مارتن غريفيث لـ"المجلة": إنها إبادة جماعية في غزة... وهكذا أرى الشرق الأوسط بعد هزائم إيران

"لسنا أمام شرق أوسط جديد بل سلسلة من التحولات المجزأة... "

بربارا جيبسون
بربارا جيبسون

مارتن غريفيث لـ"المجلة": إنها إبادة جماعية في غزة... وهكذا أرى الشرق الأوسط بعد هزائم إيران

لندن- مارتن غريفيث، خبير بريطاني لامع في شؤون الشرق الأوسط والعالم، عمل مبعوثا للأمم المتحدة في اليمن، واشتغل سرا على ملفات كثيرة، كما تسلم منصب الأمين العام المساعد للشؤون الإنسانية، ما جعله يلعب دورا مهماً في الأزمات الكبرى في العالم، ولم يتوقف عن العمل في الدبلوماسية الخلفية، قبل تسلمه المناصب الأممية أو بعد استقالته في منتصف العام الماضي.

أجرت "المجلة" حوارا موسعا مع غريفيث عن الشرق الأوسط وأزماته، بعد حرب الـ12 يوما بين إسرائيل وإيران، مع التوقف عند الملفات الرئيسة في غزة وسوريا ولبنان واليمن والعراق.

تحدث غريفيث عن فكرة "الشرق الأوسط الجديد" بعد النكسات، التي تعرضت لها إيران ووكلاؤها. وقال إن "موازين القوى تغيرت. وتوزيع النفوذ تبدّل. وإيران ووكلاءها والمجموعات المسلحة التابعة لها فقدت الكثير من قوتها ونفوذها وأصولها، بسبب الحروب التي شُنّت ضدها، وكذلك تلك التي شاركت هي في إشعالها".

وكان حديثه عن الإبادة في قطاع غزة قد أثار جدلا كبيرا، لكنه جدد- ردا على سؤال- القول: "إنها إبادة جماعية لأنها ببساطة إبادة جماعية. ما أعنيه هو أننا نشهد تدمير شعب بأكمله، وتدمير قدرته على التكاثر والاستمرار في الوجود، وتدمير وطنه وتهجيره منه، لا أعتقد أن هناك مجالا للشك في ذلك، ولهذا قلت ما قلته، هذه هي الحقيقة".

وتوغلت دبابات إسرائيلية يوم الاثنين، في الأحياء الجنوبية والشرقية من مدينة دير البلح بقطاع غزة لأول مرة منذ بدء الحرب بعد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في وقت أشار مسؤولو الصحة في غزة إلى احتمال حدوث "وفيات جماعية" بسبب الجوع الذي أودى بحياة 19 شخصا على الأقل منذ يوم السبت. ودعت بريطانيا وأكثر من 20 دولة أخرى، أميركا ليست بينها، إلى وقف فوري للحرب، وانتقدت نهج الحكومة الإسرائيلية في إيصال المساعدات بعد مقتل مئات الفلسطينيين بالقرب من مواقع توزيع الغذاء.

وهنا نص الحوار الذي جرى عبر تطبيق "زووم" في 10 يوليو/تموز 2025:

* بعد الحرب التي استمرت 12 يوما بين إسرائيل وإيران، كيف ترى الوضع في الشرق الأوسط الآن؟

- لست واثقا من أن المنطقة أصبحت أكثر أمنا مما كانت عليه سابقا، رغم كل الادعاءات التي سمعناها، ولا أعتقد أننا نعرف الحقيقة كاملة، إذ إن هناك مزاعم متضاربة، بشأن ما إذا كان المشروع النووي الإيراني قد تعرض لانتكاسة، أو إلى أي مدى حدث ذلك، أرى أن هناك تقاربا محتملا في المصالح لإبقاء هذا الملف غامضا وفي الظل، لأن ذلك يخدم فكرة تحقيق نصر. الولايات المتحدة وإسرائيل تميلان إلى تبني رواية الانتصار، وربما تفضل إيران بدورها الإبقاء على الغموض، لأنها لا ترغب في أن تتعرض لهجوم جديد، في حال لم تكن الضربات السابقة قد نجحت، خاصة أن البنتاغون نفسه أقر بأنها لم تحقق أهدافها، فضلا عن موقف "الوكالة الدولية للطاقة الذرية".

أعتقد أننا نتعامل مع خطاب عام يتسم بالغموض الشديد، وإذا صح هذا التقدير، وأنا واثق من صحته بأشكال متعددة، فإننا أمام مشكلة حقيقية، كما تعلم جيدا، فالسياق أوسع بكثير من إيران وحدها، بل يتعلق بالمنطقة ككل، وبصراع المصالح المتضاربة بشكل عميق. بطبيعة الحال، أنا سعيد جدا بوقف الحرب، فهذا أمر محمود، لكن بالنسبة لي، ما زال الحكم معلقا.

لست مقتنعا بأن استبعاد "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" كان إجراء مناسبا. فهي الجهة القادرة على كشف الحقيقة. لذا، فإن غيابها يثير لدي تساؤلات حقيقية

* هل يعني هذا أننا عدنا إلى حرب الظل، أم إن المواجهة المباشرة بين البلدين ستستمر؟
- هذا سؤال جوهري لا يطرح كثيرا، وأنت تطرحه مشكورا. هناك خياران مطروحان، لكن الواقع نادرا ما يكون واضحا بهذه الثنائية الحادة. كقاعدة عامة، في الحروب دائما ما نجد احتمالين: الأول أن يستمر الوضع الحالي بسبب مصالح متبادلة بين الأطراف، رغم ما يبدو من تناقض، كما ذكرنا سابقا، أي التظاهر بالانتصار ثم الانتقال إلى معالجة قضايا المنطقة بأساليب مختلفة، وسنناقش هذا لاحقا بلا شك. والخيار الثاني يرتبط بما قاله الرئيس ترمب، حين صرح بأنه سيقصف إيران بلا تردد، وكانت تلك عبارته على وجه التقريب، وأظن أن نتنياهو أطلق تصريحا مشابها في حال لوحظ تقدم في المشروع النووي الإيراني.

أ.ف.ب
بقايا صاروخ إيراني سقط على موقع قرب مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، في 29 يونيو، في أعقاب حرب الـ 12 يومًا بين إسرائيل وإيران

في هذا السياق، لست مقتنعا بأن استبعاد "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" كان إجراء مناسبا. أنا بطبيعة الحال أؤمن بها، فهي الجهة القادرة على كشف الحقيقة، وأنا من خلفية أممية، لذا، فإن غيابها يثير لدي تساؤلات حقيقية، أعرف السياقات، كما تعرفها أنت تماما.
ولكن، ردا على سؤالك المباشر، أرى أن الغموض والتعقيد المحيطين بهذه التسوية، ووقف إطلاق النار، على الرغم من كونهما موضع ترحيب بلا شك نظرا لخطورة الحرب، لا يتيحان لنا إمكانية استشراف المسار المقبل بوضوح. لا نعلم ما إذا كانت هذه اللحظة تمثل بداية حقيقية للاستقرار في المنطقة، أم إنها ستكون مدخلا لمحاولة جديدة لفرض الهيمنة، ونحن نعرف تماما الجهة التي تثير قلقنا في هذا السياق.

