الشرق عند ماتياس إينار... تنوع ضد التنميط

قصيدة أطلقت عالما من الاكتشاف والولع بالشرق

غلاف رواية "البوصلة"

الشرق عند ماتياس إينار... تنوع ضد التنميط

حول الكتاب الذي غير حياته، أجاب الروائي الفرنسي ماتياس إينار، الحاصل على جائزة "غونكور" (2015)، أنه لم يكن كتابا بل قصيدة واحدة للشاعر الفرنسي السويسري بليز ساندرار (1887-1961)، تحمل عنوان "نثر سيبيريا العابرة ": "لقد غيرت هذه القصيدة حياتي فعلا، كنت في الثالثة عشرة من عمري، وأعاني من اكتئاب شديد، ولم أعد أرغب في مغادرة غرفتي، وفي أحد الأيام قرأت هذا النص، قرأته مرارا، وفتنت به لأيام. وبعد ذلك، قرأت نصوصا أخرى لساندرار، واستعدت، شيئا فشيئا، شهية الحياة، والرغبة في الخروج من الغرفة والشروع في السفر، لاكتشاف ما بدا لي آنذاك أنه العالم في حد ذاته والأدب معا".

يشير ماتياس إينار في هذه الكلمات إلى تأثير الشاعر والروائي السويسري بليز ساندرار عليه، الذي كان بدوره رحالة عظيما. بدأ ساندرار باكتشاف العالم في سن السادسة عشرة، متنقلا بين آسيا ونيويورك وروسيا والشرق الأقصى، وهي رحلات ألهمت عمله الأبرز، "نثر سيبيريا العابرة".

هذه القصيدة الطويلة، المكونة من 446 بيتا حرا، تحتفي بالشعر المتحرر من كل القيود، وهذا ما يفسر عمق إعجاب إينار بهذا العمل الذي وجه حياته. إنها قصيدة مستلهمة من رحلة عظيمة نحو الشرق، كتبها قلم شاعر مثلت له الأسفار واكتشاف الشعوب والثقافات جوهر شغفه بالحياة. هذا الشغف ذاته سيصبح محوريا في حياة ماتياس إينار بعد سنوات قليلة من قراءته القصيدة.

الافتتان بالمشرق

ولد ماتياس إينار في 11 يناير/ كانون الثاني 1972 في مدينة صغيرة غرب فرنسا تسمى نيور، لأبوين متخصصين في علاج النطق. بعد مراهقة مضطربة في مدينته الرعوية، انتقل إلى باريس لدراسة الفن في مدرسة اللوفر. لكن سرعان ما تحول شغفه نحو اللغات، ليلتحق بالمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية. هناك تعلم اللغتين العربية والفارسية، وهذا ما مهد لرحلته الأولى إلى الشرق الأوسط في عام 1999، وكانت وجهته الأولى لبنان.

منذ طفولته، كان هاجس المشرق حاضرا بقوة، والكتاب الأول الذي استعاره من المكتبة، في سن الثامنة، هو "ألف ليلة وليلة" الذي أسره تماما

قبل أن يكون رحالة حقيقيا بين الشرق والغرب، كان إينار مسافرا عبر خياله وعواطفه وصفحات الكتب. فمنذ طفولته، كان هاجس المشرق حاضرا بقوة، والكتاب الأول الذي استعاره من المكتبة، في سن الثامنة، هو "ألف ليلة وليلة"، الذي أسره تماما. كما فضل قراءة أدب الرحلات، خاصة تلك التي تدور أحداثها في المشرق. دفعته دراسة اللغتين الشرقيتين إلى تحويل أحلامه إلى تجربة حياة حقيقية: "شعرت بالراحة في الشرق الأوسط، دون أن أستطيع دائما تفسير ذلك".

غلاف "ألف ليلة وليلة"

على الرغم من افتتان إينار الشديد بسرديات الرحلات، وخاصة تلك التي اتخذت من المشرق مسرحا لها، لم يتبن وجهة النظر التقليدية لكتاب الاستشراق الكلاسيكي.

