نظرة أعمق على تجليات "الفن الاجتماعي" عربيا وعالميا

كيف نبني المجتمع فنيّا

Daniel LEAL / AFP
Daniel LEAL / AFP
الفنانة الكوبية تانـيا بروغويرا في عملها بتورباين هول، تيت مودرن، لندن 2018

نظرة أعمق على تجليات "الفن الاجتماعي" عربيا وعالميا

منذ أن خطا الإنسان العاقل أولى خطواته في التاريخ، لم يكن الفن مجرد نشاط ثانوي أو زينة شكلية، إذ انغرس في صميم بنيته المجتمعية والرمزية والدينية وحتى التنظيمية. فالكهوف الأولى التي زخرفها لم تحمل على جدرانها رسوما "أولية" للتسلية أو التعبير الجمالي فحسب، فقد شكلت أفقا تأسيسيا لوعي جماعي جديد، يتجاوز الانصياع الأعمى للغريزة الطبيعية، إذ عبر تلك الأيادي الممتلئة والفارغة وتلك الحيوانات المجسدة عبر خطوط رقيقة، حاول ربط صلة سحرية وميتافيزيقية مع الطبيعة ومجتمعه المصغر.

هناك، عبر تلك العلامات والرسوم، بدأت الجماعة البشرية تنسج أول خيوط التواصل الرمزي، مؤسِّسة خلفية ثقافية مشتركة ستتماهى مع الطبيعي في الإنسان، لتنتج كائنا "بيو-ثقافيا" وفق تعبير إدغار موران، أي إنسانا لم يعد أسير حاجاته البيولوجية وحدها، وإنما صانعا لمعنى يتجاوزها، يبني عبر الفن والرمز أسس المجتمع والذاكرة والهوية. ومنذ حينه صار الفن رافعة للتواصل بين الفرد والجماعة، بين ما هو واقعي وما هو متخيل وما هو سحري، وبين الذاكرة والآتي.

الفن الاجتماعي

وحين نقترب أكثر من القرن العشرين، سنجد أن هذا البعد الاجتماعي للفن اتخذ مسارات جديدة ومتعددة مع صعود الدولة الحديثة، وتوسع الحركات الاصلاحية، وتداخل الفن مع الاقتصاد والسياسة والمؤسسات، بعد أن تحرر الفعل الفني من قيود المرجعية الكنائسية والدينية والأسطورية، لصالح الانطباعي (الحركة الانطباعية وما بعدها) والروحاني الداخلي الفردي (التجريدية والتفوقية والسوريالية) والذاتي النسبي (التكعيبية والمستقبلية والتعبيرية) والإنساني واليومي (حركات ما بعد حداثية: الأداء، التجهيز، الإنشاء، الزائل).

هنا لم يعد الفن مجرد تمثيل للعالم أو تزيين له، أو استحضارا لمثله العليا، إذ صار فعلا يطمح إلى تغييره، وإبراز الخفي فيه والمجرد والباطني-الذاتي المتعدد والعابر والزائل، بما في ذلك التصادمات والصراعات والأفكار الاجتماعية. وكان الناقد البريطاني هربرت ريد من أبرز من أعادوا طرح هذه المسألة، حين رأى أن الفن ليس زينة للحياة، وإنما ضرورة حيوية لبناء مجتمع ديمقراطي حي، وأن التربية الجمالية شرط أساس لتشكيل الإنسان الجديد القادر على العيش في انسجام مع الآخرين. في كتاباته حول "الفن والمجتمع" ألحّ على أن الفن قوة بنائية للمجتمع، وأن الإستيطيقا ليست انعكاسا لترف طبقي، وإنما وسيلة لتربية الذوق الجمعي وتوسيع أفق الحرية.