إشعال الحروب أسهل دوما من إنهائها، هذه هي الحقيقة الجوهرية، ولكن الفارق المهم هذه المرة: وجود رئيس نشط في البيت الأبيض، عازم على إنهاء الحروب

* كنت أتحدث مؤخرا مع خبير، وتطرقنا إلى موضوع الشرق الأوسط بعد هذه الحرب. فهل نحن أمام شرق أوسط جديد حقا هذه المرة؟
- كل تلك الكتب عن الخطط الكبرى، والصفقات الشاملة، والمستقبل... التاريخ مليء بهذه التصورات الضخمة، أليس كذلك؟ شخصيا، لم أصدقها يوما في سياق الشرق الأوسط، رغم أنني، كما قلت، انجذبت إلى بعض الأفكار بعينها. "الاتفاقات الإبراهيمية" مثلا تعد الفكرة السائدة حاليا. لكنني لست مقتنعا بأن السماء ستنقشع فجأة، أو أننا بصدد روح جديدة من التضامن وروح القيادة، أو أن العداوات القديمة– التي ما زالت قائمة ونعرفها جيدا– ستتلاشى بفعل موازين القوى، وتأثير الأطراف الفاعلة الكبرى، سواء إسرائيل أو الولايات المتحدة، أو حتى الاتحاد الأوروبي الذي يميل بوضوح إلى طرف محدد.
لا أرى وجود خطة كبرى للشرق الأوسط، أعتقد أن الفهم الأدق يأتي عبر النظر إلى القضايا بوصفها وحدات منفصلة: ما مصير سوريا، بلدك؟ وما مستقبل إدارة غزة؟ وإلى أي مدى تحقق التقدم نحو حل الدولتين الآن، بعد أن غدا السعوديون منخرطين بشكل كامل، لحسن الحظ، بينما إسرائيل هي الطرف المتحفظ، والموقف الأميركي لا يبدو واضحا لي، حتى ذلك الاجتماع الذي أُجّل بسبب التطورات الأخيرة، كان مثالا جليا على تعقيد المشهد. لذا، لا أعتقد أننا أمام شرق أوسط جديد، بل سلسلة من التحولات المجزأة... وهذا ما يجعل التخفيف من المعاناة أكثر صعوبة.

* لكن لنكن منصفين، هناك اختلاف هذه المرة عن العقود الثلاثة الماضية: ترمب في البيت الأبيض!
- هذا صحيح دون شك!

* وقد كرر ذلك مرارا، أنه ينوي "فرض السلام بالقوة". وكما تعلم، فقد وعد بحل ثلاث قضايا كبرى: أوكرانيا وغزة وإيران، لكن يبدو أنه، وقد مرّت عدة شهور، لم يحل أيا منها!
- لأن الأمر أعقد بكثير مما تخيلنا. إن إشعال الحروب أسهل دوما من إنهائها، هذه هي الحقيقة الجوهرية، ولكنك محق في إبراز فارق مهم هذه المرة: وجود رئيس نشط في البيت الأبيض، عازم على إنهاء الحروب، ويربط سياسته علنا بهذا الهدف، كل هذا الحديث عن جائزة نوبل للسلام... إنه مدروس في خطواته، وإن بدا أحيانا غير منتظم، وهذا يضعنا أمام مفارقة: فمن جهة، نحن محظوظون بوجود رئيس مثل ترمب لأنه "لاعب" وليس "مشاهدا" فقط، وهذا عنصر حاسم في عمليات السلام. لطالما تحدثنا عن "غياب الإرادة السياسية"، لكنها هنا ليست غائبة، بل ربما يعوزها "التوجيه السياسي السليم"، وهذان أمران مختلفان.
ومع ذلك، فإن ما ينقص هذه الرؤية برأيي هو غياب خطة شمولية، وافتقاد لمراعاة الواقعية في السياسات المطروحة. خذ مثلا فكرة طرد سكان غزة وترحيلهم وتحويل غزة إلى "مدن إنسانية،" فهي بالحد الأدنى غير قانونية في أساسها، وغير عملية في نتائجها المتوقعة، وسيثير تنفيذها سخط دول الجوار، لذا، رغم إيماني بصدق نوايا ترمب في تحقيق السلام، فإنني أشكك في منهجيته، ويبدو لي أن جعل "الاتفاقات الإبراهيمية" حجر الزاوية للسلام في المنطقة قراءة قاصرة للتعقيدات الجيوسياسية الفعلية.

* ولكن بخصوص غزة، أنت وصفت ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية"؟
- نعم، فعلت ذلك.

ما يحدث في غزة إبادة جماعية لأنها ببساطة إبادة جماعية، ما أعنيه أننا نشهد تدمير شعب بأكمله، وتدمير قدرته على التكاثر والاستمرار في الوجود، وتدمير وطنه وتهجيره منه

* لماذا تعتبره إبادة جماعية؟
- حسنا، إنها إبادة جماعية لأنها ببساطة إبادة جماعية، ما أعنيه هو أننا نشهد تدمير شعب بأكمله، وتدمير قدرته على التكاثر والاستمرار في الوجود، وتدمير وطنه وتهجيره منه، لا أعتقد أن هناك مجالا للشك في ذلك، ولهذا قلت ما قلته، هذه هي الحقيقة، يمكن للمحامين أن يجادلوا في هذا الأمر، إلى أن يصدر تقييم قانوني رسمي، والذي ستكون له الكلمة الفصل بطبيعة الحال، لكنني شعرت أنه من المهم– وأنا لست محاميا ولا أعمل في الأمم المتحدة– أن أقول الحقيقة كما نراها نحن في المجتمع الإنساني.
وما نراه هو تحميل الفلسطينيين جماعيا مسؤولية ما حدث، إذ وُصف عدد كبير منهم بأنهم ينتمون إلى "حماس"، رغم غياب الأدلة على ذلك. تذكر، في بداية الحرب، ادعت إسرائيل أن بعض موظفي "الأونروا" شاركوا في أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، دون أن تقدم أي دليل، ودون أن تُجري أي تحقيقات مستقلة، لذا شعرت أن من المهم قول ذلك. 
هنالك في القانون عبارة لاتينية، أعرفها من خلال خبرتي كمحام بريطاني، تقول Res ipsa Loquitur، ومعناها أن "الأشياء تتحدث عن نفسها"، إنه الواقع بعينه، ولا أظن أن هناك مجالا للتساؤل هنا، المحاكم ستحكم، والمحاسبة ستأتي، لكن علينا أن ندرك حقيقة ما نواجهه.