فقد كان سعيه عند وصوله إلى المشرق مختلفا وجذريا، إذ انصب على الاندماج والمحاولة الجادة لفك شيفرة الروابط المتشابكة والمعقدة بين البشر. وكان هذا السعي واضحا بشكل خاص في محطته الأولى بالشرق الأوسط، وهي لبنان، حيث واجه صعوبة بالغة في استيعاب التنوع الكبير والعميق للأديان واللغات واللهجات والانتماءات السياسية.

يرى إينار أن هذا التنوع، في ظل هشاشته، يحتل مكانة لا يمكن إنكارها في تحديد احتمالات التقارب أو نشوب الصراعات. وعبر عن مدى عمق انخراطه في هذه الثقافة، حين قال إنه أصبح أكثر دراية بالأدبين العربي والفارسي مقارنة بالأدب الفرنسي الذي يمثل ثقافته الأم. علاوة على ذلك، استطاع بناء علاقات صداقة عميقة ومتجذرة، وهذا ما منحه القدرة الإبداعية على إعادة تشكيل هؤلاء الأشخاص ليصبحوا شخصيات "خيالية-واقعية" تنبض بالحياة في إنتاجه الروائي.

اعادة تفكيك الاستشراق

يتجاوز إينار القراءة التقليدية للاستشراق، ساعيا إلى تعميم الحوار حول المشرق من خلال إعادة استخدام مفاهيم "الاستشراق" ذاتها، ولكن مع تحويل جذري لحدودها ودلالاتها. ذلك أن هدفه الأدبي الأعمق يكمن في إذابة أو تفكيك الفصل المصطنع بين الشرق والغرب داخل نسيج سرده.

يتجسد هذا المسعى في روايته "بوصلة" (2015)، التي يضعها في إطار قصة حب بين فرانز، موسيقي متخصص في الموسيقى الشرقية، وسارة، باحثة متخصصة في دراسات الاستشراق. هذا الإطار ليس إلا غطاء فنيا ينشر من خلاله الكاتب غزارة علمه ووجهات نظره المتعددة حول الشرق وظاهرة الاستشراق بأكملها.

 

غلاف النسخة الإنكليزية من رواية "البوصلة"

تعد تقنية العودة بالزمن التي تطبع سرد الشخصية الرئيسة، الراوي فرانز، أداة محورية في هذا التفكيك. فبفعل الهذيان والاكتئاب، تتراقص المشاهد وتتوالى الأحداث دون ترتيب زمني أو مكاني. فحينا يشارك فرانز في مشهد مع الباحثة سارة وزملاء آخرين في سوريا، وحينا يقفز إلى مشاهد في باريس حيث يلتقيها. هذه التقنية السردية تنقل الى القارئ شعورا قويا بغياب أي انقسامات حقيقية بين الشرق والغرب، أو على الأقل، تؤكد أنها انقسامات لا ينبغي لها أن توجد.

وعندما يتعرض إينار للاستشراق في روايته، يتخذ موقفا دقيقا على خط فاصل غير ثابت: بين توجيه الاتهام الى المستشرقين وبين تقديم شغفهم العميق بالمشرق دون إصدار أحكام إدانة مسبقة. ولا يخفى على قارئ "بوصلة" أن إينار قرأ لجميع المستشرقين تقريبا، من كتاب وعلماء.

يتجاوز إينار القراءة التقليدية للاستشراق، ساعيا إلى تعميم الحوار حول المشرق من خلال إعادة استخدام مفاهيم "الاستشراق" ذاتها ولكن مع تحويل جذري لحدودها ودلالاتها

 

في "بوصلة"، يعبر ماتياس إينار عن انبهاره بالمشرق بشكل خاص عند وصفه التأثير الذي أحدثته الموسيقى الشرقية في نظيرتها الغربية. وقد خصص خمس صفحات كاملة لشرح كيف طبع الشرق موسيقيا مثل فيليسيان دافيد ( 1810- 1876) ، وكيف أن الموسيقى الغربية لم تعد كما كانت بعد عمله الشهير "الصحراء" (1844).

