خيال الطبيعة على الشواطئ الغريبة

معرض لعشرين فنانا عالميا معاصرا

الأخضر الاصطناعي من الطبيعة الخضراء، باغوس باندِيغا وكي إيمَازو

خيال الطبيعة على الشواطئ الغريبة

"شواطئ غريبة" هو عنوان المعرض الذي تقيمه قاعة "بيرموندسي" بلندن لرسامين من أجيال مختلفة، رسم كل واحد منهم المشهد الطبيعي بأسلوبه ووفق طريقة تفكيره في الفن وبناء على حساسية المواد التي يستعملها.

لا يتضمن المعرض مشهدا طبيعيا متوقعا كما كانت الحال مع الانطباعيين الفرنسيين الذين رأوا الطبيعة من خلال تحولاتها وأنشأوا عالما شفافا وصل إلى ذروته التجريدية في لوحات كلود مونيه التي صور فيها زهور الماء. لقد انتهى ذلك العالم، أو أنه أخرج كل ما في أعماقه من هبات جمالية. وعلى العموم فإن الطبيعة تظل مصدر إلهام جمالي لا ينفد.

وكان الصينيون سبقوا الأوروبيين في اكتشاف الطبيعة عنصر إلهام. ففي الوقت الذي كانت فيه المشاهد الطبيعية مجرد خلفيات لرسوم رسامي عصري النهضة والباروك، جعل الصينيون قبل ألف سنة أو أكثر من الطبيعة موضوعا اساسيا للوحاتهم.

وفي تاريخ الفن التجريدي، هناك دائما تماس بالطبيعة. فعلى سبيل المثل فإن النقاد يعتبرون الرسام البريطاني وليام تورنر (1775 ــ 1851) الرائد الملهم للفن التجريدي، على الرغم من أنه اختص برسم المناظر البحرية. كانت المعالجة الفنية لدى تورنر أكثر حضورا في عالمه من الرغبة في رسم المشهد الطبيعي كما تراه العين المباشرة.

ليست المناظر الطبيعية صورتها بل هي ذاكرة مكان بكل ما ينطوي عليه ذلك المكان من خيال وشعور وانفعالات وذكريات وأحلام وسبل للتعريف بالذات

 ليست المناظر الطبيعية صورتها بل هي ذاكرة مكان بكل ما ينطوي عليه ذلك المكان من خيال وشعور وانفعالات وذكريات وأحلام وسبل للتعريف بالذات. هناك دائما لاوعي مضاد هو المسؤول عن اختراع الطبيعة كأنها لم تكن موجودة قبل أن ننظر إليها.

المعزول، توماس سانشيز

عالم متخيل

ليست الطبيعة في الرسم هي الطبيعة كما هي، بل الطبيعة كما صار الرسامون ينظرون إليها. فهل صارت الطبيعة غريبة عنا أم نحن غرباء عنها؟ في هذا السياق، تصبح المناظر الطبيعية مجالا رمزيا وعاطفيا يتم من خلاله التفاوض على السرديات الشخصية والثقافية وحكايات الأجداد ومشاركتها. فكرة استعادة الأرض بعد كل هذا التحليق في الفضاء، تظل مغرية وفيها الكثير من التفاؤل. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن إيتل عدنان (1925 ـ 2021) كانت الأكثر تفاؤلا من بين المشاركين في المعرض. لم ترسم عدنان التي هي في الأساس شاعرة وناثرة كبيرة، سوى المناظر الطبيعية في حياتها التي امتدت طويلا. من بيروت إلى سان فرانسيسكو عاشت قريبا من البحر ومن خلفها الجبل. لم يكن الشكل الإنساني حاضرا في لوحاتها. ليست تلك ميزة شخصية.

وادي الشمس، إيما ويبستر

يخلو المعرض من أي شكل بشري. الطبيعة موجودة لأن الإنسان رآها ولكنها لا تؤكد وجوده وظهوره فيها. في كل الأعمال يبدو خيال بول سيزان الهندسي حاضرا، إذ حرص منسقو المعرض على أن يكون تجسيدا لطريقة تفكير الفنان الحديث في الطبيعة، وهو ما يعني القطيعة مع تعاليم المدرستين الواقعية والإنطباعية. في لوحتي الأميركية جورجيا أوكيف (1887 ــ 1986) نكتشف عاطفة من نوع مختلف. تلك رسامة رمزية، لكنها وجدت في مفردات الطبيعة وسيلة للولوج إلى عالمها الرمزي. صارت الطبيعة صوتها الذي ينشئ عالما متخيلا. هناك أنوثة، ما كان في إمكاننا العثور على رقتها لولا لوحات أوكيف.

النأي بالطبيعة

في "شواطئ غريبة" الذي يستعرض منسقوه لوحات لأكثر من عشرين رساما، ينتمون إلى أجيال فنية مختلفة بدءا من الألماني أنسيلم كيفر (1945) وانتهاء بالسعودية الشابة عليا بنت أحمد، يبدو واضحا أن الرسام الحديث في السنوات العشرين الأخيرة لم يمل من إعادة اكتشاف الطبيعة، كونها ملهمة الجمال الأولى.

