رندة فخري ترسم الفصل الأخير من ثلاثية النجاة من العتمة

الترياق يكمن في الإيمان بأن رسائلك تصل حقا

من أعمال رندة فخري

رندة فخري ترسم الفصل الأخير من ثلاثية النجاة من العتمة

قدمت الفنانة التشكيلية المصرية رندة فخري معرضها الجديد في صالة "الزمالك" في القاهرة، أطلقت عليه عنوان "ترياق"، تستكمل فيه، من خلال أعمال مشغولة بمواد مختلفة، مهمة النجاة من العتمة، في تتمة بصرية لمعرضين سابقين هما "السرداب" و"مرافئ".

عناصر النجاة المزدوجة

يبدو معرض رندة فخري الجديد ترياقا شافيا وإن ملتبسا بعض الشيء أرادت أن تتحرر به من ظلمات السراديب المتشابكة وقلق المرافئ التي تتأرجح فيها السفن والقوارب فوق مياه غير مستقرة. تقول فخري لـ"المجلة" إن النجاة لم تكن فقط من عتمة السرداب نفسيا فقط بل جسديا أيضا: "اخترت عنوان هذا المعرض الذي ضم 20 لوحة بالألوان الزيتية مع وسائط متعددة كالديكوباح على القماش، لأنه يعبر عن رحلة خروجي من رحلة أليمة في حياتي، كانت فترة وباء كوفيد19 من أسوأ أيام حياتي إذ نقلت وعائلتي إلى مستشفى العزل بين الحياة والموت. وكل منا وضع على أجهزة التنفس. توفيت خالتي، وبعدها بأسبوع توفيت والدتي. مكثت في المستشفى في حالة حرجة لمدة شهر وكتبت لي الحياة بعد ذلك. ولكن الحياة لم تعد كما قبل ولا عدت أراها كما في السابق. صرت مجبولة بالحزن مسكونة بالخواء والإحساس الأليم بالفقد. غير أني بفضل الله تماسكت لأستعيد طاقتي رويدا رويدا وبدأت بالعمل على اللوحات التي أعتبرها الترياق/ العلاج الرباني لآلام الإنسان".

إن كان معرض فخري المعنون بـ"السرداب" والمعرض الذي تلاه بعنوان "مرافئ"، شكلا تعبيرا جارحا عن القلق والإحساس بالحزن العميق، فإن معرضها الأخير لم يفارقه لا الحزن ولا الإحساس بالفقد، لكنه جاء ملطفا تاركا المجال واسعا لعناصر محددة لتدخل أجواء اللوحات جالبة معها "مراهم" خفية تبلسم حقا دون أن تخفي آثار الجراح التي بدت على ملامح الوجوه أولا ثم في وضعية الأيدي التي انزلقت في كفوف بيضاء فضفاضة وشاحبة.

مراهم خفية تبلسم حقا دون أن تخفي آثار الجراح التي بدت على ملامح الوجوه أولا ثم في وضعية الأيدي

أما هذه العناصر، التي لم تدخل لوحاتها للمرة الأولى، فهي عدد كبير من الطيور والحيوانات المختلفة، منها الأليف ومنها الذي يعيش عادة في الغابات أو الأدغال. بدت الكائنات في بعض لوحاتها السابقة "ندا" إذا صح التعبير، للشخوص المرسومة، وفي بعضها الآخر ظهرت ضيوفا خفيفة لن تطيل المكوث. ولكنها لا تبدو على هذا النحو إطلاقا في لوحاتها الجديدة، بل تشكل حضورا أساسيا من الناحية المعنوية والفنية على السواء. لدى سؤالنا عن دور هذه الكائنات في أعمالها أجابت الفنانة: "أعشق كل الكائنات الطيبة... الحيوانات تحمل في نفسها الحب والصدق. لا يعنيني أنها كائنات غير مدركة. ما يهمني أكثر هو المشاعر الصادقة الفطرية الخالية من الزيف والافتعال. هذا ما يعنيني في العلاقات الإنسانية أيضا، لذلك أحب تربية الحيوانات والتعامل مع كل أنواعها الجميلة".

