال كبيرة. فهناك تساؤلات حقيقية حول كيفية تمويل المراحل اللاحقة، وآليات التنسيق بين الأنظمة المختلفة ذات المنشأ المتعدد — الأميركي والألماني والإسرائيلي — فضلًا عن الموقف الفرنسي الذي يُضعف إمكان الوصول إلى إجماع سياسي أوروبي شامل. كذلك، لا تزال بعض الدول تتعامل بحذر مع فكرة ربط أنظمتها الوطنية بمنظومة موحدة، خشية فقدان السيطرة السيادية على قرارات الدفاع الجوي.
فكرة دون مسار
أما في المشروع الجديد، ورغم اتفاق الأوروبيين على المبدأ العام وضرورة بناء دفاع منسق ضد الطائرات المسيرة التي أصبحت سلاحا مفضلا في الحروب الحديثة — فإن الواقع السياسي يكشف عن انقسامات واضحة في الرؤى، سواء حول آليات التنفيذ أو مصادر التمويل أو حتى دور الاتحاد الأوروبي نفسه في المشروع. فبينما يسود إجماع خطابي على "الخطر"، لا يوجد بعد إجماع على "الرد".
في القمة الأوروبية التي انعقدت في كوبنهاغن أواخر سبتمبر/أيلول 2025، برزت التباينات بشكل علني في تصريحات القادة. رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون عبر بوضوح عن موقف بلاده المحافظ، إذ شدد على أن القدرات المضادة للمسيرات يجب أن تبقى مسؤولية وطنية أولا، لا صلاحية تدار مركزيا من بروكسيل. وقال في تصريح لافت إن الاتحاد الأوروبي ليس حلفا عسكريا، ودوره ليس أن يتحول إلى منظمة دفاع، بل أن يتيح التعاون بين الدول التي تبني قدراتها بنفسها أولا. هذا الموقف يعكس تقليدا راسخا في السياسة الدفاعية لدول الشمال، التي تتحفظ دائما عن نقل الصلاحيات الأمنية إلى مؤسسات الاتحاد.
على النقيض تماما، جاءت لهجة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أكثر اندفاعا وطموحا. ففي كلمتها خلال القمة، وصفت الهجمات الجوية المتكررة على أجواء أوروبا بأنها "جزء من تكتيكات الحرب الهجينة" التي تستهدف زعزعة الاستقرار الداخلي، مؤكدة أن الرد الأوروبي يجب أن يكون "سريعا، وموحدا، وقويا" وأعادت تأكيد رؤيتها التي طرحتها في خطابها أمام البرلمان الأوروبي قبل أسابيع، بأن الوقت حان لبناء شبكة دفاع جوي أوروبية موحدة، قادرة على التعامل مع تهديدات الدرونز والهجمات السيبرانية في آن واحد.
وراء هذا التباين الزمني تقف خلافات أعمق حول التمويل، وهي المسألة التي كثيرا ما تعيق المشاريع الأوروبية الكبرى.
أما ميت فريدريكسن، رئيسة وزراء الدانمارك، فقد حاولت التوفيق بين الطرفين، مؤكدة في تصريحاتها أن الخلافات ليست بين الشرق والغرب كما يصور أحيانا، بل بين من يريد الإسراع في التنفيذ ومن يدعو الى التريث. وقالت: "لا يوجد تعارض بين الشرق والغرب في هذا الملف، بل هناك دعم واسع للمبادرة". وقد جاءت تصريحات فريدريكسن لتؤكد حرص كوبنهاغن، بوصفها الدولة المضيفة للقمة، على إبقاء النقاش في إطار التوافق الأوروبي لا الانقسام الجغرافي.
لكن في الجبهة الشرقية، حيث تستشعر التهديدات الروسية مباشرة، ساد موقف أكثر حزما. إذ قالت رئيسة وزراء لاتفيا إيفيكا سيليينا خلال القمة إن بناء "حائط المسيرات" يجب أن يتم خلال سنة أو سنة ونصف السنة على الأكثر، واعتبرت أن "ثلاث سنوات وقت طويل جدا في ضوء الأخطار الحالية"، مما يعكس شعور دول البلطيق وبولندا بأن الوقت ليس في صالحها، وأن المماطلة البيروقراطية في بروكسيل قد تتركها مكشوفة أمام التهديدات.
