الرياض مختبر الابتكار المالي وحاضنة الـ"فنتك" نحو العالمية

منظومة تكنولوجيا مالية ناضجة من إدارة الأصول وحلول الـ"بلوك تشين" إلى أسواق الدَّين والتأمين

الرياض مختبر الابتكار المالي وحاضنة الـ"فنتك" نحو العالمية

تمضي المملكة العربية السعودية بخطى واثقة نحو الهدف الطموح لتطوير القطاع المالي-التكنولوجي، ولا سيما شركات "فنتك" (Fintech) الناشطة في المملكة، وذلك نحو تحقيق هدف 525 شركة تقنية مالية فاعلة في عام 2030، وفق التقرير السنوي لبرنامج تطوير القطاع المالي 2024. وهي تجاوزت فعلا هدف عام 2025 البالغ 230 شركة قبل سنة كاملة من الموعد، ليسجل عدد شركات التقنية المالية 261 شركة فاعلة في السعودية في نهاية العام 2024. في وقت يستمر تدفق رؤوس الأموال الاستثمارية الجريئة (Venture Capitals) إلى هذا القطاع، إذ بلغت الاستثمارات التراكمية فيه نحو 7.6 مليارات ريال (2.03 مليار دولار).

ولا يقتصر النمو على عدد الشركات فحسب، بل يشمل أيضا التوظيف. لقد وُلِّدت أكثر من 11 ألف وظيفة مباشرة، منها ثمانية آلاف و500 تحت إشراف البنك المركزي السعودي. من المدفوعات عبر الهاتف المحمول إلى حلول الـ"بلوك تشين" (Blockchain)، لم يعد "الفنتك" السعودي تجربة ناشئة، بل قوة حقيقية.

في الوقت نفسه، شكلت المدفوعات الإلكترونية 79 في المئة من مجمل المعاملات الإجمالية للتجزئة خلال عام 2024، ارتفاعا من 70 في المئة عام 2023، بما يعادل 12.6 مليار معاملة غير نقدية، مقارنة بـ10.8 مليارات في العام السابق. وقد أصبح تطبيق "سامسونغ باي" (Samsung Pay) جزءا من منظومة الدفع الوطني "مدى"، فيما تجاوز عدد عمليات نقاط البيع 10 مليارات عملية بفضل تركيب نحو مليوني جهاز دفع في أنحاء المملكة كلها. أما المدفوعات الإلكترونية عبر التجارة الإلكترونية، فقد تخطت حاجز المليار معاملة.

لم يعد قطاع شركات "الفنتك" السعودي تجربة ناشئة، بل قوة حقيقية من 261 شركة فاعلة، في مقابل 14 شركة فقط عام 2020  

من جهة أخرى، شكّل تدشين "بنك دي 360" (D360 Bank) محطة مهمة، إذ أصبح أحدث مصرف رقمي ينطلق بموافقة المصرف المركزي، من ضمن توجه عام لتقليص الاقتصاد النقدي وتعزيز مستقبل مالي رقمي متكامل.

من الإدراجات المحلية إلى صناديق المؤشرات العالمية

التحوّل لم يكن داخليا فحسب، بل تعدى حدود المملكة نحو الأسواق العالمية. عام 2024، أُدرِجت 44 شركة جديدة في السوق المالية السعودية (تداول)، ليرتفع عدد الشركات المدرجة إلى 353. كذلك أطلقت "تداول" مؤشر "تاسي 50" (TASI 50)، وطرحت خيارات أسهم فردية لأربع شركات قيادية.

أما دوليا، فقد أُطلِق صندوقا استثمار جديدان يركزان على الأسهم السعودية في بورصتي شينزن وشنغهاي، جمعا 87 و82 مليون دولار على التوالي. وفي طوكيو، أُطلِق أول صندوق للمؤشرات المتداولة (Exchange-Traded Fund أو ETF) يستثمر فقط في الأسهم السعودية، بدعم من "صندوق الاستثمارات العامة" و"مجموعة ميزوهو المالية". كذلك شهدت هونغ كونغ إطلاق أول صندوق من نوعه يتابع الأسهم السعودية.

في الداخل، تخطت قيمة الأصول المدارة في قطاع إدارة الأصول تريليون ريال (270 مليار دولار)، بزيادة 169 في المئة مقارنة بعام 2017، بينما قفز عدد صناديق الاستثمار إلى ألف و549 صندوقا (مقارنة بـ577 فقط عام 2017). أما إيرادات القطاع، فبلغت 5.8 مليار ريال (1.55 مليار دولار)، بزيادة 154 في المئة.

