الفنان الجزائري عبد الحليم كبيش والفن بوصفه جزءا من مأساة العالم

يعيش في تماس دائم مع أبرز قضايا عصره

الفنان الجزائري عبد الحليم كبيش

الفنان الجزائري عبد الحليم كبيش والفن بوصفه جزءا من مأساة العالم

بدأ الفنان التشكيلي الجزائري عبد الحليم كبيش نشاطه الفني سنة 1993 ومنذ ذلك التاريخ استمر في إقامة معارض فردية والمشاركة في معارض جماعية داخل الجزائر وخارجها حتى بات اليوم فنانا عالميا أثبت حضوره في المحافل الفنية الدولية.

ولد كبيش في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 1972 في جيجل (شرق الجزائر)، وهو حاصل على دبلوم الدراسات العليا من "المدرسة العليا للفنون الجميلة" سنة 1998 في تخصص الرسم الزيتي. له العديد من المشاركات على المستوى المحلي الوطني والدولي. وهو حائز الميدالية الذهبية الخاصة بمختلف الاتجاهات الفنية التشكيلية، والميدالية الفضية الخاصة باتجاه الفن التعبيري المعاصر في المسابقة العالمية لمحترفي الفن، التي نظمتها الأكاديمية العالمية للفنون بفرنسا.

ما يميز كبيش إلى جانب براعة ريشته، مواضيع أعماله، إذ يستقيها من جراح العالم. ويطول غوصه على مكامن هذا الجرح كل معاني الألم الانساني من فقر وبطالة وجراح جسدية ونفسية وحروب وتلوث بيئي، إلى حد يتساءل معه المرء إن كان هذا الكم من الشقاء المتعاظم في العالم لم ينل بعد من الفنان وريشته التعبيرية ليأخذه إلى اعتكاف العالم والتفرغ إلى بلسمة عالمه الداخلي والعودة، وإن افتراضيا، الى قريته الصغيرة التي تحتضنها التلال.

عن بداياته وعن الرحلة التي خاضها من تلك القرية إلى العالم، يقول كبيش لـ"المجلة": "في البدء كانت تتراقص ريشتي على إيقاع النسيم. ولدت في قلب الطبيعة البكر حيث كانت الألوان تنساب من ضوء الشمس المتسلل عبر أوراق الأشجار. كانت أعمالي الأولى تشخيصا خالصا للحلم. كل ضربة فرشاة تعكس النعيم البدائي والنقاء الفطري الذي كنت أعيشه في قريتي الصغيرة التي تحتضنها التلال، ثم جاء التحول القاسي، اجتذبتني المدينة لا برغبة مني بل ربما بقوة قهرية من قدر مجهول.

لم يعد الفن محاكاة للجمال بل أصبح تطهيرا للروح المثقلة بالواقع المعاصر الذي اختفت فيه المعاني الإنسانية

كانت المدينة بكل صخبها وجمودها صدمة حسية عميقة بالنسبة لي. الوجوه التي تمر أمامي لم تكن تحمل صفاء الطبيعة بل تختزن قصصا من المعاناة والقلق واليأس. لم يعد الفن محاكاة للجمال بل أصبح تطهيرا للروح المثقلة بالواقع المعاصر الذي اختفت فيه المعاني الإنسانية".

حتى لا تقتلنا الحقيقة

أخيرا، قارب عبد الحليم كبيش مأساة غزة في عمل فني متشعب ينتمي إلى "فن الأداء"، معلنا بذلك استمراريته في معالجة القضايا الكبرى وعدم رضوخه إلى تهديدات الواقع التي تنذر بزوال الفن وبموت الإنسانية. عند سؤالنا إن كان الفن لا يزال قادرا على تغيير شيء من هذا العالم نحو ما هو أقل وحشية، أجابنا بأن الفن "لا يستطيع أن يكون خارج جوهره، أي أن يكون مجرد مرآة تعكس الواقع. فالفن قوة تشارك في عملية إنتاج العالم، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر وخفيف، التغيير الذي قد يحدثه الفن لا يكمن بالضرورة في قلب الأنظمة السياسية أو الاقتصادية مباشرة، بل في تحويل الوعي الإنساني وتوسيع آفاق الإدراك وإثارة التساؤلات الوجودية. يقول فريديريك نيتشه: 'لدينا الفن كي تقتلنا الحقيقة'، هذه المقولة تشير إلى أن الفن ليس مجرد ترفيه بل ضرورة وجودية توفر وسيلة التعامل مع قسوة الواقع. ومن خلال هذه المواجهة يتغير فهمنا للعالم وتتغير تبعا لذلك طريقة تفاعلنا معه. فالفن يفتح كوة في جدار العقل مدخلا أضواء جديدة إليه".

