الخليج يقود توطين الطاقة النظيفة في الشرق الأوسط

رأس المال والخدمات اللوجستية والتكنولوجيا مفاتيح التحول في الإنتاج

Shutterstock
Shutterstock
التعاون الإقليمي ضروري من أجل مستقبل مستدام من الربط الكهربائي بين الشبكات إلى الاستثمارات العابرة للحدود في الطاقة المتجددة>

الخليج يقود توطين الطاقة النظيفة في الشرق الأوسط

وسط التوترات الجيوسياسية وصدمات سلاسل الإمداد، تتمتع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بقيادة دول الخليج، بفرصة استراتيجية لتوطين صناعة الطاقة النظيفة، وتعزيز الاستدامة الاقتصادية على المدى الطويل الأجل.

نفذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ أن تولى منصبه في يناير/كانون الثاني 2025، العديد من سياسات التعريفات الجمركية التي لا يمكن التنبؤ بها، ومنها الإعلانات المفاجئة والتغييرات المتكررة التي أحدثت اضطرابا في الأسواق العالمية. وقد أدت هذه السياسة التي تتسم بعدم اليقين إلى تعطيل التدفقات التجارية مرارا وتكرارا وتعميق المخاوف في شأن مرونة سلاسل الإمداد العالمية.

مع استمرار تصاعد التوترات التجارية والجيوسياسية، تحول صانعو السياسات والشركات إلى استراتيجيات سلاسل الإمداد التي تركز على المرونة بدلا من التوجه نحو التكاليف، وتشدد على تقليل الأخطار، والاعتماد على دول قريبة، وإعادة الهندسة. وينطبق ذلك على وجه الخصوص على قطاع الطاقة النظيفة، حيث تتركز سلاسل الإمداد العالمية إلى حد كبير في الصين وتعد موطن ضعف متزايد.

لا تزال المنطقة تعتمد بشدة على الواردات من الصين، التي تستحوذ على نحو 70 في المئة من السوق الإقليمية لألواح الطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية

ويمثل هذا التحول فرصة استراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخاصة دول الخليج الغنية برؤوس الأموال، لتسريع جهود توطين صناعات الطاقة النظيفة. من شأن القيام بذلك أن يحد من التعرض للصدمات الخارجية وتقلبات الأسعار، بالإضافة إلى استحداث وظائف عالية الجودة ودعم أهداف النمو المستدام على نطاق أوسع.

دروس من الصدمات الاقتصادية العالمية

ان استمرار عدم اليقين بسبب التعريفات الجمركية، التي جاءت بعد الصدمات العالمية المتتالية: جائحة كوفيد-19، الغزو الروسي لأوكرانيا، والاضطرابات البحرية في البحر الأحمر، يسلط مزيدا من الضوء على هشاشة نظام تجارة الطاقة النظيفة. وأثرت الاضطرابات في أسواق الطاقة والتصنيع والقدرات اللوجستية سلبا على سلاسل الإمداد، مما أسفر عن ارتفاع الأسعار وأحدث تأخيرات كبيرة في تدفق المكونات الأساسية مثل الخلايا الشمسية الكهرضوئية، وتوربينات الرياح، والبطاريات. فبين عامي 2020 و2022، شهدت أسعار الألواح الشمسية ارتفاعا بين 14و20 في المئة نتيجة لنقص المواد الخام وتأخيرات الشحن التي تراوحت بين أسابيع وأشهر.

وبينما يتزايد سعي مختلف الدول لتنويع سلاسل الإمداد استجابة لهذه الديناميكيات المتغيرة، تلوح أمام دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فرصة متنامية لتوطين سلاسل قيمة في مجال الطاقة النظيفة. غير أن المنطقة لا تزال تعتمد بشدة على الواردات من الصين، التي تستحوذ على نحو 70 في المئة من السوق الإقليمية لألواح الطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية.

Shutterstock
ألواح لتخزين الطاقة الشمسية في أحد أحياء مدينة دبي

إن تطوير القدرات المحلية على تصنيع تقنيات الطاقة النظيفة، وتجميعها وابتكارها، يسمح للمنطقة بحماية نفسها من الصدمات الخارجية. وتمتلك دول مجلس التعاون الخليجي عاملَي تمكين رئيسين لدعم هذا الجهد: رأس المال (المالي والبشري)، والقدرة على الاتصال من خلال قطاع النقل والخدمات اللوجستية المتقدمة والموقع الجغرافي المناسب. وبفضل هاتين الميزتين الحاسمتين، تتمتع دول الخليج بموقف يؤهلها لقيادة المنطقة في التحول من مستهلك إلى منتج لمكونات الطاقة النظيفة.