أ.ف.ب
أطفال فلسطينيون يصطفون للحصول على وجبة ساخنة في نقطة توزيع طعام في النصيرات في غزة، 30 يونيو 2025

* لقد أثرت أيضا ضجة كبيرة بسبب ما قلته عن "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF).
- نعم.

* يبدو أنك غير راض عما يقومون به. لماذا؟
- هناك سببان لذلك. الأول شخصي، وهو أنهم أساءوا إلى مبادئ العمل الإنساني، التي التزمت بها طوال حياتي المهنية، وقوضوها، بدأت عملي قبل أربعين عاما في التعامل مع "الخمير الحمر"، وفي سياق حالة طوارئ معقدة في كمبوديا وتايلاند، وكما تعلم، لم يكن "الخمير الحمر" أناسا طيبين، ومنذ ذلك الوقت، واصلت التعامل مع هذا النوع من الأزمات، لقد تعلمنا– في منظومة العمل الإنساني التي كنت أترأسها على المستوى الدولي حتى العام الماضي– دروسا صعبة وقاسية، وهذه دروس تتجاهلها "مؤسسة غزة الإنسانية" بالكامل.

لا أظن أنه من الإنصاف، اتهام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالغموض في أهدافه، فهو واضح تماما: استمرار الحرب من أجل القضاء على "حماس"، واستمرار مشروع غير قانوني لترحيل الغزيين

على سبيل المثال، لا يجوز أبدا استدراج الناس إلى منطقة قتل، وهذه بالفعل منطقة قتل. كما تعلم، هناك تقارير تفيد بأن موظفي المؤسسة ربما طُلب منهم إطلاق النار بقصد القتل، لا أعلم إن كان ذلك صحيحا أم لا، لأن أحدا لا يحقق في هذه الأمور، الجيش الإسرائيلي بالتأكيد لا يفعل، وهناك تقارير كثيرة عن أوامر بإطلاق النار في مناطق وجود الجيش الإسرائيلي، سواء "للقنص" أو "للإطلاق فقط". في جميع الأحوال، هذه وسيلة كارثية لتقويض إيصال المساعدات إلى أناس بحاجة ماسة إليها، ويتضورون جوعا. لا يمكن تقديم المساعدات بهذه الطريقة، والأخطر أن هذا يتم بإشراف طرف واحد فقط، هذه ليست عملية مشتركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وليست عملية أممية أو تابعة لمنظمة دولية مستقلة، بل هي مشروع تم تمويله وإنشاؤه ودعمه من قبل طرف واحد، ولا يهمني من هو الطرف "المحق"، لأننا نعلم تماما أننا لا نؤيد ذلك، ونرى نتائجه أمامنا: أربعمئة أو خمسمئة شخص قتلوا حتى الآن في هذه المنطقة.

لقد تعلمنا في منظومة العمل الإنساني دروسا صعبة وقاسية، وهذه دروس تتجاهلها "مؤسسة غزة الإنسانية" بالكامل

وبنفس القدر من الأهمية، بالنسبة لي ولأمثالي من العاملين في المجال الإنساني، لا توجد أي رقابة على هذا العمل، كل ما يقومون به هو رمي الأكياس، ويُجبر أهالي غزة على المشي ذهابا وإيابا على طول القطاع للحصول عليها، في هذا الحر القاسي، يجرون أكياسهم– إن استطاعوا الوصول إليها دون أن يصابوا أو يُقتلوا، ثم يتم نهبهم في طريق العودة، ولا توجد رقابة حقيقية، تبين ماذا حدث لكل تلك المواد الغذائية. بالطبع، هناك ادعاءات كثيرة من "مؤسسة غزة الإنسانية" بأنهم وزعوا ملايين الوجبات– حسنا، لكن لا يمكن تمرير هذا في أي عملية إنسانية طبيعية، لأن المانحين في كل أنحاء العالم سيسألون: كم منها وصل فعلا إلى المحتاجين وكم ذهب إلى السوق السوداء؟ كم نُهب؟ كم جرت المتاجرة به؟ لهذا كله، يُعد هذا نموذجا سيئا للغاية يشوه عمليات الإغاثة الإنسانية.
والأسوأ من ذلك، كما تعلم، هو ما قد يحدث لاحقا في حال تم التوصل إلى وقف إطلاق نار. أليست هذه إحدى النقاط المطروحة الآن؟ ما الذي سيحكم العلاقة بين "مؤسسة غزة الإنسانية" التي حصلت للتو على ثلاثين مليون دولار من واشنطن– شكرا جزيلا– وبين المنظومة الدولية ككل: الأمم المتحدة وغيرها؟

* هل هذا صحيح؟ وأين نقف الآن على المستوى السياسي، من حيث الأفق السياسي وحل الدولتين؟
- أتعرف؟ كأننا نشاهد فيلما قديما شاهدناه من قبل. حين صدر القرار في يناير/كانون الثاني بشأن ذلك الاتفاق المدروس جيدا لوقف إطلاق النار، والذي كان من المفترض أن يمر بمراحل متعددة– اثنتين أو ثلاث– وصولا إلى إنهاء الحرب وانسحاب القوات، وبالتالي إحياء أمل الفلسطينيين في الحصول على مكانهم في هذا العالم، ثم التطلع إلى دولة، لكن كل ذلك توقف بعد المرحلة الأولى. هل تفاجأ أحد؟ بالطبع لا. ولهذا، من السذاجة الاعتقاد أن هذه المرة ستكون مختلفة.
لم تكن الأيام الستون الأولى– مع أهميتها الكبيرة، وكونها محل ترحيب شديد– أكثر من مسعى لتأمين بقاء الناس في غزة، على قيد الحياة من خلال المساعدات. ولكن، بغض النظر عن الكيفية التي وصلت بها إليهم، هناك مخاوف من انتهائها. "حماس" تخشى ذلك، وكل شخص عاقل يخشى ذلك، لأن الأمور تصبح خطيرة بمجرد الانتقال إلى المرحلة الحاسمة، حين نبدأ بمناقشة مستقبل الشعب الفلسطيني، وحقوقه في الحكم الذاتي، وفي تقرير المصير، وفي الأمن. وحين نبدأ في مواجهة مسألة الترحيل إلى الريفييرا، لم أر شيئا– لا أدري إن كنتَ أنت قد رأيت– لا شيء يبعث على الاطمئنان بهذا الخصوص، بل على العكس، ما رأيناه يثير القلق.

