أوروبا تتحدى هيمنة الشركات الرقمية الأميركية

"حراس البوابة" تحت المجهر

وكالة فرانس برس
وكالة فرانس برس
سيدة تمر أمام متجر "آبل" في ١٥ يوليو ٢٠٢٥، في مدينة نيويورك

أوروبا تتحدى هيمنة الشركات الرقمية الأميركية

في عالم يتجه نحو رقمنة كل شيء، من التسوّق إلى التعليم، باتت مجموعة صغيرة من شركات التكنولوجيا العملاقة تتحكم بمفاصل السوق الرقمية العالمية. لم يعد دورها يقتصر على تقديم الخدمات، بل أصبحت "حراس بوابة" تتحكم بمن يدخل السوق، وبشروط اللعب داخله. في مواجهة هذا الواقع، أطلق الاتحاد الأوروبي أحد أكثر التشريعات طموحا في تاريخه التكنولوجي، قانون الأسواق الرقمية أو DMA، الذي دخل حيز التنفيذ الفعلي في مايو/أيار 2023، بهدف فرض قواعد جديدة تضمن العدالة والقدرة على المنافسة داخل الفضاء الرقمي الأوروبي.

وفي تصعيد غير مسبوق للمواجهة المستمرة بين الاتحاد الأوروبي وعمالقة التكنولوجيا الأميركيين، وجدت شركتا "آبل" و"ميتا" نفسيهما تحت مقصلة قانون الأسواق الرقمية، وهو التشريع الأوروبي الطموح الذي يهدف إلى كسر الهيمنة الاحتكارية وفرض قواعد أكثر عدالة في الاقتصاد الرقمي. ففي أبريل/نيسان 2025، فرضت المفوضية الأوروبية غرامات مالية ثقيلة على الشركتين: 500 مليون يورو على "آبل" و200 مليون يورو على "ميتا"، بعدما ثبت انتهاكهما الصريح لبنود القانون الجديد الذي دخل حيز التنفيذ أخيرا.

جاءت هذه العقوبات في سياق حملة رقابية أوروبية أكثر جرأة، تسعى إلى إلزام الشركات المسيطرة فتح أنظمتها المغلقة أمام المنافسة والسماح للمطورين الأصغر بالوصول إلى المستخدمين دون حواجز اصطناعية. ومن أبرز هذه الانتهاكات إصرار "آبل"، مدى سنوات، على منع مطوري التطبيقات من تقديم خيارات دفع خارجية للمستخدمين، مما ضمن لها تحكما شبه كامل في سلوك الشراء داخل متجر التطبيقات ورسوما ثابتة تُفرض على كل معاملة رقمية.

لكن مع التهديد بغرامات يومية قد تصل إلى 5٪ من متوسط إيراداتها العالمية – ما يعادل نحو 50 مليون يورو يوميا – لم تجد "آبل" بدّا من إعلان سلسلة من التعديلات التي حاولت من خلالها أن تُظهر الامتثال دون التخلي فعليا عن قبضتها المحكمة. تضمنت هذه التعديلات فرض رسوم جديدة تتراوح بين 5٪ و15٪ على المدفوعات الخارجية، وتقسيم خدمات المتجر إلى مستويات مختلفة وفقا لنسب العمولة، وهي تغييرات رأى كثر من الخبراء أنها تهدف للالتفاف على روح القانون بدلا من الالتزام الصريح به.

وبينما تُصوَّر هذه الإجراءات على أنها بداية مرحلة جديدة من التنظيم الصارم، يرى البعض أن ما يحدث هو مجرد جولة أخرى في الصراع الطويل بين المنظمين الأوروبيين والشركات التقنية العملاقة التي طالما تفننت في المناورة وتفسير القوانين بما يخدم مصالحها. والسؤال المطروح اليوم بإلحاح: هل تنجح أوروبا هذه المرة في إعادة تشكيل قواعد اللعبة الرقمية؟ أم أن الهيمنة سيعاد تغليفها بقوالب قانونية جديدة دون أن تتغير في جوهرها؟

قانون الأسواق الرقمية

وقانون الأسواق الرقمية تشريع تنظيمي أوروبي يحدد الإطار القانوني الذي يجب أن تلتزم به شركات التكنولوجيا الكبرى – وتحديدا تلك التي تصنّف كـ"حراس بوابة رقمية" وهؤلاء الحراس هم منصات رقمية ضخمة تقدم ما يُعرف بـ"الخدمات الأساسية"، مثل متاجر التطبيقات، ومحركات البحث، ومنصات الرسائل الفورية.