السكون الملتبس

يبدو جليا، لدى التمعن في لوحات رندة فخري، أن عنصر غياب جريان الزمن التي تحضره الكائنات معها إلى قلب الأعمال، له دور أساسي في تفشي حالة السكون وانتشار هدوء غرائبي لا يمت إلى العالم الدنيوي بصلة. هذا السكون هو، على الأرجح، أصل الترياق التي تتحدث عنه الفنانة بصريا: "كل من يربي حيوانا في بيته يتعرف الى الصفة /القدرة الخارقة التي تمتلكها فطريا الحيوانات في الكشف لنا عن ركاكة فكرة الزمن لتأخذنا بلطف دون أي شعور بالأسى إلى الغامض/ الغيبي الذي هو أبعد من إدراكنا الحسي والمحدود بأجسادنا". لعل هذا ما تقصده الفنانة أيضا حين تتكلم على "الترياق الرباني".

من أعمال رندة فخري

كثيرا ما توصف أعمال رندة  فخري بأنها أعمال ذاتية لا تتعلق بما يحيط بها من حوادث وأزمات، لا بل ذكر أحد النقاد أن فنها ينتمي إلى "الفن النسائي" الذي يصول ويجول في نفس الأنثى، وهو توصيف غير دقيق، لأنه ينظر إلى الأنثى وكأنها ليست من هذا العالم وغير معنية بما يحدث فيه، أو كأن ما يطولها أو يؤثر بها لا تشارك به الآخرين. وهو ما تدحضه الفنانة بالقول: "الداخل يعني بالنسبة إلي الأمان والطمأنينة، كما يريحني الخط الأفقي في أعمالي وأحب أن أنطلق منه بثبات لتشكيل مفاصل اللوحة، لونا وبنيانا. هذا لا يعني أنني منغلقة على ذاتي. كثيرة هي المشاهدات والأزمات التي تؤثر بي فتنعكس في لوحاتي. أذكر على سبيل المثل ما يحدث في فلسطين وفي السودان". 

كل من يربي حيوانا في بيته يتعرف الى الصفة /القدرة الخارقة التي تمتلكها فطريا الحيوانات في الكشف لنا عن ركاكة فكرة الزمن

على الرغم من انفتاح الفنانة على العالم الخارحي بكل تناقضاته إضافة إلى التأمل في ما يحرك وجدانها من تجارب وأفكار ومشاعر شخصية بامتياز، سيعثر مشاهد لوحاتها على ما يشبه نبرة واحدة لكل الألوان التي تستخدمها. يطغى اللون الرملي/ الترابي بشكل كبير، وما من لون استخدمته الفنانة، حتى اللون الأزرق، إلا وخضع إلى وشم الرمل والغبار الصحراوي والكلسي على السواء. مرد ذلك على الأرجح إلى كون الفنانة مصرية مرتبطة بطبيعة الأرض وحرارة الأجواء المسكونة بذرات الرمال. يساهم هذا اللون أي اللون الترابي، ليس فقط في تدرجاته العديدة، بل بتشعباته الكثيرة وصولا إلى الأحمر النحاسي والأخضر العفني، بإرساء جو من الهدوء حتى في أكثر اللوحات التي تعلو فيها النبرة العاطفية. وتكمن المفارقة أن الفنانة كثيرا ما تظهر مرتدية ملابس ملونة تنصف فيها كل الألوان حتى البرتقالي والأحمر والأخضر الفاقع. حول ذلك تقول: "برجي ترابي. أعشق الأرض وترابها وكل ما يخرج منها وكل ما تحتويه من مقومات وجود وعناصر. وشخصيتي تجمع تناقضات كثيرة. تجدين عندي ليس فقط الألوان القوية إلى جانب الألوان الهادئة، بل الهدوء خلف الألوان القوية والزاهية. خليط يجعل الرغبة والقدرة على تشكيل اللوحات لا تقلان أهمية عن تعطش الألوان في التحاور وتبادل الأدوار حتى يطغى السكون الغامض. السكون الملتبس".