وشهدت ملكية الأجانب للأسهم السعودية، بدورها قفزة هائلة، إذ بلغت 420 مليار ريال (112 مليار دولار)، بزيادة تفوق 500 في المئة مقارنة بعام 2017. وتسعى هيئة السوق المالية إلى الحفاظ على هذا الزخم من خلال تعميق السوق، وتوسيع نطاق المنتجات، وتحسين جاذبية المملكة للمستثمرين الدوليين.

صكوك وسندات وثقافة ادخار

وتشهد أسواق الدَّين السعودية نضجا متسارعا. لقد نمت سوق الصكوك والسندات بنسبة 123 في المئة منذ عام 2017، بفضل التنظيمات المبسطة، وتوسيع قاعدة المستثمرين، وتقديم منتجات مبتكرة. وقد جمعت أول عملية إصدار دولار في إطار "برنامج الصكوك والسندات العالمي" 12 مليار دولار، وسط طلبات اكتتاب بلغت 30 مليار دولار، أي بتغطية تجاوزت 2.5 ضعف.

شكّلت المدفوعات الإلكترونية 79 في المئة من المعاملات الإجمالية للتجزئة عام 2024، مع معالجة 12.6 مليار عملية غير نقدية في أنحاء المملكة كلها

وأطلقت وزارة المالية والمركز الوطني لإدارة الدَّين منتج "صح" الادخاري – وهو أول منتج ادخار حكومي موجه إلى الأفراد، يهدف إلى تعزيز ثقافة الادخار عبر تقديم عوائد مرنة وآمنة. ويكمل هذا الجهد مبادرات أوسع، منها عمليات إعادة شراء ديون مبكرة تجاوزت 63.1 مليار ريال (16.8 مليار دولار)، وتعيين خمسة متعاملين أوليين جدد في السوق المحلية.

وتنال الاستراتيجيا السعودية مزيدا من الثقة من وكالات التصنيف، إذ رفعت "موديز" تصنيف المملكة إلى "إيه إيه 3" (Aa3)، ورفعت "فيتش" التصنيف إلى "إيه+" (A+)، وأصدرت "ستاندرد أند بورز" نظرة مستقبلية إيجابية – وكلها إشارات إلى الثقة الدولية بالاستقرار المالي والنقدي في المملكة.

.أ.ف.ب
شخص يسحب نقود من بنك الأهلي السعودي، 27 مارس 2023

وفي الوقت نفسه، وقّع "صندوق الاستثمارات العامة" ست مذكرات تفاهم مع مؤسسات صينية تصل قيمتها إلى 187.5 مليار ريال (50 مليار دولار)، في خطوة تعزز الشراكات العابرة للحدود وتوسع قاعدة المستثمرين.

الاستقرار والابتكار والنمو الشامل

على الرغم من أن قطاع التأمين كثيرا ما يُغفَل في النقاشات الاقتصادية، يشهد هذا القطاع في السعودية نموا لافتا. لقد زاد مجموع الأقساط المكتتبة بنسبة 16.3 في المئة على أساس سنوي ليصل إلى 76.1 مليار ريال (20.3 مليار دولار)، وارتفعت مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي إلى 2.59 في المئة. كذلك قفز صافي الأرباح إلى 3.6 مليار ريال (961 مليون دولار)، مقارنة بـ3.2 مليار ريال (854 مليون دولار) عام 2023.

ويُعزَى هذا النمو جزئيا إلى الابتكار. لقد أطلقت "الهيئة العامة للتأمين" "مختبرا تنظيميا" لاختبار حلول التأمين المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ونظّمت "إنشورهاك" (InsurHack) – وهي مسابقة هاكاثون تركز على التحوّل الرقمي. كذلك شهد عام 2024 إطلاق منتجات جديدة، منها تغطية السياحة الساحلية، وتطوير العقارات "على الخريطة"، والتأمين ضد المسؤولية المدنية في المناطق المأهولة.

ارتفع مجموع الأقساط المكتتبة في قطاع التأمين بنسبة 16.3 في المئة على أساس سنوي إلى 20.3 مليار دولار، بينما بلغ صافي الأرباح 961 مليون دولار

وربما الأهم، أن وظائف تسويق منتجات التأمين كلها قد وُطِّنت بالكامل، مما عزز التوظيف وبناء القدرات الوطنية. أما في تأمين المركبات، فقد أتاح برنامج "أسهل" خيار الإصلاح بدلا من الدفع النقدي، مما قلص عمليات الاحتيال ورفع جودة الخدمة.