تكمن فلسفة القانون في أن هذه المنصات، بسبب حجمها الهائل ونفوذها العابر للحدود، قادرة على فرض شروط غير عادلة على المستخدمين والمطورين والشركات الأصغر، بما يخلق اختلالا في التوازن داخل السوق الرقمية. لذلك، لا يسعى القانون إلى تفكيك هذه الشركات أو معاقبتها لمجرد حجمها، بل إلى تنظيم سلوكها التجاري وتقييد قدرتها على استغلال موقعها المهيمن.

بموجب القانون، سيكون للمستهلك الأوروبي حرية أكبر في اختيار الخدمات الرقمية، وسيتمكن من إزالة التطبيقات المثبتة مسبقا، واختيار محركات بحث ومنصات بديلة بسهولة.

يحدد القانون مجموعة من المعايير الموضوعية لتصنيف شركة ما كـ"حراس البوابة"، من أبرزها أن تقدم خدماتها في السوق الأوروبية لعدد كبير من المستخدمين، وأن تحقق حجما معينا من العوائد السنوية عالميا. وعند بلوغ هذه العتبات، تصبح الشركة ملزمة بإبلاغ المفوضية الأوروبية، التي تملك 45 يوما عملا لتقرر ما إذا كانت تنطبق عليها صفة "حارس بوابة". بعد ذلك، تُمنح الشركة مهلة 6 أشهر لتكييف نموذج عملها بما يتوافق مع القانون.

ومن بين أبرز الواجبات المفروضة، يتعين على هذه الشركات السماح بتشغيل خدمات خارجية على منصاتها في ظروف معينة، وتمكين شركائها من الوصول إلى البيانات الناتجة من استخدامهم لتلك المنصات، فضلا عن توفير أدوات شفافة للمعلنين لتقييم أداء حملاتهم، والسماح للشركات بالترويج والتعاقد مباشرة مع عملائها خارج المنصة. في المقابل، يُمنع على "حارس البوابة" تفضيل منتجاته وخدماته على حساب المنافسين في نتائج البحث، أو عرقلة المستخدمين من استخدام منصات وخدمات خارجية، أو فرض التطبيقات المثبتة مسبقا، أو تتبع المستخدمين خارج المنصة لأغراض إعلانية دون الحصول على موافقة صريحة ومستنيرة.

وبموجب القانون، سيكون للمستهلك الأوروبي حرية أكبر في اختيار الخدمات الرقمية، وسيتمكن من إزالة التطبيقات المثبتة مسبقا، واختيار محركات بحث ومنصات بديلة بسهولة، كما سيستفيد من زيادة التنافسية، التي تترجَم غالبا إلى خدمات أفضل وأسعار أقل.

سيمنح القانون الشركات الصغيرة والمتوسطة – التي كانت مضطرة للعمل ضمن شروط المنصات الكبرى – فرصة للتنافس العادل. ستتمكن من الترويج لخدماتها خارج المنصة، وستستعيد السيطرة على بيانات مستخدميها، وهو عنصر أساس في تطوير الخدمات الرقمية وتحسينها.

رويترز
بائع يتحدث إلى زبون في متجر "آبل" في مومباي، الهند

لضمان مواكبة القانون للتغيرات السريعة في القطاع الرقمي، ستجري المفوضية الأوروبية تحقيقات سوقية دورية لتقييم أداء الشركات والتأكد من التزامها. كما ستتمكن من تعديل الالتزامات عند الحاجة، وفرض عقوبات مالية صارمة قد تصل إلى 10٪ من إجمالي الإيرادات السنوية عالميا، أو 20٪ في حال التكرار، إضافة إلى غرامات يومية تصل إلى 5٪ من متوسط الدخل اليومي.