ما ذكره كبيش حول قدرة الفن على النفاذ إلى داخل العقل وإحداث تغيير، دفعنا إلى سؤاله عن كيفية حدوث ذلك واقعيا لا نظريا فحسب، فأجاب: "الشرخ ما بين المجتمع والفنان أصبح هائل العمق ومن الصعب تخطيه. يمكن ربط هذا الشرخ بأزمة المعنى في عصرنا هذا. ففي عالم يتسارع فيه التغيير وتتآكل فيه اليقينيات يصبح البحث عن معنى مشترك كثير الصعوبة. الفن الذي كان يوما مصدرا أساسيا للمعنى والاحتفال بالقيم  المشتركة، يجد نفسه الآن في فضاءات أكثر فردية وتجريدا، وبالتالي أكثر عزلة. الجمهور الذي نشأ على مفاهيم محددة  للجمال والقيمة الفنية، يجد نفسه مشوشا أمام أعمال لا تتوافق مع هذه المفاهيم مما يؤدي إلى الشعور بالاغتراب عن الفن ومنتجه". ويستطرد الفنان متسائلا: "لكن هل الشرخ حتمي؟ ربما ليس في الضرورة. لكن ردم  الهوة التي أحدثها الشرخ يتطلب جهدا حقيقيا لإبقاء الفن كمحرك للنقد وللتأمل وللتساؤل".

فن اليقظة

من الواضح أن في كلام الفنان بذورا متأصلة لا يريد أن يرويها، وهو في ذلك محق إلى أقصى حد. صحيح أن عبد الحليم كبيش يدافع عن الفن وقدرته على إحداث تغيير في المجتمعات، غير أنه يعقب مشيرا إلى أن قدرته فاعلة ولكن "بشكل غير مباشر وخفيف". ربما تكمن الحقيقة في إدراك الفنان بأن العالم اليوم وتحولاته الفظيعة، التي في معظمها لا تحمل ألوانا زاهية، هو الذي يفتح كوة تلو الكوة في قلب الفن وليس العكس. فالواقع هو الذي يجعل الفن مرتعا بصريا ومكثفا لأهواله.

التغيير الذي قد يحدثه الفن لا يكمن بالضرورة في قلب الأنظمة السياسية أو الاقتصادية مباشرة، بل في تحويل الوعي الإنساني وتوسيع آفاق الإدراك وإثارة التساؤلات الوجودية

إن كان ثمة ما يشير في أعمال كبيش إلى تجذر فكرة الحض على عدم الركون إلى قوانين يفرضها عالم معاصر منخور بالفساد، وعلى عدم الرضوخ إلى تبني المظاهر الخادعة والمخدرة لنشاط العقل النقدي، فآخر أعماله هو الأكثر إشارة إلى ذلك. إذ تلعب حركة الريشة  المتعاظمة وفعل التنقيط العصبي أدوارا مهمة في تأجيج المعنى وشرذمة تجلياته حد التنافر. بالرغم من كون هذه الأعمال لا تخرج عن التيار الفني التعبيري كسابقاتها من الأعمال، إلا أنها تتيح لبعض من خصائص الفن التجريدي والفن المستقبلي فرصة الدخول إليها. هكذا ولدت الأعمال مشحونة بتفجير المشاهد المرسومة لإيقاع نظر المشاهد وفكره في فخ التحولات وما قد تؤدي إليه.

