الصراع الأميركي-الصيني... التجارة مجرد جزء من المعركة الكبرى

المجلة
المجلة

الصراع الأميركي-الصيني... التجارة مجرد جزء من المعركة الكبرى

يُعدّ اللقاء المرتقب بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الصيني شي جين بينغ، المقرر عقده في نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول في كوريا الجنوبية، نقطة تحول حاسمة على الساحة العالمية. فالأهمية لا تكمن في احتمال التوصل إلى حل شامل للنزاعات الاقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم، بل في ما سيُفضي إليه اللقاء من تحديد ما إذا كانت المنافسة بين البلدين ستبقى قابلة للإدارة أم ستتطور إلى حرب اقتصادية شاملة لا منتصر فيها، وهو الأمر الذي يجرّ بقية دول العالم إلى تداعياتها كأضرار جانبية.

إن التأطير التقليدي للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين يُغفل جوهر الأمر الذي يجري فعلا. فهذه ليست حربا تجارية بالمعنى المألوف تُستخدم فيها الرسوم الجمركية وضوابط التصدير كسلاح اقتصادي فحسب، بل هي صراع على التفوق التكنولوجي وإعادة تشكيل البنية الاقتصادية العالمية. ويزداد هذا الصراع اتساعا ليشمل دولا ثالثة لم تُبدِ رغبة في الانخراط فيه. ففي حين يمكن للمنافسات التجارية أن تفضي إلى نتائج تحقق مكاسب متبادلة، فإن الصراع على التفوق العالمي لا يتيح سوى محصلة صفرية.

لننظر إلى ما حدث في 13 أكتوبر/تشرين الأول، حين استندت الحكومة الهولندية إلى قانون يعود إلى حقبة الحرب الباردة لتفرض سيطرتها على شركة "نيكسبيريا"، وهي شركة صينية لتصنيع الرقائق الإلكترونية تتخذ من هولندا مقرا لها، متذرعة بوجود "عيوب حوكمة خطيرة" تُهدد الأمن الاقتصادي الأوروبي. كان المبرر المعلن ذا طابعٍ دفاعي، غير أن الإجراء في جوهره كان قسريا .وفي سبتمبر/أيلول، كانت وزارة التجارة الأميركية قد وسّعت نطاق قيودها على الصادرات لتشمل جميع الفروع العالمية للشركات المدرجة في "قائمة الكيانات"، بما في ذلك "وينجتيك"، الشركة الأم الصينية لـ"نيكسبيريا". وتحت ضغط من واشنطن، أقدمت الحكومة الهولندية على مصادرة الشركة، فردّت الصين بمنع "نيكسبيريا" من الحصول على منتجات مصنّعة داخل أراضيها.

في يونيو الماضي، توصل الطرفان إلى هدنة جمركية في لندن، بالاتفاق على إطارٍ يثبّت التعريفات عند 55 في المئة على الجانب الصيني و10 في المئة على الجانب الأميركي

في خضم التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين على الهيمنة التكنولوجية، تجد شركة "نيكسبيريا" نفسها مضطرة اليوم إلى السعي للحصول على موافقة للتعامل مع كلا الجانبين. تكرس هذه الصورة مفهوم التنافس ذي المحصلة الصفرية بين القوى العظمى، إذ لا ينتصر أحد. وفي هذا السياق، لا يختلف في الجوهر فرض الصين لعقوبات على "نيكسبيريا"- وهي شركة صينية تعمل خارج أراضيها- عن فرض الرئيس الأميركي دونالد ترمب رسوما جمركية مرتفعة على منتجات شركة "آبل" المصنّعة خارج الولايات المتحدة.

الكارثة الاقتصادية.. كيف وصلنا إلى هنا؟

فيما أطلق عليه الرئيس الأميركي دونالد ترمب اسم "يوم التحرير"، أعلن فرض تعريفاتٍ جمركية متبادلة بنسبة 34 في المئة على البضائع الصينية، تُضاف إلى تعريفة سابقة بنسبة 20 في المئة على مادة الفنتانيل، فضلا  عن الرسوم الجمركية التي فُرضت على السلع الصينية خلال ولايته الأولى. وقد شهدت الأيام التالية تصعيدا  حادا، إذ ردّت الصين بفرض تعريفاتٍ انتقامية بلغت 84 في المئة، وهو الأمر الذي دفع ترمب إلى رفع المعدلات الأميركية بالتدريج  لتصل إلى 125 في المئة على الواردات الصينية. وفي يونيو/حزيران، توصل الطرفان إلى هدنة جمركية في لندن، جرى خلالها الاتفاق على إطارٍ يثبّت التعريفات عند 55 في المئة على الجانب الصيني و10 في المئة على الجانب الأميركي.