وفي حال تكررت المخالفات بشكل منهجي، يمكن المفوضية فرض علاجات سلوكية أو هيكلية، قد تشمل في أقصى الحالات تفكيك جزء من أعمال الشركة، في إجراء يُعَد سابقة في التعامل الأوروبي مع الشركات الرقمية.

أصل الازمة

وبموجب هذا القانون، فرض الاتحاد الأوروبي الغرامة التي وصفت بكونها واحدة من أكبر الغرامات في تاريخ المواجهات التنظيمية مع شركات التكنولوجيا الأميركية. اعتُبر هذا القرار بمثابة منعطف مفصلي في الصراع المستمر بين الاتحاد الأوروبي وعملاق الأجهزة الذكية، وجاء نتيجة تحقيقات مطولة كشفت عن ممارسات اعتبرتها بروكسيل تقييدية ومخالفة للقوانين الجديدة.

فقد تبين أن "آبل" منعت مطوري التطبيقات من توجيه المستخدمين نحو خيارات دفع بديلة خارج متجر التطبيقات – سواء عبر روابط داخل التطبيقات أو حتى من خلال إشارات غير مباشرة تُعلم المستخدم بوجود أسعار أقل على مواقعهم الرسمية. وتُعرف هذه الممارسات في الأدبيات القانونية باسم "منع التوجيه" وقد صُنفت كخرق مباشر لقانون الأسواق الرقمية الذي صُمم لكبح الاحتكار وإتاحة الفرصة لمزيد من التنافس العادل داخل المنصات الرقمية.

وجدت "آبل" نفسها أمام مفترق طرق حاسم، فالقرار لم يكن مجرد إجراء عقابي مالي، بل جاء محمّلا رسالة واضحة مفادها أنه لم يعد مقبولا في السوق الأوروبية استمرار الممارسات الاحتكارية التي كانت "آبل" تعتمدها داخل متجر التطبيقات منذ سنوات

ورأت المفوضية أن سلوك "آبل" لم يقتصر على إعاقة الوصول إلى خيارات دفع أرخص، بل أدى أيضا إلى تحميل المطورين أعباء مالية مرتفعة، وتقويض فرص الابتكار، وإلحاق ضرر مباشر بالمستهلك الأوروبي. ولم تكتفِ بروكسيل بفرض الغرامة فحسب، بل منحت الشركة مهلة لا تتجاوز 60 يوما لإزالة القيود والامتثال الكامل لأحكام القانون، ملوّحة بفرض غرامات يومية قد تصل إلى 50 مليون يورو – أي ما يعادل 5٪ من متوسط إيرادات "آبل" اليومية عالميا – في حال التباطؤ أو المماطلة. أمام هذا التهديد، سارعت "آبل" إلى التحرك، ولكن بما يتناسب مع استراتيجيتها الخاصة في التعامل مع التشريعات: استجابة شكلية تبقي جوهر السيطرة.

القرار لم يقتصر على الغرامة فقط، بل أمهل "آبل" 60 يوما لإزالة القيود والامتثال الكامل لقواعد القانون الأوروبي، تحت طائلة فرض غرامات يومية قد تصل إلى 50 مليون يورو، أي حوالى 5٪ من متوسط إيراداتها اليومية على مستوى العالم. وهذا ما دفع الشركة إلى التحرك السريع، ولكن بطريقتها الخاصة.

استجابة "آبل"

عقب القرار التاريخي، وجدت "آبل" نفسها أمام مفترق طرق حاسم، فالقرار لم يكن مجرد إجراء عقابي مالي، بل جاء محمّلا رسالة واضحة مفادها أنه لم يعد مقبولا في السوق الأوروبية استمرار الممارسات الاحتكارية التي كانت "آبل" تعتمدها داخل متجر التطبيقات منذ سنوات، والتي منعت من خلالها المطورين من توجيه المستخدمين نحو خيارات دفع خارجية أكثر مرونة وأقل تكلفة.

