رواد غطاس وسبل النجاة من التشظي

اللون أداة لاستحضار الزمن

رواد غطاس وسبل النجاة من التشظي

تأخر معرض الفنان اللبناني رواد نحو ثماني سنوات، وهي فترة لم تمر خفية عن المساحة الفنية اللبنانية، التي استقبلت أعماله بدهشة وبصدمة أسلوبية خاصة. في "غاليري شريف تابت"، قدمت أكثر من عشرين لوحة، حملت عنوانا شخصيا جدا، ربما لم يكن مجرد إشارة إلى الغياب الطويل، بل دلالة على جرح الكلمة وعجزها عن احتواء أبعاد اللوحات.

تلك الأعمال لم تلتئم ضمن موضوع موحد، إذ اتجه غطاس إلى استكشاف تجارب جديدة في معالجة اللوحة، بتنوع تقني وأسلوبي يعكس بعدا تعبيريا متحررا من الوحدة الموضوعية. فالمعرض لا يحمل خطا سرديا واحدا، إذ يرفض الرسام اختزال لوحاته ضمن رؤية واحدة، بل يمنح كل عمل هويته المستقلة، متنقلا بين انهيار المدينة، وتلاشي الذاكرة، وأجساد غير مكتملة، دون أن يفرض ترابطا واضحا بينها. لكل لوحة زمنها وأبعادها الخاصة التي أوصلتها الى مرحلة الاعتراف والعرض، بعيدا من أي ترابط مباشر مع الأعمال الأخرى. إلى جانب ذلك، تبرز كل لوحة زمن تشكلها عبر لمعان الألوان وتراكم الطبقات، فيتجلى الزمن عنصرا بصريا محسوسا داخل التكوين، مما يعكس اشتغال الفنان على اللون ليس فقط بوصفه أداة تشكيلية، بل وسيلة لاستحضار الزمن داخل اللوحة.

أجساد تظهر أجساد تحتفي

تتخذ بعض اللوحات منهجا يمزج بين التعبيرية والواقعية، فتتشكل كتل تصور أجسادا غير مكتملة، مع دقة تشريحية واضحة. التعبيرية هنا لا تعني إخفاء الجسد أو تذويبه تماما، بل إخضاعه لتآكل بصري متدرج، إذ يعاد تشكيله عبر اللون دون الحاجة إلى خطوط فاصلة بين القيم اللونية والأطراف الجسدية. تتحلل الخطوط وتتلاشى الحدود الحادة، مما يمنح الجسد حالة متأرجحة بين الظهور والاضمحلال. يظهر الجسد بتشريح متردد، فيبدو جليا للحظة ثم تبتلعه طبقات اللون، ليصبح جزءا من التكوين، لا محورا ثابتا فيه.

تتحلل الخطوط وتتلاشى الحدود الحادة، مما يمنح الجسد حالة متأرجحة بين الظهور والاضمحلال

الأجساد عند رواد غطاس سائلة، كما المدينة، فلا تتخذ وضعيات ثابتة أو قياسات متوازنة داخل الإطار، بل تتحرك بانسيابية تعكس اهتراءها وتشوهها. إنه شيء، حسب وصفه، يعبر عن حالتنا المتبدلة، عن هشاشتنا البصرية، وعن غموض مظهرنا، حيث لا يكون الجسد كيانا صلبا، بل حالة متغيرة من التشظي والانحلال داخل اللوحة التي تلتقط إيقاع الحياة ذاته.

وعلى الرغم من امتلاك رواد دقة تشريحية عالية في تصوير الأجساد، إلا أنه سريعا ما يتنازل عنها كقيمة صلبة، إما عبر تراكم لوني تعبيري، بخطوط عريضة وتجريدية، تخلق طبقات لونية ثقيلة، وإما من خلال إحاطة الجسد بالغموض، دافعا المشاهد إلى تأمل اللوحة من زوايا متعددة.  فمركز اللوحة وراحة العين، ليسا جوهريين، بقدر ما تصبح اللوحة فضاء بصريا مفتوحا على الاحتمالات. فمهما تمركز الجسد وظهر، لا بد أن تطرح اللوحة سؤالا بصريا، خاصة حين يبتعد المشاهد أو يقترب، حيث تتشكل الأبعاد بطريقة تدفع الجسد والعين إلى قراءة متغيرة ومتعددة.