ستجد هذه الفكرة امتداداتها في ما عُرف لاحقا بـ"الفن الاجتماعي" و"الممارسة الفنية المنخرطة" التي حولت الفن من مجرد إنتاج غرض جمالي معزول إلى ممارسة عمومية تدفع بالمجتمع إلى إعادة التفكير في ذاته، وتُعدّ مدرسة "الباوهاوس" (Bauhaus) نقطة مفصلية في تاريخ الفن والممارسة الاجتماعية، إذ انتقلت من فكرة الفنان المعياري المنعزل إلى الفنان كمهندس للمجتمع، ومن غرض جمالي للتأمل إلى غرض وظيفي للتفاعل الاجتماعي. سعت المدرسة إلى دمج الفنون الجميلة مع الحِرف والتصميم الصناعي، فجعلت من الكرسي والمصباح والمائدة أدوات للتغيير اليومي لا مجرد أشكال للتزيين المعتاد، وهي أدوات تساهم في تحسين حياة الناس، في بعض الأحيان تُنتَج بكميات كبيرة لتصبح في متناول الجماهير، وليس فقط النخبة، غاية إعادة تشكيل العلاقات بين الفرد والمجتمع وبين العمل الفني والحياة اليومية.

فالفن الاجتماعي (Social Art) لا يكتفي بإنتاج الجمال، إذ يسعى الى الفعل، الى التغيير، الى الإشراك، ليكون للفن أثر ملموس في المدينة، في المساحات العامة، في الاحتياجات البسيطة كالأثاث والإضاءة والتصميم الحضري، وكل ذلك يستلزم مسؤولية ثقافية وأخلاقية من الفنان والمصمم تجاه الجماعة، وينطلق من وعي بأن الجمال لا يُفهم بمعزل عن العدالة الاجتماعية والاستدامة.

تُعدّ "الباوهاوس" نقطة مفصلية في تاريخ الفن والممارسة الاجتماعية، إذ انتقلت من فكرة الفنان المعياري المنعزل إلى الفنان كمهندس للمجتمع، ومن غرض جمالي للتأمل إلى غرض وظيفي للتفاعل الاجتماعي

مدرسة الباوهاوس في هذا المعنى ترسخ فكرة أن التصميم يجب أن يكون صالحا للاستعمال العام، أن يخدم الإنسانية، وأن يساهم في خلق بيئات يكون فيها الفن جزءا من العيش وليس ترفا منقطعا عن الواقع والمجتمع والشارع. وفي هذا السياق جسّد "الجداريون المكسيكيون" (دييغو ريفيرا ودافيد سيكيروس وخوسيه كليمنتي أوروزكو) هذه الرؤية حين ربطوا الفن بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، إذ جعلوا الجداريات وسيلة لتثقيف الشعب وربطه بتاريخ المقاومة. تعكس الأعمال الضخمة في الساحات والجامعات كيف غدا الفن قوة تربوية وجماعية، لا ترفا فرديا.

John MACDOUGALL / AFP
جناح من مبنى باوهاوس الذي احتضن مدرسة التصميم بين 1926 و1932، من تصميم فالتر غروبيوس

وعندما نتأمل تحولات الفن المعاصر، نلمس انتقالا تدريجيا من منطق التمثيل إلى منطق الفعل. لم يعد العمل الفني لوحة أو منحوتة تستقر في صالة عرض مغلقة، إذ بات حدثا في الفضاء العمومي، تدخلا سياسيا، أو مشاركة جماعية، أو تجربة جسدية يعيشها الجمهور بشكل مباشر. هذه التحولات لم تنشأ فجأة، إذ كانت ثمرة أفق فلسفي وإستيطيقي جديد تشكل منذ ستينات القرن العشرين مع صعود الحركات الاحتجاجية، ومع النظريات النقدية في الجماليات، مرتبطا أساسا بما يتفق كل من آرتر دانتو وهاورد بيكر على تسميته بـ"عالم الفن" أو "عوالم الفن". وذلك حسب تعدد المؤسسات الجديدة (المالية، الاجتماعية، الثقافية، الفنية، الإعلامية، السياسية) التي تعمل على ترويج المنتوج الفني واستهلاكه وجعله يصل إلى الطبقات المختلفة من المجتمع، وحسب بيكر "فكل عمل فني، بما في ذلك كل نشاط إنساني، يستدعي التدخل بين مختلف هذه المؤسسات"، وإنما أحيانا تعمل على التحكم في العملية وتوجيهها، وفي هذا الصدد ظهرت تيارات مناهضة للهيمنة المؤسساتية المعاصرة على الفن وترويجه، وتحديد من هو الفنان وما العمل الفني، وأيضا حتى كيفية التلقي نفسها، فخرجت تظاهرات ومشاريع متعددة، إلى الشارع، مثل مشروع Papergirl في برلين، عام 2006، إذ وزع الفنانون أعمالهم في الأزقة كالهدايا، في محاولة لتجاوز السوق والمؤسسات الفنية. فقد سعت هذه المبادرة التشاركية إلى إظهار كيف أصبح الفن ممارسة عمومية، وحدثا اجتماعيا يوميا يربط الفنانين بالمجتمع مباشرة.