الأمر الذي يميّز هذه اللحظة أكثر هو أنّ الصين أصبحت ثاني دولة في العالم- بعد الولايات المتحدة- التي تطبّق قاعدة "المنتج الأجنبي المباشر"

في إشارة واضحة إلى حسن النية، وافقت الصين في سبتمبر/أيلول على بيع تطبيق "تيك توك" لاتحاد من المستثمرين الأميركيين. غير أنّ الولايات المتحدة، وفي خطوةٍ مفاجئة، وسّعت في 12 سبتمبر/أيلول قائمتها للكيانات الخاضعة للقيود، مضيفةً 23 شركة صينية تعمل في مجالي الرقائق الإلكترونية والتكنولوجيا الحيوية، فيما عُدّ استفزازا  كبيرا  بعد فترةٍ من التهدئة المتبادلة.

في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت الصين عن ضوابط شاملة جديدة على تصدير المعادن النادرة، موسّعة نطاق القيود ليشمل اثني عشر عنصرا  من أصل سبعة عشر عنصرا. وبموجب الإجراءات الجديدة، يتعيّن على الشركات الأجنبية الحصول على موافقةٍ خاصة لتصدير أي منتجاتٍ تحتوي حتى على 0.1   في المئة من المعادن النادرة المُعالجة في الصين. ومن المقرر أن تدخل معظم هذه القيود حيز التنفيذ في الأول من ديسمبر/كانون الأول. وتجدر الإشارة إلى أن مغناطيسات المعادن النادرة تُعد مكونات أساسية في صناعات حيوية مثل الرقائق الإلكترونية، والمقاتلات من طراز "إف-35"، وصواريخ "توماهوك"، والطائرات المسيرة. وتكشف هذه الخطوة عن حسابات استراتيجية واضحة من بكين: فالولايات المتحدة تواجه نقاط ضعف حرجة في سلاسل توريدها الصناعية، وهو الأمر الذي دفع الصين إلى استخدام ورقة المعادن النادرة كأداة ضغط لإعادة توازن موازين التفاوض.

 رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب في اجتماع ثنائي مع الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال قمة قادة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان، 29 يونيو 2019.

الأمر الذي يميّز هذه اللحظة أكثر هو أنّ الصين أصبحت ثاني دولة في العالم- بعد الولايات المتحدة- التي تطبّق قاعدة "المنتج الأجنبي المباشر"، وهي آلية استخدمتها واشنطن منذ عام 1959 لتقييد مبيعات المنتجات المصنَّعة خارج أراضيها إذا كانت تحتوي على مكوناتٍ أميركية. وقد استوعبت بكين هذه الاستراتيجية بسرعة، فتبنّت النهج الأميركي نفسه، مطبّقة ضوابطَ تمتدّ إلى ما وراء حدودها الإقليمية، ذات تأثير عالمي واسع النطاق.

كان الردّ الأميركي بنفس القدر من الحزم. ففي 10 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن الرئيس دونالد ترمب فرض رسومٍ جمركية إضافية بنسبة 100 في المئة على الواردات الصينية، تُضاف إلى الرسوم القائمة التي تدفعها الصين حاليا، على أن تدخل حيّز التنفيذ في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني. ومن شأن هذه الخطوة أن ترفع معدل الرسوم الإجمالي  على السلع الصينية إلى أكثر من 150 في المئة عند دخولها السوق الأميركية. كما تبادلت الدولتان فرض رسوم على الموانئ: إذ فرضت الولايات المتحدة رسوما  قدرها 50  دولارا  للطن الصافي على السفن المملوكة أو التي تُشغلها الصين، بدءا  من 14 أكتوبر/تشرين الأول، ترتفع تدريجيا  لتصل إلى 140  دولارا  بحلول عام 2028، فيما ردّت الصين بإجراءات مماثلة على السفن الأميركية.