العاملان الرئيسان للتوطين: رأس المال والنقل

على الرغم من أن اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا متفاوتة لجهة جهوزية البنى التحتية، تبرز دول مجلس التعاون الخليجي في عاملين حاسمين يدعمان جهود التوطين: رأس المال ومنظومات الربط والاتصال. فقد ساهمت الاستثمارات الاستراتيجية في شبكات السكك الحديد، والخدمات اللوجستية، والموانئ التجارية، ومن بينها ينبع في المملكة العربية السعودية، وجبل علي في دولة الإمارات العربية المتحدة، في ترسيخ مكانة الخليج كمركز تجاري عالمي. وفي عام 2024، صنفت عشرة موانئ في المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ودولة الإمارات وقطر ضمن أفضل 70 ميناء في العالم من حيث الكفاءة والإنتاجية، وذلك مؤشر الى القدرة التنافسية البحرية المتنامية للمنطقة. ومن المتوقع أن ينمو سوق الشحن والخدمات اللوجستية في دول مجلس التعاون الخليجي، الذي تبلغ قيمته حاليا نحو 81 مليار دولار، إلى ما يقارب 110 مليارات دولار في عام 2030.

أسهمت الاستثمارات الاستراتيجية في شبكات السكك الحديدية، والخدمات اللوجستية، والموانئ التجارية، ومن بينها ينبع في السعودية وجبل علي في الإمارات، في ترسيخ مكانة الخليج كمركز تجاري عالمي. 

على صعيد رأس المال، تدير صناديق الثروة السيادية لدول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة نحو 8 في المئة من أصول الصناديق السيادية العالمية، التي تُقدّر بنحو 4.3 تريليونات دولار. وتسعى الحكومات بنشاط لتوجيه هذا الرأسمال نحو استراتيجيات التنويع الاقتصادي والتوطين. وقد خصصت المملكة العربية السعودية وحدها نحو 30 مليار دولار لرفع نسبة التوطين إلى 75 في المئة في قطاع الطاقة.

تصنيع وحدات الطاقة الشمسية الكهرضوئية في الخليج

وبفضل الخدمات اللوجستية القوية وتوافر رؤوس الأموال التي يمكن الاعتماد عليها، تمتلك دول مجلس التعاون الخليجي أساسا متينا يمكّنها من تسريع وتيرة توطين الطاقة النظيفة. وهكذا تساهم الاستثمارات في المناطق الصناعية، ومراكز الابتكار، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، في دعم تطوير مرافق الإنتاج والتصنيع المحلية لوحدات الطاقة الشمسية الكهرضوئية، ومكونات توربينات الرياح، وبطاريات التخزين، وتقنيات الشبكات.

غيتي
محطة للطاقة الشمسية ضخمة في الصحراء بسعة 500 ألف واط في منطقة الظاهرة، سلطنة عمان

على سبيل المثل، خصصت المملكة العربية السعودية 650 مليون دولار لإقامة شراكات مع شركات صينية لتعزيز التوطين. وتشمل أبرز الصفقات مشروعا لتصنيع وحدات الطاقة الشمسية الكهرضوئية بقدرة 10 غيغاواط بالاشتراك مع شركتي "جينكو سولار" و"فيجين إندستريز"، ومنشأة لصناعة مكونات توربينات الرياح بقدرة 4 غيغاواط مع شركة "إنفيجن إنرجي". وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تعمل شركات محلية مثل "إيكو سولار" لصناعة الألواح الشمسية و"ماغنوس غرين سولار" على تطوير خطوط إنتاج للخلايا الشمسية الكهرضوئية في جبل علي. وتدخل مصر أيضا هذا المجال باستثمار شركة "إيليت سولار" السنغافورية 150 مليون دولار في مركز لتجميع وحدات الطاقة الشمسية في "المنطقة الاقتصادية لقناة السويس".