طبقات فوق طبقات

يشتغل غطاس على الكولاج بأسلوب التكوين المفتوح، فلا تلتزم اللوحة إطارها التقليدي، بل تتجاوز حدودها لتخرج الأقمشة والألبسة والأشياء الموضوعة داخلها، مكرسا أبعادا جديدة في معالجة السطح التشكيلي. لا تبقى عملية اللصق والتجميع مجرد تراكم خامات، بل تعاد صياغتها مع طبقات لونية متوازية من الأكريليك، فيتساوى نفور اللون مع العناصر المضافة، ليصبح الملمس عنصرا بصريا وسرديا في آن واحد.

ويتجلى السرد في الزمن الذي تشكلت فيه اللوحة، وفي دلالة الأشياء وكيفية توزيعها والألوان التي تصحبها. يأخذ هذا الاشتغال بعدا تفاعليا حين يدعو الفنان زوار المعرض إلى لمس اللوحات، حتى لا تقتصر التجربة على الرؤية فقط، بل تمتد إلى الإحساس الحسي، فيتحول سطح اللوحة إلى فضاء جسدي محسوس، تتجاور طبقات اللون فيه مع المواد المتدلية وما يستقر داخل التكوين.

يأخذ هذا الاشتغال بعدا تفاعليا حين يدعو الفنان زوار المعرض إلى لمس اللوحات، حتى لا تقتصر التجربة على الرؤية

يحمل اختيار الملابس والأغراض المستعملة بعدا أرشيفيا، يثير تساؤلات حول ما نرميه، وما يلتصق بنا، وما يبقى من أثرنا في الأشياء. تتحول الأقمشة المهملة إلى رموز مترهلة، تحمل أثر الغياب والتآكل العاطفي، في تداخل بين الذات والمادة، والفن والحياة اليومية. كل لوحة استخدمت فيها الألبسة قد تعكس الإنسان نفسه، وتحوله إلى مادة مستهلكة باهتة بلا روح، أو منسية كما تنسى الأشياء. قد يكون وجود الألبسة مبهما أحيانا، وأحيانا تتدلى خارج حدود اللوحة، فتتحول الأعمال إلى أرشيف للاستهلاك والنسيان، تماما كما تهمل الأجساد التي ارتدتها. تثير هذه الأعمال التساؤل حول ما فقدناه ولم نعد نحتاج إليه، وكيف يعيد النسيان تشكيل المعنى من جديد، ضمن دعوة للتماهي مع اللوحة.

رواد غطاس

الذكرى المتاحة

يطرح رواد غطاس توترا بصريا، فيضع رمزا إشكاليا بلصقه على اللوحة:  الطائرة الورقية، وبأحجام مختلفة، وحده هذا الرمز يتكرر في أكثر من لوحة، لكنه لا يمنح وضوحا دلاليا مباشرا، بل يخلق تباينا بين الشكل واللون. لا نستطيع بسهولة أن نستنتج ما يريد قوله، فهو يرفض أن يكون الرمز مجرد تكرار أو إشارة تفاؤلية واضحة. فإن كانت الطائرة الورقية رمزا للتملص والحرية والحلم فإن الفنان يعمد عبر اللون لإعطاء رسائل متناقضة. يقول غطاس إن الرمز يعاد في اللوحة تأويله من جديد. وهذا ما يصر عليه، فإن كانت الطائرة الورقية رمزا للحرية، والتملص من المكان والاتجاه نحو الحلم، فإنه يعيد وضعها في سياقات وبنى مختلفة، حيث يقوم عمله على التحدي بين الرمز، وطبقات اللون، وخيارات اللصق وطريقته وعلاقة اللون معه، فلا يكون التكوين مجرد تجميع ميكانيكي للأشكال، بل يتحول حالة موازية وبحدة تعبيرية جذابة. ولا يحضر تجسيد الذاكرة في الطائرة الورقية بوصفه عنصرا بسيطا، بل جزءا من توتر بصري داخلي، فهي تظهر إما بألوان انفعالية تعبيرية تتجاهل التوازن والانسجام لإحداث صدمة بصرية، وإما تأتي بتناغم مدروس داخل اللوحة، حيث التوتر والانسيابية يتداخلان في بنية واحدة وأحيانا قد لا تكون منسجمة أو واضحة المعنى.