JOHANNES EISELE / AFP
عرض فيديو للفنان الألماني جوزيف بويز لدى وصوله الى مطار طوكيو عام 1984 متحف هامبورغر بانهوف، برلين

نحت المجتمع

وعودة إلى تأصيل الانزياح الكبير الذي عرفه عالم الفني مع بروز براديغم المعاصرة، يُعتبر الفنان المنخرط المنظّر الألماني جوزيف بويس، أحد أبرز الأسماء المؤسسة لهذا التحول، إذ صاغ مفهوم "النحت الاجتماعي"، معتبرا أن كل إنسان فنان بالمعنى الذي يجعله قادرا على المساهمة في تشكيل المجتمع عبر إبداعه ومشاركته. فالفن هنا ليس إنتاجَ غرض مادي، وإنما عملية اجتماعية شاملة، أي نحت للمجتمع ذاته عبر الفعل الجماعي.

 هذا التصور فتح الباب أمام أفق جديد يرى في الفن طاقة تحويلية قادرة على إعادة بناء العلاقات الإنسانية والسياسية. ولم تسلم المؤسسات التقليدية في عصره من عملية النقد الذي مارسه، حيث سنة 1965، سيقدم أداءه الفني "كيف تفسر الفن للأرنب الميت"، مجسدا تحوّل الفن إلى فعل رمزي وسياسي، يكاد ينعزل تماما -في نظره- عن دوره الاجتماعي، فاستخدم جسده وصورته في حدث طقسي أمام الجمهور، متجاوزا منطق التمثيل التقليدي. فقد عمل على حمل أرنب ميت وسط قاعة العرض، بينما ينظر الجمهور الى الحدث من خارج الأبواب المغلقة، وهو يشرح تاريخ الفن لهذا الكائن النافق. إذ عمد عبر هذه التجربة إلى فعل حيّ يطرح سؤال الفن ذاته، ومآله أمام أنظار وآذان الجمهور الذي لم يعد يعي ما يرى، بفعل "تسييس الفن" وإلغاء مهمته الاجتماعية عنه.

هذا التصور فتح الباب أمام أفق جديد يرى في الفن طاقة تحويلية قادرة على إعادة بناء العلاقات الإنسانية والسياسية

وإذا كان بويس ركز على ضرورة أن يصبح الإبداع جزءا من الحياة اليومية، فإن حركات مثل "غوريلا غيرلز" جسدت هذا الطرح بشكل عملي حين استعملت الملصقات والإحصائيات في الفضاء العمومي لفضح التمييز الجنسي والعرقي داخل المؤسسات الفنية. هذه الحركة، بقدر ما كانت احتجاجا، كانت أيضا فعلا فنيا يحوّل الأرقام والبيانات إلى صور صادمة قادرة على تغيير الوعي الجمعي.

وبالتالي، يكشف التفكير في الفن بوصفه وسيلة للتغيير الاجتماعي عن جدلية دقيقة بين البعد الإستيطيقي والبعد السياسي. فقد رأى ثيودور أدورنو أن الفن الأصيل يخلق مسافة نقدية تجعل المتلقي يكتشف زيف الواقع الأيديولوجي، ولا يُحدث -في نظره- التغيير مباشرة، كما يتجسد في أعمال صمويل بيكيت المسرحية التي تجسد العبث والفراغ، وتدفع المتلقي إلى وعي سلبي يفكك البنية القائمة. وبشكل مغاير نسبيا عن نظرية رائد مدرسة فرانكفورت، يذهب الفيلسوف الأميركي-الألماني هيربرت ماركوز إلى أن الفن إمكان تمردي، لأنه يفتح أفقا للخيال نحو الحرية الاجتماعية ضد "الإنسان ذي البعد الواحد"، كما نجد في تجربة السورياليين الذين جعلوا الحلم والفانتازيا وسيلة لتفجير الطاقات المكبوتة وإعادة تصور العالم.