من المرجح أن ترد الصين بفرض رسوم جمركية متبادلة بنسبة 100 في المئة على الصادرات الأميركية، ما قد يمهد الطريق لانفصال تجاري كامل بين الولايات المتحدة والصين

تُعيد هذه الإجراءات، التي بدأ تنفيذها بالفعل، هيكلة مسارات الشحن العالمية بصورةٍ جذرية، وهو الأمر الذي يُجبر الشركات الدولية على إعادة تنظيم عملياتها التجارية وفقا  لخطوط الصدع الجيوسياسية. ولا تزال النزاعات التجارية بين الولايات المتحدة والصين دون حلّ، بينما يهدد اتساع نطاقها بإلحاق أضرار في مجالات استراتيجية أخرى.

ثلاث نتائج محتملة.. لا توجد نتائج وردية

من المرجّح أن تنبثق من سيول في نهاية أكتوبر ثلاثة سيناريوهات محتملة، يحمل كلٌّ منها تداعيات عميقة على المشهدين الاقتصادي والجيوسياسي العالمي.

في حال سعى الرئيسان ترمب وشي جين بينغ إلى تسويةٍ محدودة للتعريفات الجمركية فحسب، مع ترك القضايا الجوهرية مثل المعادن النادرة والتكنولوجيا وضوابط التصدير دون حل، لن يكون أي اتفاق محتمل سوى هدنة عابرة في مواجهة استمرار التنافس الاستراتيجي، إذ يواصل الطرفان سعيهما لتعزيز مواقعه. أما إذا توصّل الطرفان إلى هدنة تجارية أشمل، فمن المتوقع أن تعلن الصين عن شراء كميات كبيرة من المنتجات الأميركية، تتراوح من طائرات "بوينغ" إلى فول الصويا. وعلى غرار المفاوضات التجارية السابقة بين الولايات المتحدة وكل من اليابان وكوريا الجنوبية، قد تتعهد الصين أيضا باستثمارات كبيرة داخل الولايات المتحدة. وفي المقابل، قد تتراجع واشنطن عن بعض القيود المفروضة في جامعاتها على الطلاب الصينيين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.

رويترز
عمال ينقلون تربة تحتوي على عناصر أرضية نادرة للتصدير في ميناء في ليانيونقانغ، مقاطعة جيانجسو، الصين، 31 أكتوبر 2010.

في حال فشل الطرفان في التوصل إلى اتفاق، ودخلت الرسوم الجمركية الإضافية البالغة 100 في المئة على البضائع الصينية حيز التنفيذ في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، فسيواجه الاقتصاد العالمي موجة اضطرابات شاملة. ستشهد سلاسل التوريد إعادة هيكلة فوضوية، وسترتفع تكاليف الشحن على نحو حاد، مصحوبة بارتفاع أسعار المستهلكين وتراجع حاد في أسواق الأسهم العالمية. ومن المرجح أن ترد الصين بفرض رسوم جمركية متبادلة بنسبة 100 في المئة على الصادرات الأميركية، وهو الأمر الذي قد يمهد الطريق لانفصال تجاري كامل بين الولايات المتحدة والصين. كما يُحتمل أن يشل تطبيق الصين لقيود على المعادن الأرضية النادرة إنتاج أسلحة حلف شمال الأطلسي وقدراته الدفاعية، وهو الأمر الذي سيكون له تأثير مباشر على مسار الحرب في أوكرانيا، ويرفع من احتمالية تحول التنافس الاقتصادي إلى مواجهة عسكرية أوسع نطاقا.

إذا أمكن التوصل إلى إطار عمل أكثر شمولا، يجمد مستويات التعريفات الجمركية الحالية لما بعد تمديد مصطنع لمدة 90 يوما، مع توفير مساحة أكبر للولايات المتحدة والصين لوضع حدود واضحة لضوابط التصدير، والوصول إلى التكنولوجيا، وقيود المعادن الأرضية النادرة، فسيشير ذلك إلى أن المنافسة بين القوى العظمى لا تزال تحت السيطرة، وأن العلاقات الأميركية–الصينية أكثر قابلية للإدارة مقارنة بمنافسات الحرب الباردة السابقة. هذه النتيجة، وإن كانت غير مؤكدة، ستتطلّب من كل من الرئيس ترمب والرئيس شي جين بينغ إعطاء الأولوية للاستقرار الاستراتيجي على حساب المصالح السياسية قصيرة المدى.