هناك خطاب عالي النبرة، وإيمان راسخ في أوساط كثيرة، علينا أن نواجهه، يقول إن حل الدولتين مجرد وهم، وإنه لن يتحقق أبدا. إسرائيل، بطبيعة الحال، واضحة تماما في رفضها له

لا أظن أنه من الإنصاف، اتهام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالغموض في أهدافه، فهو واضح تماما، وعبّر عن ذلك بوضوح في واشنطن، كما تعلم. استمرار الحرب من أجل القضاء على "حماس"، واستمرار مشروع مثير للاهتمام– وغير قانوني فعليا– لترحيل الغزيين من وطنهم، وغيرها من الأمور. لم نر بعد كيف ستنتهي هذه الأمور، لكن ما أخشاه– إذا أردنا اختصار كل شيء– هو أن هناك سببا إنسانيا مقبولا للاستمرار: أن تصل المساعدات للناس الجياع، وهذا مهم وضروري بحق، لكن هناك أيضا دافعا سياسيا آخر: "فلنبرم صفقة" ونعلم جميعا إلى أين تقود هذه الصفقات، لكنها ليست اتفاق سلام، ليس بصيغتها الحالية، ما لم يتم توضيحها وتوسيعها بوضوح، فهي ليست اتفاق سلام.
لقد حان الوقت لنحصل على اتفاق سلام، لا مجرد هدنة مؤقتة. هذه هدنة، على الأرجح. وما يثير اهتمامي– وربما اهتمامك أيضا– هو أن مسودات الاتفاق تتضمن إشارة صريحة من الرئيس ترمب إلى أنه سيكون ضامنا لهذا المسار المرحلي. حسنا... أتمنى أن يحدث ذلك. وأنا لا أشكك فيما إذا كان سيبذل كل جهده من أجله؟ لكن إن فعل، فسنكون محظوظين.

* هناك مبادرة لـ"حل الدولتين" وعقد اجتماع كبير في نيويورك. ماذا ترى في الأسابيع والأشهر المقبلة بشأن هذه المسألة؟
- لقد تقلّبت آرائي كثيرا حول هذا الموضوع طوال الواحد والعشرين شهرا من الحرب، كما هو حالنا جميعا، وأنت معنا في ذلك، إذ إن هناك خطابا عالي النبرة، وإيمانا راسخا في أوساط كثيرة، علينا أن نواجهه، يقول إن حل الدولتين مجرد وهم، وإنه لن يتحقق أبدا. إسرائيل، بطبيعة الحال، واضحة تماما في رفضها له. وهناك من يُطلق عليهم "الواقعيون" يرون أنه حلم مستحيل. ومع ذلك، أرى أن السعودية تلعب في هذا الملف، للإنصاف، دورا بطوليا، إذ بقيت متمسكة بموقفها الثابت الداعي إلى حل الدولتين، نحن إذن أمام مشهد إقليمي بالغ التعقيد، تقابله قناعة راسخة في الرأي العام داخل واشنطن وإسرائيل بأن هذا الحل عبثي.
ومع ذلك، حين نستمع لكل هذا الخطاب، لا يسعنا إلا أن نتساءل: ما البديل؟ هل هناك أي أفق لأمن متبادل دون هذا الحل؟ لا أظن. إن كانت إسرائيل تريد أن تعيش بأمان– وأنا أتمنى لها ذلك، كما نتمنى جميعا– فلا يمكن أن تحقق ذلك من دون ضمان أمن متبادل. هذه قاعدة تعلمناها في كل أنحاء العالم.
أما فكرة بناء الأمن على المناطق العازلة والترحيل، فهي تقف ضد مجرى التاريخ. ولهذا، لا بد من المضي قدما. عقد الاجتماع المؤجل في نهاية يوليو/تموز. وآمل، بكل صدق، أن تظل دول الخليج، والسعودية على وجه الخصوص، متمسكة بموقفها، لأن التفريط فيه بهذه البساطة سيكون أمرا بالغ الخطورة، هذا الموقف ليس فقط مسألة سياسية، بل هو حق أصيل بموجب الميثاق، إنه حق الشعوب في تقرير مصيرها.

"بإمكانكم المغادرة إن أردتم، لكن لا يمكنكم البقاء". هذه المقاربة التي تحدث عنها وزير الدفاع الإسرائيلي كاتس، بشأن "المدن الإنسانية"، فاضحة في قسوتها

* لقد ذكرت الترحيل للتو. سؤال أخير حول غزة: كثر الحديث عن خطط لترحيل أعداد من الفلسطينيين. هل ترى أن هذا السيناريو واقعي؟
- بداية، أرى أن هذا المخطط غير قانوني من الأساس– غير قانوني بشكل قاطع لا لبس فيه. في الأيام الأخيرة، ظهرت مجموعة متزايدة من التعليقات، ولا سيما من محامين إسرائيليين في مجال حقوق الإنسان، وأكاديميين في القانون الدولي، عبّروا عن مخاوف جدية حيال هذا الأمر، كثير منهم يشككون في تصوير إسرائيل لهذه السياسة على أنها "هجرة طوعية"– وهو وصف يبدو أنه يخفي قسرا مقنّعا، أكثر مما يعكس خيارا حرا حقيقيا. وبصراحة، وحده الله يعلم ما هي النوايا الحقيقية الكامنة وراء هذا التوجه.

* أعتقد أن نتنياهو قال مؤخرا: "لن نجبر أحدا على مغادرة غزة، ولكن من يريد يمكنه المغادرة".
- لكن، وبصراحة، من ذا الذي لا يريد المغادرة في هذه اللحظة؟ ومع ذلك، كما قال كثيرون– وأعتقد أن هذا الموضوع يستحق نقاشا أوسع ودراسة أعمق– لا يمكن تصور قرار طوعي حقيقي من الفلسطينيين بمغادرة غزة في ظل هذه الظروف، فهم يتعرضون للقصف، ويُرحّلون قسرا إلى مناطق مختلفة داخل القطاع، ولا يُمنحون خيارا حقيقيا، هل تتذكر مسألة "المدن الإنسانية"؟ هي ليست سوى عملية تجميعهم في أماكن محددة، ليبقى أمامهم مخرج واحد فقط: الخارج. وهذا، وفق أي مرجعية قانونية تخص اللاجئين أو قوانين الهجرة، لا يُعد خيارا طوعيا.
صحيح أنه من حيث المبدأ، من حق الناس أن يقرروا مستقبلهم في مكان آخر– وكان ينبغي الدفاع عن هذا الحق بقوة في الماضي– إلا أن المشكلة، سواء في إسرائيل أو حتى في السودان بدرجة ما، تكمن في أن هذا الحق لم يُمنح لهم أصلا، بل اضطروا لدفع مبالغ طائلة ليغادروا غزة. الآن، يبدو هذا الخطاب عن "الخيار الطوعي" حجة مريحة، لكنها تتنافى مع الحقائق الأساسية المتعلقة بحماية المدنيين، وتتناقض مع القانون. باختصار، المسألة ملتبسة، بل فوضوية، ولو كانت هناك إرادة حقيقية لضمان خيار طوعي حقيقي في المغادرة أو البقاء، لكنا نخوض حوارا مباشرا مع أهل غزة أنفسهم، لا أن يُدار النقاش من البيت الأبيض أو تل أبيب. لكنني لا أرى أننا وصلنا إلى تلك المرحلة بعد.