AFP
هربرت ماركوز

يذهب ماركوز إلى أن الفن، متأثرا بفكر ماركس، هو في المقام الأول أداة للنقد الاجتماعي أو ضحية لهياكل السلطة. وبين الموقفين، تتضح أن القيمة الإستيطيقية ليست مجرد انعكاس للواقع، إذ هي قوة كامنة لإعادة صوغ الوعي الاجتماعي، الذي يتحقق عبر إشراك الجمهور في العملية الإبداعية. ومع ذلك، فإن وجهة النظر هذه تتجاهل قدرة الفن على التطور بشكل مستقل عن الظروف الاقتصادية، وخلق أشكال جديدة من التعبير، وتحدي التوقعات، حتى داخل الإطار الرأسمالي. إذ يُهاجَم النهج الذي اتبعه ماركوز، من خلال الإشارة إلى أن الفن المعاصر أظهر قدرة فريدة على استيعاب قوى السوق وتحويلها وأحيانا تخريبها. على سبيل الذكر، استخدمت حركات مثل فن البوب ​​أو الفن المفاهيمي رموزَ ومنتجات الثقافة الجماهيرية لخلق معان جديدة والتشكيك في هياكل السلطة بطرق معقدة، وغالبا ما تكون مثيرة للسخرية. يُظهِر هذا النوع من الإبداع أن الفن لا يقتصر ببساطة على منتج تنفره السوق، إذ إنه قادر أيضا على اللعب عليه، مع الاحتفاظ بقوة نقدية.

من أجل فني تشاركي

وفي سياق التنظير الفني للجماليات المعاصرة، رأى الفيلسوف جاك رانسيير في مؤلفه "سياسة الإستيطيقا" أن الفن نوع من إعادة توزيع "المحسوس"، أي أنه يغير أنماط الرؤية والقول والفعل داخل المجتمع، ويعيد تنظيم ما يمكن رؤيته أو قوله أو فعله. الفن بالنسبة اليه ليس مجرد إضافة جمالية، بقدر ما هو إعادة ترتيب للحس المشترك، بما يسمح بفتح فضاءات جديدة للحرية والتعبير. ويتقاطع هذا التصور الإستيطيقي لدور الفن، مع تجربة الكوبية تانيا في عملها "Tatlin's Whisper #6"، حيث تضع الجمهور مباشرة في تجربة حرية القول داخل فضاء عام، فيصعد المشاركون إلى المنصة للتعبير بحرية لبرهة قصيرة، قبل أن يُقطع عليهم الكلام. هنا يتحول الفن إلى حدث سياسي واجتماعي مكثف، يكشف الحدود الدقيقة بين الحرية والقمع، بين الصوت والصمت، ويجسد عمليا ما قصده رانسيير من أن الفن يخلق حساسية جديدة لما هو سياسي.

يقوم "الفن الحواري" على بناء علاقات حوارية بين الفنان والجمهور، ليصبح العمل الفني وسيلة للتبادل والتواصل الاجتماعي، أكثر من كونه تمثيلا رمزيا مغلقا

وفي سياق قريب تحدث المؤرخ الفني نيكولا بوريّو عن "الفن العلائقي"، حيث ترى هذه النظرية أن العمل الفني لم يعد موضوعا مكتفيا بذاته، وإنما فضاء للقاء والعيش المشترك.

LEON NEAL / AFP
إطلاق عمل "بذور دوار الشمس" للفنان الصيني آي ويوي – تيت مودرن، لندن 2010