تتجسد التعبيرية في أقسى تجريدها عبر طبقات ثقيلة، ومواد ذات طابع خشن، أقرب إلى الأثري، في محاولة للإيحاء بأن التاريخ يترك أثرا

تبرز لوحة "المصلوب" في المعرض، حيث يتخذ رواد من القميص – الفانيلة – المشدود، مشهدا مقاربا للصلب، عبر القميص الملطخ ببقعة دموية بخطوط مسطحة وعريضة بتدرجات الأحمر. الأحمر في اللوحة يتشكل كطبقات متراكمة، تمنح السطح عمقا سرديا، وإضاءة بألوان متغايرة ومظهرة للأحمر، إذ تتكاثف القيم اللونية وتتلاعب بالضوء والظل، مما يمنح الإحساس بتدفق زمني عبر سماكة الأحمر وتدرجاته الممثلة للدم. تحاكي القيم اللونية نبض اللوحة، حيث يخلق اللمعان والانتشار على القماش توترا بصريا يعكس اشتغال الفنان على الزمن وعلى الفداء المستمر للإنسان الحديث ودموية مصيره. طبقات الدم واختلاف درجات تمثل قدمه وتجدده، رمزية المسيح ودمه، واستمرار الأضحية والفداء، استمرار الحروب والإصابات والجروح البشرية. القميص المشدود شبه المهترئ الغارق في الدم، إحدى أكثر اللوحات في المعرض تعبيرا عن غرق الإنسان وسهولة موته ونسيانه.

التعبيرية التجريدية

في المعرض، لوحتان تتميزان بوضوح تقني عال على مستوى التعبيرية، إحداهما كبيرة الحجم، والأخرى متوسطة، تتشابهان في اللون وفي البناء عبر طبقات كثيفة جدا من اللون، حتى يكاد المشاهد يشعر بأن اللوحة تخرج من القماش المقوى.  يبرز هذا الإحساس بفضل التباين بين اللونين البيج والبني الغامق، حيث تتخذ كتلة البني مركز اللوحة، فيما يشكل الأصفر والبيج تباينا منسجما.

الملمس هو عنصر أساس في تجربة اللوحتين، حيث يدعو رواد زائريه للمس سطح اللوحة، رابطا بين الزمن، الصبر الطويل في التشكيل، وانتقال إحساس يديه إلى إحساس المشاهدين.  وبعيدا من جمال اللوحتين وجاذبيتهما للزوار، فإنهما تحملان خشونة يمكن لمسها، مع جزئيات من مادة الأكريليك تشبه الحجر الخشن.

رسمت اللوحتان، وفقا لرواد غطاس، أثناء تفكيره في بيروت وتلاشيها وشعوره بأن سنواتها الأخيرة تحمل خرابا وتشظيا، على أمل خلق جديد أو انتقال إلى مكان آخر.  تتجسد التعبيرية في أقسى تجريدها عبر طبقات ثقيلة، ومواد ذات طابع خشن، أقرب إلى الأثري، في محاولة للإيحاء بأن التاريخ يترك أثرا ، تماما كما يبقى أثر العنف، وهو ما يعكس قلق تسمية المعرض  Cyclopath.  إنها دورة من القلق والاضطراب والتشظي، حتى عنوان المعرض يحاول ألا ينجيك من أثر تجربته.

font change