غلاف رواية "منطقة"

وعلى لسان شخصيته الرئيسة/الراوي، يلخص إينار هذه الثورة: "ذلك المشرق أحدث ثورة في الفن والآداب والموسيقى، خاصة الموسيقى: فبعد فيليسيان دافيد، لن يعود شيء كما كان من قبل. ربما تكون هذه الأمنية مجرد رغبة، ستقول لي سارة إنني أبالغ، لكنني أثبت كل هذا، لقد كتبت كل هذا، وبينت أن الثورة في الموسيقى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تدين للمشرق بكل شيء، وأن الأمر لا يتعلق بـ'إجراءات غريبة' كما كان يظن سابقا، بل إن الغرابة لها مغزى، إنها أدخلت عناصر خارجية، وعناصر الآخر، وأنها حركة واسعة شملت العديد، على سبيل المثل وليس الحصر ، موزارت وبيتهوفن وشوبرت وليست وبيرليوز وبيزيه".

Shutterstock
الكاتب والمترجم الفرنسي ماتياس إينار خلال مشاركته في ندوة المختبر الأوروبي

في هذا المقتطف لا يكتفي إينار بتفكيك النظرة الاستشراقية، بل يعيد الى المشرق دوره الريادي كـ"محرك" للإبداع الغربي، بدلا من كونه مجرد موضوع للوصف، كاشفا عن إحدى الركائز الأساس التي يقوم عليها تفكيره حول الاستشراق الفني والأدبي: وهي أن الغرابة (l'exotisme) ليست بالضرورة مجرد ولع سطحي بل مساحة لاكتشاف معنى وعمق. هذا المنظور الإيجابي، الذي يعيد إحياء جانب من جوانب الاستشراق، يعبر عنه الكاتب تدريجيا عبر  آراء فرانز عالم الموسيقى المولع بأثر الموسيقى العربية في الموسيقى الغربية، ثم يعزز هذا الرأي عبر أطروحات سارة (الباحثة في الاستشراق)، التي تدعم وجهة نظر فرانز بمعلومات إضافية وحماسة كبيرة.

ربما منحت الموسيقى الكاتب مجالا أوسع لإظهار رأيه الإيجابي هذا. فالموسيقى، في نهاية المطاف، أقل إشكالية من الأدب، وهي مساحة أكثر رحابة للتأويل (سواء كان جماليا أو متخصصا). أما الأدب، فيتكون من مصطلحات وجمل محددة تعكس بشكل أوضح آراء وذاتية منشئها، وتترك مساحة للتأويل، أقل بكثير مما تتيحه الموسيقى.

بيروت في "إتقان الرمي"

لم يبدأ ماتياس إينار مسيرته الأدبية إلا بعد أن غادر المشرق فعليا. ومع ذلك، فإننا نستشعر حضور المشرق بوضوح وعمق في أولى رواياته المنشورة، "إتقان التصويب" (La perfection du tir) (2003). يضع ماتياس إينار القارئ في روايته الأولى في قلب فضاء حرب أهلية غامضة، متجاوزا بذلك التحليل النفسي والتعريفات التقليدية للشخصيات. ورغم أن الرواية لا تحدد المكان صراحة، فإن بيروت تتبادر مباشرة إلى ذهن القارئ كمرجع واقعي لا يمكن إغفاله.

لا يكتفي إينار بتفكيك النظرة الاستشراقية، بل يعيد الى المشرق دوره الريادي كـ"محرك" للإبداع الغربي، بدلا من كونه مجرد موضوع للوصف

تعد هذه الرواية حصيلة مباشرة للانطباعات والملاحظات والمعارف التي جمعها إينار خلال إقامته الأولى في المشرق، حيث كرس خطوته الأدبية الأولى لتقديم الشرق المعاصر عبر تصوير المجتمع اللبناني المستنزف في تسعينات القرن الماضي. إن لوحة الحرب الأهلية، التي تجتمع فيها حالات الجنون والرغبة في التحرر والانعتاق، تؤكد أن مدخل إينار لتصوير المنطقة ينبع من تجربة معيشة وواقعية، بعيدا من الصور النمطية. استغرق منه الأمر أكثر من عقد من الزمان ليتمكن من ترجمة هذه الكثافة الإنسانية والشحنة العاطفية إلى عمل إبداعي من دم ولحم.