صورة لطائرة مسيرة خلال مناورة "الثقة البلطيقية 25" العسكرية الدولية لمكافحة الطائرات المسيرة
في المقابل، جاء رد وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس ليضع الأمور في نصاب أكثر واقعية – وربما أكثر تحفظا. فقد حذر من الإفراط في التوقعات، مؤكدا أن المشروع «لن ينجز في السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة»، مبررا ذلك بالحاجة إلى دراسات فنية معمقة وتنسيق سياسي ومالي غير متوافر بعد. تصريح بيستوريوس لم يكن رفضا للمبدأ، بقدر ما كان تذكيرا بأن بناء منظومة دفاعية عابرة للحدود في قارة متباينة الأنظمة والمصالح هو عملية طويلة ومكلفة.
وراء هذا التباين الزمني تقف خلافات أعمق حول التمويل، وهي المسألة التي كثيرا ما تعيق المشاريع الأوروبية الكبرى. فبينما تطالب دول الجبهة الشرقية والشمالية — مثل بولندا وإستونيا ولاتفيا — بأن يمول المشروع من ميزانية الاتحاد الأوروبي المشتركة، بحجة أن حماية القارة مسؤولية جماعية وليست وطنية، تميل الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمها ألمانيا وفرنسا، إلى التمويل الوطني التدريجي، مبررة ذلك بالحفاظ على المرونة المالية وتجنب تضخيم موازنة الاتحاد في ظل التباطؤ الاقتصادي الذي تعانيه أوروبا منذ أزمة الطاقة.
وقد شددت ميت فريدريكسن خلال القمة على أن الدفاع عن حدود أوروبا لا يمكن أن يبنى بمنطق "كل دولة وحدها"، قائلة بعبارة مباشرة: «إذا أردنا أن نحمي حدود أوروبا، فعلينا أن نفكر بأدوات أوروبية وتمويل أوروبي». هذه الرسالة لم تكن موجهة فقط إلى وزراء الدفاع، بل أيضا إلى وزراء المالية في الدول الكبرى الذين يخشون من أعباء جديدة على الموازنة الأوروبية.
وفي المقابل، أبدت برلين، عبر تصريحات بيستوريوس، موقفا أكثر براغماتية، مؤكدة أن الحديث عن التمويل سابق لأوانه، وأن ألمانيا «لن تلتزم مواعيد أو أرقاما» قبل اكتمال الدراسات التقنية والسياسية. وبحسب تقرير لوكالة "رويترز"، شددت بولندا ومعها عدد من دول الشرق خلال القمة على أن هذه الدول تتحمل العبء الأكبر في الدفاع عن القارة، وبالتالي فإن من المنصف أن يتحمل الاتحاد الأوروبي تكلفته بالكامل. وأوضحت وارسو في بيانها الرسمي أن مشروع "حائط المسيرات" ليس خط دفاع محليا، بل مظلة أمنية شاملة يستفيد منها الجميع، وبالتالي يجب أن يمول جماعيا.
هذا الانقسام بين الشرق والغرب، أو بالأدق بين من يعيش الخطر يوميا ومن يراقبه عن بعد، يعكس مأزقا أوروبيا قديما، فكيف يمكن بناء سياسة دفاعية موحدة في قارة لم تتفق بعد على تعريف "التهديد المشترك"؟ فبينما يرى الشرق أن أي تأخير يساوي مجازفة أمنية، تعتبر العواصم الغربية أن الحذر المالي والبيروقراطي ضرورة لضمان استدامة المشروع. وهكذا، يتحول "حائط المسيرات" إلى اختبار جديد لوحدة الإرادة الأوروبية: هل يمكن القارة أن تتصرف ككتلة دفاعية واحدة، أم ستظل الانقسامات القديمة تعيدها إلى مربع التردد والجدل الدائم؟
فكرة قابلة للتنفيذ
عند النظر في المقارنة بين مشروع "حائط المسيرات" الأوروبي ومشروع "القبة الذهبية" الذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يتضح أن الفارق بينهما لا يقتصر على الطموح أو القدرة التقنية فحسب، بل يمتد إلى عمق البنية السياسية والتنظيمية التي تحكم عملية اتخاذ القرار في كل من واشنطن وبروكسيل. فبينما لا تزال أوروبا تتجادل حول من يمول ومن يقود ومن يملك القرار، مضت الإدارة الأميركية بخطوات مدروسة جعلت من مشروعها الدفاعي الجديد برنامجا قوميا حقيقيا، لا شعارا سياسيا عابرا.