الفن وفق هذا التصور يتجسد في خلق لحظات من التبادل الإنساني والتواصل الجماعي. هذا ما نجده جليا في عمل "بذور عباد الشمس" للصيني آي ويوي ، حيث حوّل ملايين بذور دوار الشمس المصنوعة يدويا إلى استعارة بصرية عن العلاقة بين الفرد والجماعة، بين الإنتاج الصناعي والهوية الإنسانية. لم يكن العمل مجرد تركيب بصري ضخم، وإنما تجربة علائقية عاشها الجمهور، تؤكد أن القيمة الفنية تكمن في العلاقات التي تولدها، لا في الكائن المادي وحده. وفي المنحى نفسه، أبرز المؤرخ الفني غرانت كيستر أهمية "الفن الحواري" (Dialogical Art)، الذي يقوم على بناء علاقات حوارية بين الفنان والجمهور، ليصبح العمل الفني وسيلة للتبادل والتواصل الاجتماعي، أكثر من كونه تمثيلا رمزيا مغلقا. ونموذج ذلك يقدمه "مشروع الداخل الخارج" للفنان الفرنسي جي آر (JR) -اسم مستعار- الذي دعا فيه الناس حول العالم إلى إرسال صور بورتريهاتهم لطبعها بحجم كبير ولصقها في الفضاءات العمومية. لم يكن المشروع مجرد صور ضخمة، وإنما شبكة من الحوارات العابرة للحدود، خلقت فضاء تشاركيا وتفاعليا (وحتى علائقيا) عالميا وأعادت التفكير في مفهوم الهوية الجماعية والسياسية. تحول العمل هنا إلى حوار مفتوح، ليضع الفن في قلب الممارسة الاجتماعية. ويقودنا الأمر أيضا للوقوف عند تجربة الأميركي ثيستر غيتس ، الذي أسس "Rebuild Foundation" و"Stony Island Arts Bank" في شيكاغو، حيث لم يكتف بتقديم أعمال فنية، وإنما انخرط في إعادة بناء الأحياء الفقيرة وتحويلها إلى فضاءات ثقافية نشيطة. هذا الفعل يتجاوز "التجميل" ليصبح مقاومة فعلية للهشاشة والتهميش، متجاوبا مع تلك الرؤية الجمالية المعاصر التي دافعت عنها المنظّرة الفنية كلير بيشوب من أن الفن التشاركي لا يكتفي بالتواصل، إذ يخلق فضاءات للتمرد وإعادة توزيع القوة الرمزية والاجتماعية. فقد ناقشت بيشوب بحزم الجوانب السياسية للفن التشاركي والتفاعلي الاجتماعي، مؤكدة أن قيمته لا تقاس فقط بقدرته على خلق تواصل، وإنما أيضا بقدرته على مساءلة السلطة وإنتاج فضاءات مقاومة.

هكذا نرى أن هذه الطروحات النظرية -رانسيير، بوريّو، كيستر، وبيشوب- تلتقي كلها حول فكرة أن الفن ممارسة تدخلية في الحياة العامة، أو ما يمكن أن نسميه "الهيئة الفنية-السياسية"، التي تمنح للفنان والجمهور معا قوة للتأثير في المجتمع. وفي الأمثلة المدروسة، من بروغيرا إلى آي ويوي، ومن جي آر إلى غيتس، يتجسد هذا البعد بوضوح: فالفن لم يعد مجرد انعكاس جمالي، وإنما صار أداة لإعادة التفكير إستيطيقية في المجتمع، ولخلق إمكانات جديدة للعيش والوجود المشترك. حيث يتحقق المفهوم "الانخراط الفني" الذي دعا إليه أحد أهم فلاسفة القرن الماضي، فبالنسبة الى ألبير كامو يعد الفن شكلا من أشكال المقاومة الفردية (الفنان/الكاتب) والجماعية (المجتمع/المتلقين) والتمرد ضد القمع والظلم، حيث يرى في العمل الفني قوة تحريرية تعمل على تجسيد المعنى في عالم العبث وغياب الأمل المادي، وذلك من خلال تجسيد الكرامة الإنسانية في مواجهة قوى القمع. فالفن، من هذا المعطى، يضطلع بتشكيل الأمل غير المادي، وتجسيد الحرية الاجتماعية والشجاعة الفردية في مواجهة تحديات الحياة.

الفن والمجتمع في التجربة العربية

يعيد الفن المنخرط، بالتالي، ترتيب علاقة الإبداع بالفضاء العمومي، بحيث لم يعد الفضاء مجرد مكان للعرض أو ساحة للنقاش العقلاني فحسب كما صاغه يورغن هابرماس، بل أصبح مادة نشيطة للعمل الفني ذاته، ومجالا حيويا لاختبار أشكال بديلة من التفاعل الاجتماعي والسياسي.