لم تعد الحركة أو الإيقاع  الذي يحمل ترانيم اليقظة في لوحات الفنان، تعبر، على سبيل المثل، عن تقدم رجل فقير يسير متعبا على الطريق، كما لم تعد تعبر عن انقضاء الصباح وقدوم الليل بعتمته الموحشة بل أصبحت ناطقة باسم قلق محض ومطلق يريد أن "يعي" ذاته، إذا صح التعبير، ويريد أن يدرك صوابية المعنى الذي يقدمه أو انعدامه في عالم تنقلب أولوياته وقيمه الاخلاقية رأسا على عقب.

لم تستمر الأعمال التي قدمها الفنان عن المآسي الإنسانية في صيغة لوحة تشكيلية فقط بل جهزها لتكون جزءا من عرض فني أوسع جرت تسميته عالميا بـ"الأداء الفني". وقد أخبرنا الفنان عن دخوله إلى هذا العالم بهذه الكلمات "من 'شظايا بيروت' (وهو عمل تناول انفجار مرفأ بيروت) إلى 'كورونا وأنا'، وأخيرا 'مربع غزة' و'نبضات جريح'، هي هزات حسية صعدت من أعماق ذاتي المتصدعة بالأسئلة الوجودية بهيئة فن الأداء. في عالم يزداد تعقيدا وتشرذما، تتجلى ضرورة الأداء الفني كأسلوب للتعبير المعاصر. ففي زمن تهيمن فيه الشاشات والوسائط الرقمية على تجاربنا اليومية، أصبح الأداء الفني أسلوبا فريدا للتجريب الجسدي المباشر. إنه يعيدنا إلى جوهر الوجود البشري حيث يتفاعل الإنسان والجمهور في لحظة مشتركة من الإبداع والتلقي. هذه اللحظة الحية غير القابلة للتكرار بنفس الكيفية، تحمل قي طياتها قيمة وجودية عميقة. انها دعوة للتوقف وللترقب وللمراقبة و للتأمل بالتجربة الإنسانية بكل تعقيداتها وتناقضاتها. يتجاوز الأداء الفني حدود اللوحة مستخدما الجسد والصوت والحركة والمساحة كأدوات للتعبير. من خلال فن الأداء الفني نتمكن من اكتشاف الطبقات الخفية للواقع وتحدي المفاهيم المسبقة لنعيد صوغ فهمنا للعالم".

اللون غامزا في قناة العتمة

هذا العالم الذي يتحدث عنه الفنان، يغص بالصور والحوادث والمواقف، الكاذبة منها والصادقة، والفنان يقف أمامه واعيا لتصاعد نبرات التناقض وارتفاع منسوب الوحشية فيه، فقد تلقف المأساة الغزاوية المستمرة على أنها مأساة مطلقة تنضوي تحت لوائها كل كوارث وخبائث العالم. استخدم الفنان الألوان الفاقعة في صلب تصويره للمأساة سالخا عنها صفة "التزيين" ومانحا إياها خاصية تحسس نبض الحياة القائمة تحت رماد الأيام التي نعيشها ككابوس نخشى استمراره.

الخلاص ليس دائما في النجاة من الألم بل في القدرة على إيجاد النور القادم من داخله

عن هذه الألوان الزاهية التي تسكن أعماله الجديدة أكثر من أي زمن مضى، يؤكد عبد الحليم كبيش "أن الألوان الزاهية في أعمالي تتناول ثيمات الحزن، ووجودها ليس مجرد اختيار جمالي، بل هو فعل فلسفي عميق يلامس جوهر التجربة الإنسانية. إنه يمثل جدلية الأمل في مواجهة اليأس والتحول في مواجهة التلاشي، والصمود في مواجهة الانهيار. عندما يختار الفنان إدخال الألوان الزاهية في سياق قاتم، فإنه لا ينفي الحزن والدمار بقدر ما يؤكد وجود بعد آخر. هذا البعد يمكن أن يكون الأمل الكامن أو الإشارة إلى دورة الحياة والموت التي تحمل في طياتها التجدد".  

يأبى كبيش أن ينهي كلامه عن الفن دون أن يعطي اللون الكلمة الأخيرة، فيقول: "اللون هو بيان فلسفي. انه دعوة للتأمل في مرونة النفس البشرية. انه التذكير بأن الخلاص  ليس دائما في النجاة من الألم بل في القدرة على إيجاد النور القادم من داخله".

font change