أعتقد، وخلافا لكل أساليبي وعملي في الوساطة السلمية، أن زحف "هيئة تحرير الشام" نحو دمشق كان ضروريا

* هل تعتقد أن هناك إمكانية حقيقية للمغادرة الطوعية؟ هل يمكن لبعض الناس فعلا أن يغادروا غزة بمحض إرادتهم؟
- لا، لا أعتقد ذلك، الظروف المحيطة شديدة الخصوصية، بل إن الواقع يفرض نفسه بوضوح، لا يحتاج إلى تفسير. الناس يُنقلون قسرا، وقد حدث ذلك خمس، ست، سبع، ثماني، تسع، عشر مرات حتى الآن. يُقال لهم صراحة: "بإمكانكم المغادرة إن أردتم، لكن لا يمكنكم البقاء". هذه المقاربة التي تحدث عنها وزير الدفاع الإسرائيلي كاتس، بشأن "المدن الإنسانية"، فاضحة في قسوتها. ولهذا أرى أنه من الصعب للغاية– بل من شبه المستحيل– القول إن هذا الخروج يتم طوعا. لا أملك كل الحقائق، ولا أكاد أمارس القانون حاليا، ولكن من الصعب جدا تبني رواية "الخيار الطوعي" باعتبارها حقيقة، وإذا كانت هناك حاجة فعلية لتقييم هذا النوع من البرامج، فلا بد أن يُجرى التقييم بشكل مستقل ودولي، تماما كما يحدث في أماكن أخرى من العالم، لدينا بروتوكولات خاصة باللاجئين، ويمكن لكل من "الأونروا" و"المفوضية السامية لشؤون اللاجئين" القيام بهذه المهام، لضمان أن الأمر لا يظل مجرد ادعاء من طرف له مصلحة في الترحيل، بل يعكس إرادة حقيقية لشعب، يتم التحقق منها، ومراقبتها بشكل سليم.

* بالنسبة إلى سوريا، وأنت تعرفها جيدا، وعملت فيها عن قرب، كيف تراها اليوم بعد سبعة أشهر على سقوط نظام الأسد؟
- حسنا، بداية، وكما تعلم يا إبراهيم، فقد التقيت بالأسد عدة مرات في عام 2023. وكان بيننا حديث بدا– حين أستعيده الآن– وكأنه من عالم سيريالي غريب.

* لماذا؟
- أذكر أنه قال لي ذات مرة، أظن في اللقاء الثالث بيننا: "لا تقلق، مارتن، لقد عدت إلى الجامعة العربية. كل شيء على ما يرام. لا ضغوط". فقلت له– أو على الأقل أرجو أنني قلتها فعلا– إن ذلك ليس خبرا سارا يا سيادة الرئيس، لأن هذا الطريق لا يؤدي إلا إلى التبعية والتوسل لنيل الشرعية، وقد أثبت صدق ذلك، لأنه، ببساطة، كان يحتقر الحوار، ويكنّ عداء شديدا للأتراك، وغيرهم أيضا.

* أذكر أنه قال لك، إن لم أكن مخطئا، حين سألته عن إدلب، إنها ليست مشكلته، بل مشكلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أليس كذلك؟
- نعم، قال بالحرف إنها مشكلة تركية. وأضاف أنهم– أي الأتراك– سيتولون الأمر، سينقلون الناس من هناك، وسيرسلونهم إلى بلد آخر. لا أنسى تلك العبارة. حتى أنا، ولست خبيرا بالشأن السوري مثلك، قلت له: "هل أنت متأكد؟". ثم حدث ما حدث، تماما في ديسمبر/كانون الأول 2024. ولهذا، رغم كل ما قمت به في حياتي المهنية، ورغم أن ذلك يخالف طبيعتي كوسيط أممي، إلا أنني أرى أن تقدم "هيئة تحرير الشام" نحو دمشق كان خطوة جيدة في نهاية المطاف، لأننا كنا عالقين في طريق مسدود. الأمم المتحدة لم تحرز تقدما، وأنا لم أحرز أي تقدم مع الأسد.

يجب أن لا نسمح بالفشل، لأننا لا نستطيع، ولا يمكننا أن نرى سوريا تنزلق مجددا إلى هاوية الصراع الداخلي والنزاعات التي سادت حتى الآن

* التطبيع العربي لم يصل إلى أي مكان...
- لم يحقق التطبيع العربي أي تقدم، كان الناس يُخنقون ويسجنون، كانوا يُلقون في تلك الأماكن ويقتلون. لطالما قلنا؛ وكم ناقشنا الأمر أنا وأنت، بمعنى ما، كانت إحدى أكثر المآسي وحشية في الحرب السورية التي استمرت 12 عاما هي احتجاز هذا العدد الكبير من الناس دون محاكمة أو حتى إشعار، ومن كل عائلة تقريبا كان هناك أشخاص في هذه السجون الرهيبة التي افتضح أمرها الآن. وقد سألت الأسد ذات مرة، لم لا تفرغ السجون كخطوة أولى نحو مستقبل جديد عظيم لسوريا بقيادتك؟ لكنه رد مكررا: "لا.. لا.. لا.. لقد أفرغتها، والأمور جيدة. أخبرني ما الذي عليّ فعله أكثر من ذلك". لذلك أعتقد، وخلافا لكل أساليبي وعملي في الوساطة السلمية، أن زحف "هيئة تحرير الشام" نحو دمشق كان ضروريا.

أ.ف.ب
مارتن غريفيث في جنيف في 3 مارس 2022.

* أعتقد أنه كان من المفترض أن تلتقي بأحمد الشرع عندما كان في إدلب بداية 2023؟
- سأخبرك بما حدث. كان ذلك بعيد الزلزال، فقد أردت الاعتذار له. وبالفعل قدمت اعتذارا علنيا عن نقص المساعدات الموجهة إلى الشمال الغربي. لذا، أعلنت أني أريد مقابلة السيد أبو محمد الجولاني (الرئيس أحمد الشرع). وكنت متأكدا أنه كان سيوافق على اللقاء، لكن أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن رفض فكرة اللقاء بحجة أنه إرهابي، مناشدا الأمم المتحدة بذلك، وبالتالي لم أتمكن من عقد ذاك اللقاء. الأمر الذي يجعلني أشعر بحزن كبير حتى الآن، لأنه يتعارض مع مبادئ العمل الإنساني كليا. ففي مجال الإغاثة لا يتمحور الأمر حول كونك إرهابيا. على أي حال، وأنا متأكد أني لا أكشف أسرارا عندما أقول لك، بدل ذلك الاجتماع مع الجولاني حظيت بمحادثة سرية مع وزير خارجيته الحالي، الذي حضر لرؤيتي، بارك الله فيه. أما الجولاني فلم أتمكن من الاجتماع معه.