لوحة "إشراق"

من اللوحات التي تقفز إلى ذهننا حين نكتب عن التناقض، اللوحة التي عنونتها الفنانة بـ"إشراق" وأرفقتها ببضع كلمات هي "مع دوام العطاء... نشرق". في هذه اللوحة فتاة تعتمر نجمة حول رأسها. نجمة قد تكون قبعة أو هي نوع من أنواع الهالات الذهبية المرتبطة بمعنى العطاء المطلق. الأهم من ذلك أن في اللوحة تناقضا غرائبيا يعتصره الصمت ويتجلى في حضور طبق من دقيق القمح تحمله الفتاة بين يديها وتقف على حافته ثلاثة عصافير تأكل بهناء، ومن ناحية أخرى ثمة رأس غزال محنط يرتفع فوق رأس الفتاة ويستقر على طرفه عصفور يحدق به".

قلبي ومفتاحه

على الرغم من صوابية وصفنا للسكون المسكوب في شرايين لوحات فخري، كأنه يجري ببطء عبر التعرقات التشكيلية التي تنفذها الفنانة من خلال تقنية الكولاج التي تعشقها، تحضر قوة المشاعر وحدة الرغبة في عقد الواصل ما بين الشخوص المرسومة وباقي عناصر اللوحة. فالحب سكون والفرح سكون والحزن سكون والعتاب سكون والصبر سكون والعيش سكون ارتضى لنفسه كل ألوان قوس قزح. ولعل هذا من أهم ما يميز لوحاتها التي تنطق بالزخم في عز سكونها. غير أن هناك نوعا من الاستمرارية لحزن ما يظل قابعا خلف وجوه شخوص رندة فخري رغم أنها مرسومة في معرضها الجديد بعيون مبصرة بعد أن أظهرتها في معرضيها السابقين مقعرة يكتنفها السواد، كأن الحزن عقد اتفاقية محكمة بين ما تراه العين في الخارج وما تبصره في الداخل حيث الأحلام المجهضة والأماني المكتومة التي لا تنفك تثور على موتها الوشيك.   

خليط يجعل الرغبة والقدرة على تشكيل اللوحات لا تقلان أهمية عن تعطش الألوان في التحاور وتبادل الأدوار حتى يطغى السكون الغامض

نشرت الفنانة على صفحة "فيسبوك" الخاصة بها إحدى لوحاتها من معرضها الأخير، أرفقتها بتسجيل صوتي لأغنية "قلبي ومفتاحه" الشهيرة وكتبت كأنها ترسم قائلة "بعد رحلة من الفقد والعزلة... أمسكت يوما بالقلم محاولة كتابة خواطري... لكن كثيرا ما يكون الشعور أقوى من الكلمات. وحتى إذا اكتست مئات الأوراق بحبر القلم وتبللت بالقطرات، فلمن نرسلها؟ الشعور هو أيضا ترياق رباني أنعم الله به كدواء للنفس. ووجود المرسل إليه المحب هو أيضا أعظم دواء. أمامك الآن ماكينة الكتابة. اكتب واكتب. لكن كن متيقنا من أن رسائلك تصل". 

لوحة "رسائل غير مرسلة"

ما على الناظر إلى اللوحة إلا أن يرى قطعا من الورق الملون الذي تستخدمه الفنانة عادة في تقنية الديكوباج، تخرج من الآلة الكاتبة التي أمام فتاة اللوحة التي تحمل عنوان "رسائل غير مرسلة" ليتحد الجرح كتابة ورسما ويتفتح أزهارا وردية كما في هذه اللوحة وغيرها من لوحات المعرض. أزهار تقول إن "الترياق، هو أن تثق بأن رسائلك ستصل حتما".

يذكر أن رندة فخري حاصلة على بكالوريوس الفنون الجميلة وعلى ماجستير في التصوير وحاصلة أيضا على دكتوراه في فلسفة التصوير سنة 2011. وسبق لها أن نالت الجائزة التشجيعية من المعرض الذي أقيم على هامش مؤتمر "الإبداع والتجديد في الإدارة العربية" من قبل جامعة الدول العربية في العام 2000، كما حصلت على الجائزة الثانية في معرض الطلائع الرابع والأربعين لجمعية محبي الفنون الجميلة 2004، ولها العديد من المشاركات في معارض جماعية داخل مصر وخارجها، بالإضافة إلى المعارض الفردية.

font change