أما المنشآت الصغيرة والمتوسطة، فحظيت بدعم غير مسبوق. لقد زادت حصتها من إجمالي الائتمان الخاص إلى 9.4 في المئة في الفصل الرابع من عام 2024، مقارنة بـ8.4 في المئة في الفترة نفسها من العام السابق. وبلغ تمويل "بنك المنشآت الصغيرة والمتوسطة" 1.5 مليار ريال (400 مليون دولار)، استفادت منه ألف و29 منشأة، في حين دعم برنامج "كفالة" قروضا تتجاوز 107 مليارات ريال (28.5 مليار دولار) حتى الآن.

Shutterstock
مركز الملك عبد المالي الذي يضم مقرات لشركات عالمية في العاصمة الرياض

كذلك بلغت استثمارات رأس المال الجريء في الشركات الناشئة السعودية 2.8 مليار ريال (750 مليون دولار) عام 2024، مما يرسخ مكانة المملكة كوجهة رائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

أهمية الثقافة المالية

يشكل "الشمول المالي" والثقافة المالية من الأعمدة الرئيسة لبرنامج تطوير القطاع المالي. فقد أُطلِق برنامج "مالي" الموجه إلى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ثماني و12 سنة، مستفيدا من التعلم التفاعلي لتعزيز مفاهيم الادخار والميزانية. وفي المقابل، درّبت "الأكاديمية المالية" أكثر من 59 ألف مهني، وأطلقت خمسة برامج شهادات جديدة، من بينها رأس المال الجريء والامتثال التنظيمي والمصرفية الدولية. وحده برنامج "الرئيس التنفيذي المقبل" (Next CEO) خرّج 33 قياديا، إلى جانب برامج تطوير قيادات أخرى.

ويواكب الإطار التنظيمي هذا الزخم. لقد حُدِّثت أنظمة التمويل الجماعي لتتيح للمنصات تقديم قروض تتجاوز 7.5 ملايين ريال (2 مليون دولار) إلى المؤسسات التجارية الكبرى. كذلك عُدِّلت أنظمة التمويل العقاري لتنويع الأخطار، وشُجِّعت المصارف على تقديم منتجات ادخار منظمة.

لم يعد برنامج تطوير القطاع المالي مجرد إطار نظري، بل تحوّل عام 2024 إلى منظومة مالية ناضجة ومترابطة عالميا ومتعددة القطاعات، من التكنولوجيا المالية وإدارة الأصول إلى أسواق الدَّين والتأمين

ووافقت هيئة السوق المالية على اعتماد الحسابات الشاملة (Omnibus Accounts) – وهي حسابات تداول مؤسسية تجمع محافظ متعددة – وأقرّت قواعد أكثر مرونة لإصدارات أدوات الدَّين، وأتاحت مرونة أكبر في عمليات إعادة شراء الأسهم. وتهدف هذه الإجراءات إلى تعزيز الشفافية وحماية المستثمرين وزيادة تنافسية السوق.

أ.ف.ب.
تصميم أولي لمدينة ذا لاين في منطقة نيوم، 26 يوليو 2022

وبالنظر إلى عام 2025، يسعى البرنامج إلى رفع مساهمة إدارة الأصول في الناتج المحلي إلى 31 في المئة، وزيادة حصة قروض المنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى 11 في المئة، وتوسيع سوق الدَّين لتصل إلى 24.1 في المئة من الناتج المحلي. كذلك يُتوقَّع أن يصل عدد شركات "الفنتك" إلى 525 شركة في حلول عام 2030، وأن تبقى نسبة المدفوعات غير النقدية فوق 70 في المئة. وتسعى المملكة أيضا إلى جذب مزيد من المستثمرين الأجانب وتعميق سوق الصكوك.

منظومة مالية تواكب المستقبل

لم يعد برنامج تطوير القطاع المالي مجرد إطار نظري، بل تحوّل عام 2024 إلى منظومة مالية ناضجة ومترابطة عالميا ومتعددة القطاعات. من التكنولوجيا المالية وإدارة الأصول إلى أسواق الدَّين والتأمين، أحرز كل قطاع تقدما ملموسا – مدعوما بالأرقام والإصلاحات المؤسسية.

وها هو عام 2025 يلوّح بمزيد من الطموحات. فإذا كان عام 2024 عاما لإثبات القدرات، قد يكون عام 2025 العام الذي تُرسِّخ فيه المملكة مكانتها كقوة مالية إقليمية – وربما عالمية.

العالم يراقب. والرياض لا تكتفي بالمنافسة – بل تتولى القيادة.

font change

مقالات ذات صلة