* هل تخطط للذهاب إلى دمشق لرؤيته؟
- إني أتوق إلى زيارته، آمل أن أراه. فأنت تدرك جيدا ما أحاول قوله، أما بالنسبة لي فقد عملتُ هناك كثيرا، وأعتقد أن هناك ما يمكننا فعله، وهذا يجسد جوهر سؤالك الأول، ويعبر عن وجهة نظري بعمق، مع كل الشكوك المحيطة، وأعتقد أن ثمة شكوكا حقيقية ومحقة لدى كثير من السوريين، في مختلف أنحاء البلاد، حول ما سيحدث على الأرض، وحول حقوق الأقليات. وكما تعلم فأنا على تواصل دائم مع الأكراد. 

الأكراد لا يريدون التخلي عن كيانهم المستقل ويطالبون بالاندماج في القوات المسلحة ككتلة واحدة. ودمشق لا تريد السماح بذلك، لأنهم إذا كانوا متاحين ككتلة واحدة، يمكنهم الخروج في أي لحظة

لا يمكننا أن نفشل، بل يجب أن لا نسمح بالفشل، لأننا لا نستطيع، ولا يمكننا أن نرى سوريا تنزلق مجددا إلى هاوية الصراع الداخلي والنزاعات التي سادت حتى الآن. لكنه لن ينجح إلا إذا أخذ ببعض النصائح، وهذا يتعلق بأمرين أو ثلاثة، فالأمر بداية منوط بأن يكون الانتقال شاملا، وليس تسلسليا، يمكن الجزم بأن الأمن والاستقرار لهما الأولوية القصوى، لكن لا يمكن تحقيق ذلك دون الشمولية. فالقضية ليست مجرد قضية أمنية، وليست مجرد قضية استقرار وحسب. نحن نتحدث عن مسألة انضمام الأكراد، و"قوات سوريا الديمقراطية" إلى قوات الدفاع السورية، وهو أمر جيد وضروري، لكنه لا ينفصل عن مطالبهم المبالغ فيها ربما باللامركزية والهوية، والتي نراها بأشكال مختلفة في شتى أنحاء البلاد، لذا أعتقد أن ما يواجهه السيد الشرع هو تحدٍّ هائل، وهذا ليس أمرا مستغربا، فكل مكان يخوض مثل هذه التجربة الثورية معرض لمثل هذه التحديات، لنأخذ فرنسا عام 1789 مثلا وما حدث هناك، إن ما يواجهه هو مهمة بالغة الصعوبة والتعقيد، إذ يتحتم عليه أولا، تحقيق الاستقرار على الأرض، لكن ينبغي تحقيق هذا الاستقرار سياسيا بالإضافة إلى تحقيقه بالمعنى الأمني. وبالتالي، إيجاد حلول لتوغل كل من إسرائيل وتركيا في بلاده، بالطبع تركيا هي حليف رئيس له، وهذا أمر جيد بالنظر إلى الماضي. 
وأخيرا، هناك قضية الاقتصاد، فكما لاحظت دائما طيلة فترة عملي في سوريا، كان الناس يزدادون فقرا كل عام منذ 2012، ألا تتفق معي في هذه النقطة؟ لذلك فرفع العقوبات أمر ضروري، رغم أنه تأخر كثيرا، وكنت أثرت هذا الأمر مع توني بلينكن، وزير الخارجية الأميركية السابق، بشأن العقوبات السورية قبل عامين ونصف العام، قلت إنها يجب أن تكون حافزا أكثر من كونها عقابا، لكن لم يُتخذ أي إجراء في ذلك الوقت. لذا، لا بد من رفعها. وقد أقدمت الولايات المتحدة على هذه الخطوة بالفعل.. الحمد لله. إلا أن التطبيق على أرض الواقع لا يبدو سهلا. لذا، برأيي، أعتقد أنه بحاجة إلى النجاح، أعتقد أنه مثير للإعجاب للغاية. ومما لا شك فيه أن الناس قلقون بشأن خلفيته، لكننا حظينا به الآن. وسوريا حظيت به. والأهم من ذلك، أن المنطقة حظيت به. والرهان الآن على التأثير في المنطقة أكثر من أي شيء آخر.

* لقد ذكرت الأكراد. لا بد أنك سمعت عن الاجتماع بين "قوات سوريا الديمقراطية" والحكومة في دمشق. لكن يبدو أنه لم يسر على نحو جيد.
- هذا ما يبدو عليه الأمر. لقد سمعت كثيرا من الأكراد، وكذلك من السلطات في دمشق، وأعتقد أن التحدي هنا معضلة. معضلة حقيقية، لكن يمكن حلها. فالأكراد لا يريدون التخلي عن كيانهم المستقل ويطالبون بالاندماج في القوات المسلحة ككتلة واحدة. ودمشق لا تريد السماح بذلك، لأنهم إذا كانوا متاحين ككتلة واحدة، يمكنهم الخروج في أي لحظة. وقد تحدثت مع القيادة التركية في أنقرة قبل شهرين، وأعلم أن تركيا قلقة بشأن ذلك، لأنها تعتقد أنه مجرد إيهام، وبديل لتجدد نشاط "حزب العمال الكردستاني" المحتمل، الذي ألقى سلاحه بالمناسبة. لذا، يبدو مفهوما أن الأتراك لن يقبلوا الطرح الكردي. 

التقيت بمسؤولين سعوديين رفيعي المستوى، مهتمين بشدة بشؤون اليمن، وقال لي أحدهم، وهو رجل مثير للإعجاب وذو خبرة واسعة: "لن يتحقق السلام في اليمن إلا من خلال التجارة"

لكن الأكراد، وقد عملتُ وسيطا بينهم وبين "حزب العمال الكردستاني" وتركيا أيضا قبل سنوات، يحتاجون إلى ضمانات كما نعلم. وكل أقلية أخرى تحتاج إلى هذا النوع من الضمانات بالتأكيد، فالأمر ليس صراعا بين طرفين. وأعتقد أن كل سوري آخر سيرغب في ضمان هويته وحقوقه، وليس أمنه فقط، وأنت في مقدمة العارفين بذلك، لكن لا يمكن تحقيق ذلك بالتدريج، بل يجب أن يأتي كحزمة واحدة متكاملة، تضمن الهوية والحقوق والأمن معا. وهذا ما يثير مخاوف الأكراد، بل وأي شخص آخر في سوريا. ومع ذلك يمكن التغلب على هذه المعضلة. أعرف أن هذا صعب، لكن السيد الشرع يتمتع بشخصية وكاريزما رائعة، وسجل حافل بالنجاحات، ويجب أن نبذل قصارى جهدنا لمساعدة كافة الأطراف على النجاح.