في كل الأعمال يبدو خيال بول سيزان الهندسي حاضرا، إذ حرص منسقو المعرض على أن يكون تجسيدا لطريقة تفكير الفنان الحديث في الطبيعة


 وكما يظهر جليا، فإن تلك الإعادة ما كان لها أن تأخذ مسارا جديدا إلا من خلال اللجوء إلى أسلوب بصري جديد ينطوي في حقيقته على تمتين صلة المشهد المرئي بوعي الفن. أي أن العلاقة بين طرفي المعادلة، وهما الموضوع والفنان، لا يمكن أن تكون جديدة إلا من خلال تقديم الوعي بالطبيعة على التمتع بلذائذها. علاقة تنتصر لتفكيك ذلك المشهد إلى عناصره، وهذا ما أدى إلى أن يواجه المتلقي مهمة عسيرة وهو يسعى إلى القبض على أسباب تأثره بما يرى.

الشاطئ، توماس سانشيز

كانت قوة التفكير في الفن حاضرة أكثر من الرغبة في التماهي مع متعة النظر، بمعنى أن اللوحات لا تعيدنا إلى الطبيعة كما كان يحدث مع الفرنسي نيكولا بوسان (1594 ــ 1665) في عصر الباروك، بل تضعنا في صلب التفكير في الفن. حتى تجرديات نيكولا دو ستايل الذي كان الأكثر تشبثا بالطبيعة من بين رسامي مدرسة باريس، لن تكون مصدرا يُعتد به. فهل ينأى الرسم المعاصر بالطبيعة بعيدا من قوة تأثيرها المباشر؟ شيء من ذلك القبيل لا بد من القبول به من أجل أن يتمكن الرسم من تجديد حيويته. 

           

الحرارة البيضاء للماء البارد، شولتو بليست

الطبيعة المتشنجة

"الطبيعة كما نفكر فيها"، قد يصلح عنوانا ثانويا للمعرض. ففي تجارب عدد من الفنانين تحضر الطبيعة لكن في سياق سردي، هو نوع من حياة شخصية يومية. لن يكون مثيرا أن نرسم الطبيعة كما نتذكرها. ذلك درس مدرسي غير مفيد، لكن حين تحل الطبيعة ضيفا على الذاكرة، تكتسب حيوية حياة هي ليست من حياتها.

الأخضر الاصطناعي من الطبيعة الخضراء، باغوس باندِيغا وكي إيمَازو

ذلك ما جسده الفنان الألماني أنسيلم كيفر في لوحاته الثلاث الكبيرة. حين قرأت اسمه في لائحة الفنانين، صرت أحث الخطى في اتجاه لوحاته وأنا أعد نفسي بالعودة إلى رسوم الآخرين، لا لأنه الرسام الأهم  في عصرنا فحسب، بل لأنني كنت أفكر بطريقته في التفكير في الطبيعة، وهو الواقع تحت ضغط ذاكرة الحرب. لم يتعب كيفر في كل المعارض الكبيرة التي قدمها عبر السنوات العشرين الأخيرة، من وضع الحرب على طاولة التشريح. كانت الطبيعة عنصرا أساسيا في غنيمته. ولكن كل قطعة من تلك الطبيعة كانت تحمل آثار خراب سيقيم في الذاكرة زمنا طويلا.

ليست الطبيعة بمنجى من ذاكرتها، وهي بالنسبة لكيفر ساحة حرب أو مجال متخيل لحرب يمكن أن تقع في أية لحظة

وكان من المدهش رؤية أن كيفر اكتفى بالمشاهد الطبيعية التي كانت بمثابة خلفية لأحداثه. فتلك الخلفية التي كان ينفذها بأسلوب يشي بتمكنه الكلاسيكي، لم تكن تُشبع توقه إلى إحداث صدمته. يفكر كيفر أصلا في الهيمنة على مشاعر من يشاهد أعماله. ذلك ما يتجدد في لوحاته التي رسمها من أجل هذا المعرض، ولم تعرض سابقا. سيُقال "كما هو" ذلك صحيح. لم يتخل كيفر عن تقنياته ومواده ومعالجاته. غير أنه يبدو مختلفا. هو أشبه بالمقاتل الذي تخلى عن سلاحه من أجل أن يسترجع مشاهد طبيعية كان رآها أثناء الحرب. كيفر هو الاستثناء العبقري في المعرض الذي يجسد فكرته، هذا مع الإقرار بأن المشاهد التي رسمها كيفر مضللة، ذلك لأنه استعارها من عالمه الكئيب السابق. غير أنها بالنسبة لمَن يعرفه جيدا ولم ير معارضه، تمثل صدمة سيستمر تأثيرها زمنا طويلا. هناك إيقاع ملحمي يتسلل من بين صفوف الأشجار التي رسمها كيفر، ذلك ما يمكن أن نسميه بروح الطبيعة. ليست الطبيعة بمنجى من ذاكرتها، وهي بالنسبة لكيفر ساحة حرب أو مجال متخيل لحرب يمكن أن تقع في أية لحظة. رسم كيفر طبيعة متشنجة. ذلك ما يمكن أن يضفي على الشواطئ الغريبة نوعا من المعنى. 

font change