كل هذه التجارب تكشف أن الفن لم يعد انعكاسا بصريا لواقع قائم، وإنما تحول إلى ممارسة عمومية تدخلية قادرة على زعزعة الثابت وفتح إمكانات جديدة للوعي الجماعي

 فبينما يتصور هابرماس الفضاء العمومي ميدانا لتداول الرأي الحر والعقلاني، أضافت الممارسات الفنية بعدا آخر يتمثل في القدرة على تفكيك العقلانية الصلبة عبر الصدمة الإستيطيقا، والدهشة، والمفاجأة، والاستفزاز، وإدخال عنصر المخيلة إلى صلب النقاش العمومي. وبهذا يصبح الفن أداة لإعادة توزيع الأدوار بين الفنان والجمهور، وبين السياسي والإستيطيقي، وبين الذاكرة الجمعية والممارسة اليومية، حيث يفتح مساحات جديدة للتفكير والعمل الجماعي تتجاوز المقاييس التقليدية للأثر الاجتماعي.

MARWAN NAAMANI / AFP
عمل "Spacemen" للفنانة الفلسطينية لاريسا سنسور – آرت دبي 2010

وعلى المستوى العربي، تتجلى هذه الدينامية في نماذج متباينة لكنها تلتقي في هدف مشترك، هو جعل الفن وسيلة للتدخل في المجتمع. اختار في هذا المنحى الفنان المصري أحمد بسيوني أن يكون جسده نفسه وسيلة مقاومة، مجسدا في حضوره بميدان التحرير أثناء ثورة يناير 2011 كيف يمكن للفن أن يتحول إلى مشاركة جسدية في صناعة التاريخ، وكيف يمكن للفنان أن يكون طرفا مباشرا في الفعل السياسي. ومن زاويتها اعتمدت الفنانة المصرية الراحلة آمال قناوي في أعمالها على الرمزية، والموازنة بين السوريالية والتعبيرية، وخلق عوالم متخيلة لاستكشاف مساحات داخلية حميمة تتقاطع مع القضايا السياسية والاجتماعية والنسوية، خاصة في مصر. ومن بين عروضها الأكثر إثارة للجدل، برفورمانس "صمت الخرفان" (2009) الذي يصور حالة الخنوع والتبعية التي يعيشها الناس ويضع على الدمل المتقيح داخل نسيج المجتمع المصري وهو "الصمت". إذ لعبت قناوي دور راعية تقود قطيعاً من البشر منكسي الرؤوس، عابرين لشوارع وسط القاهرة، على أيديهم وأرجلهم. الفيديو هنا هو عمل تمرديّ ثوريّ صادم يعجّ بالألم ويرجّ الضمير الغافل.

أما في السياق اللبناني، فقد قدم أيمن بعلبكي من خلال لوحات مثل "الملقم" تمثيلا نقديّا لصورة المقاتل، محولا إيّاها من رمز للبطولة إلى علامة على مأزق مجتمع يعيش ذاكرة الحرب الأهلية. إذ لا تعيد لوحاته رسم الخراب فحسب، فهي تفتح جرحا بصريّا يضع المجتمع أمام أسئلته المؤجلة عن الهوية والمصير. وفيما يتعلق بالواقع الفلسطيني، فقد اشتغلت الفنانة لاريسا صنصور على الخيال العلمي باعتباره أداة سياسية، فصورت مدنا فلسطينية مستقبلية كأنها تعيد تخييل الأرض والهوية خارج قيود الواقع المباشر. هنا لا يكون الخيال هروبا، إذ بخلاف ذلك يعد استراتيجية مقاومة تُحوّل الفن إلى مختبر سياسي-اجتماعي مفتوح.