* جميعنا نعلم، والأمر لا يخفى على أحد، حتى البيت الأبيض، في بيانه الرسمي بعد اجتماع ترمب والشرع في الرياض في 14 مايو/أيار، ذكر أنه طلب من الشرع الانضمام إلى "الاتفاقات الإبراهيمية". والحكومة السورية تقول: الأولوية هي لخفض التصعيد وتطبيق اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974. ما رأيك في هذا؟
- عندما بدأت العمل كمبعوث خاص للأمم المتحدة إلى اليمن، وبالتحديد زيارتي الأولى للرياض حيث التقيت بمسؤولين سعوديين رفيعي المستوى، مهتمين بشدة بشؤون اليمن، وقال لي أحدهم، وهو رجل مثير للإعجاب وذو خبرة واسعة: "لن يتحقق السلام في اليمن إلا من خلال التجارة". ما علينا فعله في اليمن، إلى جانب وقف الحرب، وإدراج القليل من حقوق الإنسان في الدستور والحكم، وما إلى ذلك، هو التأكد من وجود روابط تجارية تضمن الاستقرار. بالطبع، ما زلت أتذكر كلماته بوضوح، وأعلم أن هذا لم يتحقق هناك بعد، ولكنه أمر منطقي إن أمكن الخروج به وتنفيذه، وأعتقد أن هذا ما هو غائب عن "الاتفاقات الإبراهيمية"، وهو ليس أساسا لجدل الولايات المتحدة بشأن نقاش تلك الاتفاقات، وبالتالي ما ينقص ذلك النقاش، من وجهة نظري، هو التجارة التي تتلو نقاش القيم. عموما تتبع التجارة المصالح لا القيم. لذا، الأمر لا يقتصر على بناء روابط تجارية وانفتاح اقتصادي، بل يتعلق أيضا بتوافق المصالح، وهذا ما أخشاه. 
ولنأخذ السعودية مثالا على ذلك، من المفترض أنها أول من بادر بالحديث عن هذه القضية، ولطالما تحدثت بها. أتذكر خلال فترة وجودي في اليمن، أنهم تراجعوا بسبب غياب التوافق بين القيم والمصالح. ولكن فيما يخص سوريا، أعتقد أن الأمر سيكون جيدا، ولكنه صعب التحقيق، وأظن أن مصدر القلق بالنسبة للسيد الشرع، كما تعلم، هو أنه إذا ذهب وصافح القيادة الإسرائيلية، كما هي الوعود بأن يتم اللقاء في سبتمبر/أيلول المقبل في الولايات المتحدة، فعليه أن يأخذ شعبه معه، وقد أرخت عقود من هذا القلق والريبة بظلالها على الجميع، وهذا ليس بالأمر الخاطئ. لذا، لا يمكن إبرام صفقة تجارية دون اتفاق سياسي، وبرأيي هنا يكمن مربط الفرس. إن التعامل مع هذه الاتفاقيات كاتفاقية تجارية وحسب يحمل نوعا من التبسيط، وهو أمر غير مجدٍ، ولم يلق أي نجاح في الواقع. فها هي الإمارات والبحرين والمغرب، خير مثال على ذلك، فقد وقعت تلك الدول على الاتفاقات منذ الجولة الأولى، وكانت بداية جيدة، لكنها لم تغير سعر رغيف الخبز. 
إن التجارة ضرورية بالتأكيد، لكن ما يجب أن يحدث أولا ليس اتفاقا كبيرا كما قلنا سابقا، بل نقاش حول ما نوقع عليه؟ هل نوقع على اتفاق يخص التجارة وحسب أم على شيء آخر؟ والحقيقة هي أنهم لا يوقعون على اتفاقات تجارية وحسب.

قبل الحرب مع إيران كنا نسير نحو مسارٍ جديد لليمن، إذ أتاح التقارب الأميركي-السعودي إحياءَ المنطق الذي خبرناه: مهارة السعودية التفاوضية الفذّة مع الحوثيين، عبر القنوات الخلفية

* أعتقد أن ثمة فارقا كبيرا واحدا- وأنت أدرى مني به- بين سوريا من جهة، والبحرين والإمارات العربية المتحدة والمغرب من جهة أخرى. ما رأيك؟
- أتفق وإياك في الرأي تماما، والأمر الذي يقلقني، هو التركيز الحالي على الصفقة بحد ذاتها، كونه يُشكّل ضربا من الإلهاء، فكما نعلم من تجاربنا السابقة– مثله كمثل كل الجهود الرامية لخفض التوترات، وتعزيز السلام ووقف الحروب التي تعتمد على الدبلوماسية والوساطة الدولية (والله وحده يعلم ما سواها!)- فإن الأمر يبدأ بحذر ويتطور تدريجيا، وهو الأمر الذي تُجسّده "اتفاقات أبراهام". سيكون بالطبع أمرا رائعا تحقيق منطقة تجارة حرة في الشرق الأوسط (ممتاز! الجميع سيجني فوائد)، لكنه مستحيل؛ انظر صعوبة التجارب الأخرى كأوروبا و"بريكست". لا يُمكن تحقيق هذا من دون فهم تبعاته، ولا سيما مع استمرار رأي الشعب السوري- كما أشرتَ- بأن أجزاء من أرضهم تحتلها إسرائيل، هذا الاحتلال يجب أن يزول أولا، لذا فأي تحرك... (ولا أتوقع توقيع سوريا أي اتفاق قريبا على المدى القصير) يتطلب حل هذه المشكلة ومشكلة تركيا، لأن سوريا يجب أن تكون دولة مستقلة تتخذ قراراتها بنفسها، أليس كذلك؟

* أنت عملتَ في اليمن قبل سنوات. أخبرني، كيف ترى الوضع في اليمن حاليا؟
- أراه وضعا يجمع الفرصة والتهديد معا. فاليوم كنت أقرأ عن إعادة فرض رسوم الشحن في البحر الأحمر– لقد عاد الحوثيون ("أنصار الله") إلى هذه الممارسة. ونحن نعرفهم جيدا (قابلتُ عبد الملك الحوثي مرارا كمبعوث أممي سابق)، لذا ندرك سيكولوجية حركتهم، ولم يفاجئنا أنهم حوّلوا صراع غزة إلى ساحة لهم لمحاربة إسرائيل– فهذا نهجهم المعتاد. لكنني أصر: تعطيل التجارة العالمية جريمة، وعليهم وقف قصف البحر الأحمر فورا؛ فهو شريان تجاري حيوي بحد ذاته.