"شارع اللصوص" والربيع العربي

حين تناول ماتياس إينار ملف الربيع العربي ضمن مشروعه الروائي، فإنه انطلق من طنجة، وذلك في روايته "شارع اللصوص" Rue des Voleurs ( 2012) إذ تبدأ أحداث السرد في هذه المدينة وليس في الشرق الأوسط الذي شهد معظم الحراك.

تتمحور الرواية حول رحلة شاب مغربي في الثامنة عشرة من عمره يدعى لخضر. تبدأ الرواية-الرحلة في طنجة، حيث يطرد البطل من منزله، ليجد نفسه في الشارع، فتلتقطه جمعية إسلامية يعمل لديها بائعا للكتب. ومع وصول رياح الربيع العربي إلى المغرب في فبراير/ شباط 2011، تتحول المكتبة إلى مركز تنسيق ثوري، بينما يتوقع رئيس لخضر أن "الإخوان سيحصدون الثمرة" مقتدين بالنموذج المصري. ونظرا لعدم تحمله للتيار الإسلامي المتنامي، سرعان ما يغادر الشاب ليعمل على عبارة تربط طنجة بالجزيرة الخضراء. ولاحقا، يصبح موظفا لدى متعهد دفن، مهمته إعادة جثث المهاجرين المغاربة غير الشرعيين الغرقى إلى وطنهم. تتبع الرواية شخصيتها الرئيسة في حياتها اليومية حتى برشلونة، التي تمثل محطته الأخيرة.

تسرد الرواية ما يتجاوز تلك المغامرات الفردية، إذ تدور أحداثها على خلفية متزامنة من الربيع العربي والأزمة الاقتصادية في أوروبا. يضع الكاتب الثورة العربية في مواجهة الأزمة على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، مشيرا إلى أن التدمير السياسي أو الاقتصادي وقع في اللحظة ذاتها على كلا الضفتين. يسلط إينار الضوء على ما حدث في تونس ومصر وسوريا والمغرب، وكيف أثرت هذه الأحداث على روح هذا الشاب المغربي ومصيره، لتعكس الرواية الشغل الشاغل لإينار طوال مسيرته: كيف يمكن المصير الفردي أن يبني المصير الجماعي والعكس صحيح.

تعد هذه الرواية حصيلة مباشرة للانطباعات والملاحظات والمعارف التي جمعها إينار خلال إقامته الأولى في المشرق، حيث كرس خطوته الأدبية الأولى لتقديم الشرق المعاصر عبر تصوير المجتمع اللبناني المستنزف في تسعينات القرن الماضي. إن لوحة الحرب الأهلية، التي تجتمع فيها حالات الجنون والرغبة في التحرر والانعتاق، تؤكد أن مدخل إينار لتصوير المنطقة ينبع من تجربة معيشة وواقعية، بعيدا من الصور النمطية. استغرق منه الأمر أكثر من عقد من الزمان ليتمكن من ترجمة هذه الكثافة الإنسانية والشحنة العاطفية إلى عمل إبداعي من دم ولحم.

Shutterstock
ماتياس إينار، كاتب ومترجم فرنسي، خلال ندوة المختبر الأوروبي

 

يؤرخ الكاتب الأحداث الجارية بهدف استعادة مهمة الخيال في استحضار المعاصرة القصوى بكل كثافتها وتعقيدها وتأثيراتها المباشرة

يوضح ماتياس إينار أن فكرة الكتاب جاءته بعد إقدام الشاب التونسي على حرق نفسه في سيدي بوزيد، وهو الحدث الذي أشعل فتيل ثورات الربيع العربي. وتبدو الرواية نوعا من السجل الزمني لتلك السنوات الثورية، ووثيقة لحالاتها الوجدانية بالتوازي مع ما يحدث في أوروبا. يؤرخ الكاتب الأحداث الجارية بهدف استعادة مهمة الخيال في استحضار المعاصرة القصوى بكل كثافتها وتعقيدها وتأثيراتها المباشرة، دون  أن تصوغ استنتاجا نهائيا، بل توفر فرصة لاستعادة اللحظة كما كانت.

font change

مقالات ذات صلة