الأكثر إثارة للقلق في المفاوضات الأميركية–الصينية في سيول ليس ما قد يفعله الزعيمان تجاه بعضهما البعض، بل ما سيحدث للدول المجبرة على الاختيار بينهما

لكن بعض المخاوف قد تُثير القلق بين صانعي السياسات حول العالم. فافتراض السيناريوهات الثلاثة يقوم على وجود طرفين عقلانيين يحدهما المنطق الاقتصادي، في حين أن الحقيقة تشير إلى أن الرئيسين ترمب وشي يعملان ضمن قيود سياسية داخلية قد تتجاوز الاعتبارات الاقتصادية البحتة. لا يستطيع ترمب العودة من سيول وهو يمنح الصين ما تريد، مثل السماح للشركات الصينية بالوصول إلى أحدث شرائح "إنفيديا"، أو رفع القيود المفروضة على مبيعات شرائح "هواوي" عالميا، أو التنازل عن الدفاع عن تايوان. وفي الوقت ذاته، وبالنظر إلى انتخابات منتصف المدة الصعبة، والمستهلكين الأميركيين المثقلين بالديون، واقتصاد معرّض لنمو غير مستقر مدفوعا  بالعجز، فإن احتمالات ارتفاع التضخم وانقطاعات سلسلة التوريد قد تكلف الحزب الجمهوري خسارة الانتخابات. وعلى الجانب الصيني، لا يستطيع الرئيس شي تقديم تنازلات يُنظر إليها على أنها استسلام، في ظل الديناميات الداخلية للحزب والمشاعر القومية العامة. وقد وضع كل قائد نفسه في مأزق يجعل التراجع أكثر تكلفة سياسية من التصعيد.

الحقيقة المُرّة هي أن الرئيسين ترمب وشي يلتقيان في سيول ليس كمفاوضين يسعيان لتحقيق مكاسب متبادلة، بل كمتنافسين يختبران مدى استعداد كل منهما للتحمّل من أجل الفوز في صراعهما على النفوذ العالمي الأسمى. ويشكّل سوء التقدير المتبادل لقدرات كل طرف على المرونة الاقتصادية، إلى جانب الثقة المفرطة المتبادلة في الاستقرار السياسي لكل منهما، مزيجا  متقلبا  قد يؤدي إلى نتائج غير متوقعة.

رويترز
عامل في موقع منجم معادن نادرة في مقاطعة جيانجشي، 29 ديسمبر 2010

إن الجانب الأكثر إثارة للقلق في المفاوضات الأميركية–الصينية في سيول ليس ما قد يفعله الزعيمان تجاه بعضهما البعض، بل ما سيحدث للدول المجبرة على الاختيار بينهما. ويُعدّ استيلاء هولندا على شركة "نيكسبيريا" أبرز مثال على ذلك. فدول آسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا تواجه الآن معضلةً صعبة، وهي الحفاظ على إمكانية الوصول إلى التكنولوجيا والأسواق الأميركية مع المخاطرة بفقدان الوصول إلى المواد الخام والصناعات الصينية. ويواجه العالم النامي ضغوطا  أشدّ، إذ يحتاج بشدة إلى المنتجات الصينية ورأس المال بأسعار معقولة، فضلا  عن التكنولوجيا والأسواق الأميركية، وكلاهما يمكن أن يتلاشى بسرعة إذا لم تتم إدارة الأمور بحكمة.

ومع اقتراب اجتماع الرئيسين ترمب وشي، لا ينبغي التظاهر بأن المفاوضات تدور حول اتفاقية تجارية فحسب، بل هي اختبار لقدرة القوى العظمى على التنافس اليوم دون تدمير النظام العالمي الذي يعملان في إطاره، والذي يعتمد عليه بقية العالم.

font change

مقالات ذات صلة