في هذا السياق المتوتر، أُجبرت "آبل" على أحد خيارين أحلاهما مر: إما الامتثال الصريح والصارم لقانون الأسواق الرقمية الجديد (DMA) — مع ما يترتب على ذلك من تقليص سيطرتها على سلوك المستخدمين والمطورين داخل متجرها — أو مواجهة غرامات يومية تصاعدية قد تصل إلى 50 مليون يورو، وهو ما يعادل تقريبا 5٪ من متوسط إيراداتها اليومية عالميا. هذا التهديد المالي الجاد دفع الشركة إلى التحرك السريع، لكن بما يتماشى مع تقاليدها الطويلة في المراوغة التنظيمية.

وفي 26 يونيو/حزيران 2025، كشفت "آبل" رسميا عما أطلقت عليه "نموذج الامتثال لقانون الأسواق الرقمية"، وهو تعديل شامل لمنظومة متجر التطبيقات داخل الاتحاد الأوروبي، لكن بدا منذ اللحظة الأولى أنه أقرب إلى مناورة قانونية منه إلى التزام فعلي بروح التشريع الأوروبي. تضمن هذا النموذج إعادة هيكلة خدمات المتجر من خلال تقسيمها مستويين، المستوى الأول يتيح للمطورين دفع عمولة منخفضة نسبتها 5٪ فقط، لكنه في المقابل يقيّدهم بعدد محدود من الميزات الأساسية مثل مراجعة التطبيقات وضمانات الخصوصية، ويحرمهم من أدوات حيوية مثل التحديثات التلقائية وخيارات الترويج داخل المتجر، وهي أدوات تُعد ضرورية للحفاظ على تنافسية التطبيقات في سوق مزدحمة.

قوبلت محاولات "آبل" بانتقادات حادة من مجتمع المطورين ومنظمات الدفاع عن المنافسة الرقمية في أوروبا، الذين اعتبروا أنها لم تغير شيئا جوهريا، بل فقط أعادت تغليف نموذجها الاحتكاري بطريقة جديدة تبدو "متوافقة" ظاهريا مع القانون

أما المستوى الثاني، فيسمح بالوصول الكامل إلى جميع هذه الامتيازات المعروفة، لكن مقابل عمولة أعلى تبلغ 13٪. هذا التفصيل، بحسب عدد من المحللين، لا يمنح المطورين خيارا حقيقيا، بل يدفعهم عمليا نحو البقاء في المستوى الأعلى لتجنب خسائر تجارية، مما يجعل ما يُسمى بـ"الامتثال" أقرب إلى إعادة ترتيب للقيود نفسها بدلا من رفعها. بكلمات أخرى، منحت "آبل" نفسها غطاء قانونيا جديدا يبقي درجة الهيمنة نفسها ولكن تحت مسمى جديد.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فقد فرضت "آبل" كذلك رسوما إضافية على المطورين الذين يختارون توجيه المستخدمين نحو أنظمة دفع خارجية، وهي الخطوة التي من المفترض أن يضمنها قانون الأسواق الرقمية دون أي قيود أو تكاليف إضافية. ووفقا للنموذج الجديد، ستُفرض رسوم تتراوح بين 5٪ و15٪ على هذه المعاملات الخارجية، وهي نسب تقلص الفائدة الاقتصادية التي يُفترض أن يحققها المطورون من تجنب عمولة متجر "آبل" الرسمية. بل أضافت الشركة بندا جديدا مثيرا للجدل يُعرف باسم "العمولة التكنولوجية الأساسية" — وهي رسم ثابت نسبته 5٪ يُفرض على كل عملية شراء رقمية تنفذ خارج متجر التطبيقات، حتى لو لم تستفد "آبل" منها مباشرة. كما أبقت الشركة رسمها السنوي المثير للانتقاد، والمتمثل في 0.50 يورو على كل عملية تثبيت للتطبيق تتجاوز مليون مرة في السنة.