وبعيدا من التجميع، بدأت المنطقة الانتقال إلى تطوير التكنولوجيا المتقدمة، لا سيما في مجال تخزين الطاقة، بوصفه عنصرا أساسيا لتحقيق أهداف الطاقة المتجددة المحلية، وتعزيز أمن الطاقة، وجعل دول المنطقة رائدة في تصنيع التكنولوجيا النظيفة. وتستثمر المملكة العربية السعودية في تقنيات بطاريات الليثيوم والكبريت لتصبح مورّدا لأنظمة التخزين من الجيل التالي. وتسعى دولة الإمارات العربية المتحدة لتطوير مشاريع بطاريات واسعة النطاق، بما في ذلك مصنع خلايا بطاريات الحالة الصلبة بقيمة 3.2 مليارات دولار في رأس الخيمة، بالتعاون مع شركة "ستيت فولت" الأميركية، الذي يتوقع أن تبلع سعته الإنتاجية السنوية 40 غيغاواط في الساعة.

رأس المال البشري: الحلقة الحيوية

على الرغم من أهمية البنية التحتية والاستثمار والتكنولوجيا، فإن رأس المال البشري يكمن في صميم أي استراتيجيا ناجحة للتوطين. فتطوير قوة عاملة تتسم بالمهارة والقدرة على التكيف، يحدد في النهاية القدرة على بناء صناعات محلية للطاقة النظيفة واستدامتها.

تطوير رأس المال البشري وتعميق الشراكات الدولية، من طريق نقل المعرفة أو المشاريع المشتركة، يساعد في ضمان تحقق جهود التوطين والاستدامة الاقتصادية على المدى الطويل، وتوفير فرص عمل عالية القيمة

يتطلب تصنيع الطاقة النظيفة وتجميعها وأنشطة البحث والتطوير ذات الصلة – من الألواح الشمسية إلى بطاريات التخزين وتقنيات الشبكات – مجموعة متنوعة من الكفاءات الفنية والإدارية عبر سلسلة القيمة، بما في ذلك الهندسة، ومراقبة الجودة، وإدارة سلسلة الإمداد، والعمليات الرقمية. ومع تزايد زخم جهود التوطين، سيشهد الطلب على العمال المدربين في مجال التصنيع وتقنيات الطاقة النظيفة الناشئة تزايدا كبيرا.

Shutterstock
نمو مشاريع وبرامج الطاقة الشمسية لدى دول الخليج

وتحتاج تلبية هذا الطلب إلى استثمار موجه في برامج التعليم والتدريب المهني التي تتوافق مع احتياجات سلاسل القيمة في مجال الطاقة النظيفة. وتعد مبادرة "مؤهل" التي أطلقتها شركة "سابك" السعودية، في إطار برنامج "نساند"، مثالا مبكرا على كيفية دمج التدريب التقني والقيادي المتخصص في استراتيجيات التنمية الصناعية ورأس المال البشري الأوسع نطاقا. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تسعى "عملية 300 مليار" التي تقودها وزارة الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة لتوسيع القطاع الصناعي – بما في ذلك الطاقة المتجددة والبنية التحتية – بتعزيز البحث والتطوير والابتكار.

التوطين والاستدامة

أطلق العديد من مراكز الأبحاث والجامعات في كل أنحاء المنطقة أيضا برامج تدعمها الحكومات لبناء القدرات المحلية. ويعكس دمج تنمية القوى العاملة في استراتيجيات التوطين التزاما على الدى الطويل ببناء اقتصاد مرن وقائم على المعرفة في مجال الطاقة.

يشهد دور منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجال التحول الى الطاقة تطورا كبيرا. ويقود الخليج مسيرة توطين الطاقة النظيفة، إذ الآن هو الوقت المناسب للاستفادة من هذا الزخم. ومن الممكن أن تساهم الحوافز الاستثمارية مثل الإعفاءات الضريبية، والإعانات، والقروض ذات الفائدة المنخفضة، في اجتذاب مزيد من المصنعين وتعزيز القدرات الصناعية في جميع دول المنطقة. كما أن تطوير رأس المال البشري وتعميق الشراكات الدولية، من طريق نقل المعرفة أو المشاريع المشتركة، يساعد في ضمان تحقق جهود التوطين والاستدامة الاقتصادية على المدى الطويل، وتوفير فرص عمل عالية القيمة، وتعزيز أمن منظومة الطاقة.

font change