كنت آمل– وأنت تتابع هذا– أننا قبل الحرب مع إيران كنا نسير نحو مسارٍ جديد لليمن (أليس كذلك؟)،إذ أتاح التقارب الأميركي-السعودي إحياءَ المنطق الذي خبرناه: مهارة السعودية التفاوضية الفذّة مع الحوثيين، كما في تجربة 2018-2019 عبر القنوات الخلفية. لا أنكر أن السعودية ليست محبوبة في اليمن، لكنها الطرف الأقدر على الفهم المتبادل معهم، لذا كان الحل الأمثل هو تمكين دور الرياض بدل قصف العالم لمواقع عديمة الجدوى. وأنا- من اتصالاتي المباشرة- أدركت أن القيادة الحوثية بدأت تتقبّل هذا النهج ضميريا (على الرغم من حذرهم الطبيعي)، لأنه تفوّق على القصف الجوي الأميركي. بل تلقّينا إشارات من صنعاء وصعدة عن استخدام هذا المسار لاستعادة الهدنة ثم التجارة والاندماج، حتى إنهم تجاوزوا شرط وقف قصف إسرائيل فورا- نهج حكيم! لكن الحرب مع إيران محت كل ذلك، فاغتنم الحوثيون الفرصة لتصعيد القصف (والعكس صحيح)، وهو تهديد رأيناه يتبلور.
الأمر الذي يشغلني حاليا بشدّة- بوصفه أولوية عاجلة- هو إمكان تحوّل ذلك الأمل العابر (الذي لم يكن هدنة كاملة بل تقليصا للتدخل الأميركي وتعزيزا للدور السعودي) إلى واقعٍ لمسناه إبّان عملي هناك. أتمنى ذلك، فالمعضلة قابلة للحل، صحيح أن الناس يبالغون- كما اتفقنا سابقا- في تصوير النفوذ الإيراني. فـ"أنصار الله" رغم اعتبارهم إيران حليفا استراتيجيا، يظلون حركةً وطنيةً يمنيةً متجذرة في عقيدة الإمامة. هذا المشهد أعقد- وأكثر إيجابية- من الصورة الثنائية (أبيض/أسود) التي تروجها الدبلوماسية الدولية. لذا أحتفظ بتفاؤلي حيال اليمن... أليست هذه الفرصة أخّاذة؟ رغم أنني- شخصيا- فشلتُ حين كنتُ هناك.

رويترز
موقع سقوط صاروخ إيراني في حيفا، إسرائيل، 20 يونيو 2025

* ماذا عن لبنان؟ مستقبل دور "حزب الله" بعد انتكاساته وخسائر إيران؟
- لبنان بلد معذّب، أليس كذلك؟ بسبب الطريقة التي شُكّل بها سياسيا، ذلك النظام القائم على توزيع المواقع والمناصب، والدولة داخل الدولة، التي أصبحت في الواقع أقوى من الدولة نفسها، بسبب "حزب الله" وما شابه. 
لقد جرّ "الحزب" شعب لبنان إلى حرب لا يعتبرها اللبنانيون حربهم، نحن نعرف الوضع الاستراتيجي، وهو مأساوي، أما الناس في لبنان، فقد شعرت بشيء من الأمل مع إعلان وقف إطلاق النار، من النادر أن أشعر بالأمل تجاه وقف إطلاق نار، لأنني أشرفت على الكثير منها، ولم ينجح أي منها تقريبا. أعلم أن نسب الفشل مرتفعة جدا، لكنني ظننت أنه كان أمرا جيدا. ثم بدأت أسمع، كما هو متوقع، أن الاتفاق يُخرق يوميا، هناك ضربات جوية يومية، ولا يزال هناك إصرار على دفع "حزب الله" إلى التراجع، لكنه لا يتراجع بما يكفي إلى ما بعد النهر، لذا، لا يزال الوضع قائما، لا يزال قيد التطور، لم نصل بعد إلى الهدف. 

لبنان بلد معذّب، بسبب الطريقة التي شُكّل بها سياسيا، ذلك النظام القائم على توزيع المواقع والمناصب، والدولة داخل الدولة، التي أصبحت في الواقع أقوى من الدولة نفسها، بسبب "حزب الله"

وأعتقد أنني سأقول أمرين: أولا، أظن أننا– وأنتم تفعلون الصواب هنا– لا يجب أن نُبعد انتباهنا عن لبنان. فلبنان، كما يخبرنا تاريخه مرارا، استقراره وحيويته مهمان جدا للمنطقة؛ له دور ثقافي خاص، وهو مجتمع حديث، مجتمع منفتح، مثير للاهتمام، و"حزب الله" كان دائما عبئا على هذا المشهد، فترك لبنان لقدرِه سيكون خطأ فادحا، ونحن– كمنطقة– سنندم عليه. ثانيا، لا توجد دولة في العالم، بما فيها دولتي في ويلز، يمكن أن تقبل بوجود تنظيم يدير الخدمات العامة والإدارة لمجتمع داخل الدولة، ليست لدي مشكلة أيديولوجية مع "حزب الله"، إنما لدي مشكلة مع هذا الواقع. إنه يقوّض الطموحات الديمقراطية الجوهرية للدولة اللبنانية. إذن، هناك عاملان يلتقيان. يجب أن يُحل هذا الأمر. ولن يُحل بالغارات الجوية الإسرائيلية. الأمر أعمق بكثير مما نتصور. ولبنان بلد جميل. رائع فعلا، أليس كذلك؟ إنه بوابة سوريا الجميلة التي نحبها جميعا.

* لقد أُضعف "حزب الله"، أليس كذلك؟
- نعم، وهذا أمر جيد من هذه الزاوية؟

* "حزب الله" أُضعف. ونظام الأسد سقط. وإيران- بطريقة ما- في حالة حرب مع إسرائيل. هل توافق على أن ما شهدناه في الأسابيع والأشهر الماضية يشير إلى أن نفوذ إيران، لأول مرة منذ عام 1979، تراجع بشكل كبير في عموم المنطقة؟
- أوافق تماما. وأعتقد أن هذا سؤال محوري ومهم للغاية، لأنه صحيح أن فكرة "الشرق الأوسط الجديد"– التي ناقشناها سابقا– تأخذ معناها في ضوء هذا الواقع. موازين القوى تغيرت. توزيع النفوذ تبدّل. إيران ووكلاؤها والمجموعات المسلحة التابعة لها، بما في ذلك "حماس"– رغم أنني لست متأكدا، إن كانت "حماس" وكيلا مباشرا لإيران. لكن على أية حال، هذه الجماعات المسلحة فقدت الكثير من قوتها ونفوذها وأصولها، بسبب الحروب التي شُنّت ضدها، وكذلك تلك التي شاركت هي في إشعالها. وهذا، في الواقع، ليس بالضرورة أمرا سيئا، بل إنه يفتح فرصة لتحقيق الاستقرار في المنطقة، بل ويتيح فرصة للمودة بين شعوبها، لكن ذلك لن يحدث إلا إذا أدركت القيادات في هذه الدول أننا بحاجة إلى فهم الأسباب، التي أدت إلى ظهور هذه الجماعات المسلحة، وأن نفهم القواعد الشعبية التي تستند إليها، ثم نتعامل معها بطريقة سليمة، من خلال الرعاية الاجتماعية، ومن خلال الحوكمة، ومن خلال الدبلوماسية، لا ينبغي أن نعاملهم كمنبوذين يجب "القضاء عليهم". باستخدام هذا التعبير، هذا المنهج لن ينجح ببساطة، وهو ليس دقيقا، ويتناقض تماما مع أي تصور للاستقرار المتبادل.

font change