لم تتأخر ردود الفعل، إذ قوبلت هذه التعديلات بانتقادات حادة من مجتمع المطورين ومنظمات الدفاع عن المنافسة الرقمية في أوروبا، الذين اعتبروا أن "آبل" لم تغير شيئا جوهريا، بل فقط أعادت تغليف نموذجها الاحتكاري بطريقة جديدة تبدو "متوافقة" ظاهريا مع القانون. واتهم كثيرون الشركة بمواصلة فرض "ضرائب خفية" على المطورين الذين يحاولون الخروج من عباءة متجرها، وبإبقاء قبضتها المحكمة على النظام البيئي لتطبيقاتها، بما يعيق المنافسة الحقيقية ويُفرغ قانون الأسواق الرقمية من مضمونه.

وفي المقابل، لم تُظهر المفوضية الأوروبية أي نية لإغلاق هذا الملف. بل على العكس، أعلنت فتح تحقيق إضافي للتدقيق في مدى قانونية الرسوم الجديدة التي فرضتها "آبل"، وخصوصا رسم "العمولة التكنولوجية الأساسية"، الذي قد يُعد انتهاكا لمبدأ النسبة والتناسب الذي يشكل أحد الأعمدة الأساس في قانون الأسواق الرقمية. وتشير تسريبات من داخل بروكسيل إلى أن المفوضية تعكف حاليا على إعداد تقييم قانوني شامل، ومن المتوقع أن تُصدر قرارا إضافيا خلال الأسابيع القادمة لحسم ما إذا كانت هذه الإجراءات تشكل امتثالا حقيقيا للقانون، أم مجرد مناورة أخرى لتأجيل الامتثال وتفريغه من مضمونه.

وكالة فرانس برس
زبون يجرب نظارة الواقع المختلط Apple Vision Pro من شركة "آبل" الأميركية خلال حفل الإطلاق في متجر "آبل" في الشانزيليزيه

في المجمل، قد تكون "آبل" نجحت مرحليا في تفادي الغرامات اليومية الهائلة، لكنها في المقابل أثارت موجة جديدة من الغضب والشكوك حول نياتها في احترام القوانين الأوروبية. وتسلط هذه القضية الضوء على معركة أعمق تتجاوز تفاصيل الرسوم والنسب المئوية، معركة تدور حول السيطرة على مستقبل الاقتصاد الرقمي العالمي. فرغم أن شركة "آبل" قدّمت حزمة التعديلات الجديدة في محاولة واضحة لتجنب العقوبات والغرامات اليومية، فإن المفوضية الأوروبية لم تعلن بعد موافقتها النهائية على هذا النموذج الجديد. بل على العكس، أبدت تحفظا واضحا، مؤكدة أن جميع الخيارات لا تزال مطروحة، في إشارة إلى أن التعديلات التي اقترحتها "آبل" لا تضمن بالضرورة إنهاء الملف أو سحب التهديد بالعقوبات.

المتحدث باسم المفوضية الأوربية توماس رينييه أشار في تصريحات صحافية اخيرا إلى أن التقييم لا يزال جاريا، وأن الاتحاد الأوروبي سيأخذ في الاعتبار ليس فقط الشكل القانوني للتعديلات، بل أيضا مدى التزامها روح قانون الأسواق الرقمية، أي ما إذا كانت التغييرات تحقق فعليا هدف القانون في تعزيز المنافسة وفتح المجال أمام بدائل حقيقية للمستهلكين والمطورين على حد سواء.

لم تكن المواجهة بين شركة "آبل" والمفوضية الأوروبية حدثا معزولا أو سابقة استثنائية، بل جاءت كحلقة جديدة ضمن سلسلة طويلة من الصدامات التنظيمية بين الاتحاد الأوروبي وكبريات شركات التكنولوجيا الأميركية

الاحتمال الأقرب وطبقا لمصادر مسؤولة لـ"رويترز"، هو أن توافق المفوضية على التعديلات بشكل مبدئي، ولكن بشروط وتوصيات إضافية، أو أن تطلب من "آبل" تنفيذ تغييرات إضافية قبل المصادقة الكاملة. فالاتحاد الأوروبي حريص اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على ترسيخ مكانته كمشرّع رقمي عالمي يفرض قواعد واضحة على الشركات التقنية الكبرى، بدلا من السماح لها بالتحايل على القانون.

بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الملف لا يُنظر إليه بمعزل عن السياق الأوسع للعلاقة المتوترة بين بروكسيل ووادي السيليكون. ففي ظل تزايد المواجهات القانونية مع شركات كبرى مثل "غوغل"، "ميتا"، و"أمازون"، يبدو أن الاتحاد الأوروبي يحاول توجيه رسالة واضحة مفادها أن القوانين الرقمية لم تعد صورية، بل قابلة للتنفيذ والمحاسبة.

أما على الجانب الأميركي، فهناك تململ واضح من هذه الإجراءات الأوروبية، واتهامات متكررة بأن بروكسيل تستهدف شركات أميركية تحديدا. ويزيد حساسية هذا الملف، تزامنه مع مفاوضات تجارية حساسة بين الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية، مما يجعل كل قرار صادر من المفوضية الأوروبية تترتب عليه تبعات اقتصادية وسياسية أوسع.

في المحصلة، فإن مستقبل متجر التطبيقات في أوروبا لا يتوقف فقط على كيفية استجابة "آبل"، بل على ما إذا كانت بروكسيل ستصمد أمام الضغوط وتستكمل مشروعها الطموح لإعادة ضبط ميزان القوة في البيئة الرقمية العالمية.

مواجهات وصدامات

لم تكن المواجهة بين شركة "آبل" والمفوضية الأوروبية حدثا معزولا أو سابقة استثنائية، بل جاءت كحلقة جديدة ضمن سلسلة طويلة من الصدامات التنظيمية بين الاتحاد الأوروبي وكبريات شركات التكنولوجيا الأميركية. هذا التوجه الأوروبي المتصاعد يهدف إلى فرض قواعد أكثر عدالة في السوق الرقمية، ووضع حد للممارسات الاحتكارية التي لطالما ميّزت نماذج أعمال تلك الشركات العملاقة.

ومن أبرز هذه المعارك السابقة، المواجهة الممتدة مع شركة "غوغل"، التي تلقت بين عامي 2017 و2019 ثلاث غرامات ضخمة من المفوضية الأوروبية بلغ مجموعها أكثر من 8 مليارات يورو. تنوعت أسباب الغرامات بين استغلال "غوغل" لنفوذها في سوق محركات البحث، وفرض قيود على مصنّعي الهواتف الذكية ضمن نظام التشغيل "أندرويد"، والتحكم بمنصة الإعلانات الرقمية بطريقة تقصي المنافسين. ورغم أن الشركة حاولت في البداية الطعن في هذه القرارات أمام المحاكم الأوروبية، إلا أنها اضطرت لاحقا إلى إجراء تعديلات جوهرية، منها إتاحة خيارات متعددة لمحركات البحث للمستخدمين الجدد في السوق الأوروبية، وذلك في محاولة للامتثال الظاهري على الأقل.

أما شركة "أمازون"، فقد وجدت نفسها في مواجهة تحقيق أوروبي دقيق، بعد اتهامات باستخدامها بيانات البائعين الخارجيين على منصتها التجارية لتحقيق أفضلية تنافسية لمنتجاتها الخاصة. وبعد سلسلة من التحقيقات استمرت لسنوات، توصلت الشركة إلى تسوية مع المفوضية الأوروبية في عام 2022، تعهدت بموجبها بعدم استخدام تلك البيانات، وبضمان فرص متساوية للبائعين في الظهور في نتائج البحث والعروض الترويجية، مما شكل سابقة مهمة في ضبط ممارسات منصات التجارة الإلكترونية.

وفي حالة أخرى، خضعت شركة "ميتا" لفحص دقيق في شأن سياساتها الخاصة بجمع البيانات عبر تطبيقاتها المختلفة مثل "واتساب" و"إنستغرام" و"فيسبوك". وقد أثارت هذه الممارسات شكوكا واسعة حول انتهاك خصوصية المستخدمين وتقويض التنافسية في سوق الإعلان الرقمية. ونتيجة لذلك، أجبرت "ميتا" على إعادة النظر في إعدادات الخصوصية، وتقديم مزيد من الشفافية للمستخدمين الأوروبيين امتثالا لتشريعات الحماية الرقمية في الاتحاد الأوروبي.