ففي السابع والعشرين من يناير/كانون الثاني 2025، وقع ترمب أمرا تنفيذيا أعلن فيه رسميًا إطلاق مشروع "القبة الذهبية" — وهي منظومة دفاعية متعددة الطبقات تهدف إلى حماية الولايات المتحدة من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والأسلحة فوق الصوتية. الأمر لم يكن مجرد إعلان رمزي، بل تضمن تكليفا واضحا لوزارة الدفاع بإعداد خطة تشغيلية خلال ثلاثة أشهر فقط، مع تحديد الأهداف التقنية ومجالات العمل وتوزيع المهام بين الوكالات المختلفة. كان ذلك بمثابة ضربة البداية لمشروع استراتيجي تتعامل معه واشنطن بمنطق التعبئة الوطنية.
بعدها بأربعة أشهر تقريبا، وتحديدا في 20 مايو/أيار 2025، خرج ترمب من المكتب البيضاوي ليعلن أن الهيكل الهندسي للنظام تم تحديده بالفعل بعد تقييم شامل نفذته وكالة الدفاع الصاروخي بالتعاون مع قيادة الفضاء الأميركية. في تلك المرحلة، تم إعلان الشركات المشاركة في تطوير المكونات الأولى للنظام — شركات عملاقة مثل "لوكهيد مارتن" و"ريثيون" و"نورثروب غرومان" — مما أكد أن المشروع تجاوز مرحلة الفكرة إلى التنفيذ الفعلي. كانت الرسالة واضحة: الولايات المتحدة تبني منظومة دفاع متكاملة، وليست مجرد رد سياسي على تهديدات أمنية آنية.
ثم جاءت الخطوة الحاسمة في 17 يوليو/تموز 2025 حين أصدر وزير الدفاع الأمريكي قرارا بتعيين الفريق الجنرال مايك غيتلين مديرا عاما للمشروع، بصلاحيات تنفيذية مباشرة داخل البنتاغون، ليصبح المشروع رسميا جزءا من البنية المؤسسية للدفاع الوطني الأميركي. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الحديث عن "القبة الذهبية" مشروعا رئاسيا بل بات برنامجا قوميا طويل الأمد، خصصت له ميزانية ابتدائية ضخمة بلغت 38 مليار دولار تمتد على مراحل البحث والتطوير والتجريب الميداني حتى عام 2030، مع إشراف من مجلس الأمن القومي وتحديث دوري يرفع للرئيس والكونغرس.
في المقابل، تقف أوروبا عند نقطة البداية تقريبا. فكرة "حائط المسيرات" التي طرحتها أورسولا فون دير لاين في 11 سبتمبر/أيلول 2025 خلال خطاب حالة الاتحاد أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ كانت أقرب إلى نداء رمزي منها إلى خطة متكاملة. لم تعلن ميزانية، ولم يعين مسؤول محدد، ولم تحدد جهة مركزية للتنسيق بين الدول الأعضاء. وحتى عندما اجتمع القادة الأوروبيون في كوبنهاغن في 27 سبتمبر/أيلول 2025 لمناقشة المبادرة، انتهى الاجتماع إلى تبادل بيانات دعم عامة دون أي التزامات مالية أو زمنية واضحة.
تعمق هذا التباين حين بدأت بعض العواصم الأوروبية تتباين في الرؤى. برلين وباريس تحدثتا عن "دراسة الجدوى أولا"، بينما ضغطت دول البلطيق وبولندا نحو التنفيذ السريع. انقسم الأوروبيون بين من يريد تمويلا مشتركا من ميزانية الاتحاد ومن يصر على التمويل الوطني، وبين من يرى المشروع أداة دفاعية ضرورية ومن يعتبره خطوة رمزية بلا مضمون عملي. وهكذا، تحول "حائط المسيرات" إلى عنوان إعلامي أكثر منه خطة واقعية.