وفي توجه قريب، اعتمد الفنان الكويتي الراحل حسين مسيّب، رائد الواقعية الاجتماعية بالخليج العربي، على الرموز الشعبية والحياتية اليومية والدينية ليعيد التفكير في التحولات القيمية داخل المجتمع، محولا أعماله التشكيلية إلى فضاءات للتأمل في الهوية المحلية. أما في المغرب، فقد كانت تجربة جماعة 65 بما عرفته من أسماء فنية (بلكاهية، المليحي، شبعة، حميدي...) جمعت بين الإبداع التشكيلي والهم الاجتماعي، إذ لم تتوقف عند اللوحة، بقدر ما انخرط في تأسيس البنى المؤسسية والثقافية التي شكّلت لبنات المشهد الفني المغربي الحديث، إذ أخرجت الفن منذ بيانها الأول إلى الساحات العمومية، وذلك في ما سميّ بمعرض جامع الفنا، كأول حدث فني مغربي تشكيلي يلامس الجمهور مباشرة خارج كل الأسوار والقاعات المغلقة. ومن التجارب الجماعية، يبرز مهرجان أصيلة الذي تأسس سنة 1978 على يد محمد بن عيسى ومحمد المليحي، حيث تحولت المدينة إلى ورشة مفتوحة تجمع الفنانين والباحثين والمفكرين، فارتسمت على جدرانها الجداريات، واحتضنت مؤتمرات الفكر والفلسفة، لتصبح نموذجا عن كيف يمكن لمبادرة فنية أن تعيد تشكيل مدينة بأكملها، وتدمج الثقافة في مسار التنمية الحضرية والاجتماعية.

الفن المنخرط يفتح أفقا يجمع بين الحلم والعمل، بين الصورة والفعل، ويمنح الخيال قوة عملية والواقع بعدا تخييليا

كل هذه التجارب تكشف أن الفن لم يعد انعكاسا بصريا لواقع قائم، وإنما تحول إلى ممارسة عمومية تدخلية قادرة على زعزعة الثابت وفتح إمكانات جديدة للوعي الجماعي. فالممارسة الفنية المنخرطة تتجاوز العمل الفني كجسد مستقل لتجعل من الوثائق، البيانات، الإحصاءات، وحتى الجسد الحي نفسه، مادة للعمل. وهذا ما يظهر في صعود تيار ما يسمى بـ"الفن الاستقصائي" (Investigative Art)، الذي يمارس فيه الفنان دور المحقق والصحافي والباحث في آن واحد، مستخدما أدوات جمالية للكشف عن البنى الخفية للسلطة والسياسة والاقتصاد. في هذا المعنى، يصبح العمل الفني بحثا مفتوحا في الأرشيف والواقع، وتحويلا للمعطيات الجامدة إلى صور وأحداث توقظ الوعي وتعيد تشكيل الذاكرة الجماعية.

إن ما يجمع هذه الممارسات هو المزج بين المتخيل والواقعي، حيث لا يكون الخيال انفصالا عن الحياة اليومية، بل طريقة لتغييرها، ولا يكون الواقع نقيضا للجمال بل مادته الأولى. الفن المنخرط يفتح أفقا يجمع بين الحلم والعمل، بين الصورة والفعل، ويمنح الخيال قوة عملية والواقع بعدا تخييليا. غير أن هذا الفن يواجه دائما خطر الانصهار في السوق أو التحول إلى أداة دعائية، وهو ما قد يفقده طاقته التحويلية واستقلاله الجمالي. لذلك يظل الرهان على صون هذا البعد التحرري، وحمايته من الاستهلاك، وجعله مجالا مفتوحا للحرية والتساؤل.

MEHDI FEDOUACH / AFP
نسخة طبق الأصل من كهف لاسكو الشهير برسومه العائدة الى العصر الحجري مونتينيـاك، فرنسا 2016

والفن في لحظات الأزمات لا يكتفي بأن يكون مرآة للواقع، وإنما يشارك في تغييره. إنه يربط بين الفردي والجماعي، وبين الذاكرة والمستقبل، وبين الفعل الجمالي والسياسي، ويصوغ إمكانات جديدة للحياة المشتركة. ومن خلال هذه القدرة على إعادة تشكيل الفضاء العمومي، وخلق مؤسسات ثقافية حية، وإنتاج تجارب تتجاوز حدود الصالات إلى قلب المجتمع، يظل الفن المنخرط علامة على أن الخيال قادر أن يتحول إلى قوة اجتماعية، وأن الجماليات يمكن أن تترجم إلى ممارسات ملموسة تعيد الى الإنسان قدرته على الحلم والعمل في آن واحد.

font change