تشير هذه القضايا مجتمعة إلى توجه أوروبي استراتيجي طويل الأمد، يهدف إلى كبح ما يُعرف بـ"حراس البوابة الرقمية" — أي الشركات التي تتحكم بالنقاط الرئيسة للولوج إلى السوق الرقمية — وإعادة التوازن بين الابتكار والمساءلة، وبين القوة السوقية وحقوق المستخدمين والمنافسين. ورغم مقاومة الشركات لهذه الإجراءات، عبر الاستئنافات القضائية أو المناورات القانونية، فإن الاتحاد الأوروبي يصر على ترسيخ نموذج تشريعي عالمي جديد، يُلزم حتى أكبر اللاعبين في السوق قواعد أكثر شفافية وتوازنا.

لكن القرارات الأوروبية، وعلى رأسها الغرامات الأخيرة ضد "آبل"و"ميتا"، لم تمر بهدوء في واشنطن. فقد أثارت موجة من الاستياء الرسمي، خصوصا داخل إدارة الرئيس دونالد ترمب، التي سارعت إلى وصف الإجراءات الأوروبية بأنها "ابتزاز اقتصادي مقنّع". وفي تصريح لافت أدلى به المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي لصحيفة "بوليتيكو"، اعتُبرت هذه الغرامات بمثابة "تدخل تنظيمي عابر للحدود يستهدف الشركات الأميركية تحديدا، ويحد من قدرتها على الابتكار والنمو العالمي". وأضاف البيان أن واشنطن لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما وصفه بـ"القيود التنظيمية التي تُستخدم كسلاح سياسي في المعارك التجارية".

وكالة فرانس برس

في خضم هذا التوتر، تحركت جماعات الضغط التكنولوجية الأميركية بسرعة لتغذية الغضب السياسي في واشنطن. واعتمدت في حملاتها مصطلحات محسوبة بعناية مثل وصف قانون الأسواق الرقمية بأنه "حاجز تجاري غير جمركي"، واعتبار الغرامات الأوروبية بمثابة "رسوم جمركية رقمية"، في محاولة لتحفيز الرئيس ترمب المعروف بموقفه المتشدد ضد أي سياسات تفسر كإضرار بالمصالح الأميركية في الأسواق الخارجية. وقد دفعت هذه الضغوط إدارة ترمب إلى إدراج هذا الملف ضمن جدول القضايا التجارية الشائكة مع بروكسيل.

ومع اقتراب جولة جديدة من المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لوّحت واشنطن بإمكان الرد بفرض رسوم جمركية على السلع الأوروبية، إذا ما استمر ما اعتبرته "تمييزا ممنهجا ضد شركات التكنولوجيا الأميركية". ورغم عدم صدور أي إجراءات انتقامية حتى الآن، فإن ملف قانون الأسواق الرقمية الأوروبي بات يُنظر إليه في البيت الأبيض كأحد الخطوط الحمراء في معركة أوسع للحفاظ على النفوذ الأميركي في النظام الرقمي العالمي.

في هذا المشهد المتشابك، تراهن شركات التكنولوجيا على نفوذها السياسي القوي داخل واشنطن لدفع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب نحو الضغط على بروكسيل، أو على الأقل، لإبطاء تنفيذ القانون الأوروبي عبر القنوات الدبلوماسية أو القانونية. وبينما تتصاعد حدة الصراع بين ضفتي الأطلسي، تبقى القضية الجوهرية مطروحة بقوة: من يرسم قواعد النظام الرقمي العالمي؟ هل هي الحكومات المنتخبة ومؤسسات الرقابة؟ أم الشركات العملاقة التي تمتلك مفاتيح البنية التحتية الرقمية العالمية وتتحكم في سلوك المستخدمين؟

font change