ترمب يوجه بوارجه للكاريبي وعينه على نظام مادورو وثروات فنزويلا

الغموض يكتنف سير العمليات ونطاقها وغايتها والكونغرس يغيب عن المشهد

"المجلة"
"المجلة"

ترمب يوجه بوارجه للكاريبي وعينه على نظام مادورو وثروات فنزويلا

تهدر البارجات الحربية الأميركية فوق مياه الكاريبي منذ 13 سبتمبر/أيلول الماضي في استعراض للقوة ينذر بحرب وشيكة قد تندلع بين واشنطن وفنزويلا. وتدق الولايات المتحدة ناقوس هذه الحرب تحت ستار مكافحة عصابات تجارة وتهريب المخدرات التي تعتبر الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو على رأسها. لكن يبدو أن كلا من نظام مادورو وثروات فنزويلا البترولية والمعدنية هما الغاية من هذه الحملة التي تشنها واشنطن وربما قطع دابر النفوذ الصيني والروسي المتسلل خلسة إلى القارة اللاتينية.

بدأت الحملة إثر صدور أوامر من الرئيس الأميركي بشن هجمات عسكرية على سفن تبحر بالكاريبي بدعوى استهداف عصابات تهريب المخدرات التي تتسلل إلى الأراضي الأميركية. وتدفع إدارة ترمب بأن هذه العمليات تنفذ في المياه الدولية بناء على معلومات من أجهزة الاستخبارات، وأسفرت عن مقتل العشرات من مختلف الجنسيات بالمنطقة.

وقعت الضربة الأولى في مطلع سبتمبر وأودت بحياة 11 شخصا قالت إدارة ترمب إنهم ينتمون إلى عصابة تران دي أراغوا التي أدرجتها على قائمة الإرهاب. واستهدفت الضربة الثانية التي وقعت في 15 سبتمبر قاربا يضم ثلاثة أشخاص قال ترمب إنهم مهربو مخدرات من فنزويلا، بيد أن الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو قال إن بينهم صياد كولومبي، متهما واشنطن بالإرهاب. وتوالت الهجمات ليسقط فيها مواطنون من كولومبيا مرة أخرى ومن توباغو وترينيداد والإكوادور.

يعتبر روبيو ومؤيدوه أن إزاحة مادورو من رأس السلطة غاية أساسية من عمليات مكافحة المخدرات، معززا منطقه بما وجهته وزارة العدل الأميركية لمادورو وعدد من مسؤوليه عام 2020 من اتهامات بتهريب المخدرات

وتبرر إدارة ترمب هذه الهجمات بارتفاع معدلات الوفاة الناجمة عن تعاطي المخدرات في البلاد رغم أن جانبا كبيرا منها يعود أيضا إلى تعاطي الفنتانيل الذي يتم تهريب كميات كبيرة منه عبر المكسيك إلى جانب كولومبيا التي تعد مصدرا رئيسا للكوكايين. ولا تشي قوة النيران التي تم نقلها إلى الكاريبي بأن العمليات ستقتصر فقط على مكافحة تهريب المخدرات لاسيما أن صقورا بإدارة ترمب تحبذ وتحض على الإطاحة بنظام مادورو، وفي مقدمتهم وزير الخارجية مستشار الأمن القومي ماركو روبيو ومدير المخابرات المركزية جون راتكليف. وقد توالت في الآونة الأخيرة دعوات المسؤولين بالإدارة الأميركية إلى تصعيد الضغوط العسكرية للتخلص من نظام مادورو الذي وصفه روبيو بأنه رئيس غير شرعي يتولى بنفسه إدارة عمليات تهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة حتى بات يشكل تهديدا وشيكا.

أ ف ب
يتظاهر أعضاء الميليشيا البوليفارية خارج مقر الأمم المتحدة في كاراكاس في 6 أكتوبر 2025

ويعكف روبيو على بلورة سياسات متشددة يدعمه فيها ستيفن ميلر، مستشار ترمب للسياسات الداخلية، فيما نشر البنتاغون قوات بلغت زهاء 10 آلاف مقاتل بالمنطقة، إلى جانب العشرات من البوارج والطائرات وقاذفات القنابل. ويعتبر روبيو ومؤيدوه أن إزاحة مادورو من رأس السلطة غاية أساسية من عمليات مكافحة المخدرات، معززا منطقه بما وجهته وزارة العدل الأميركية لمادورو وعدد من مسؤوليه عام 2020 من اتهامات بتهريب المخدرات. نه هارب من العدالة الأمريكية وزعيم لمنظمة إرهابية وأخرى للجريمة المنظمة مالبثت أن استولت على حكم البلاد.

وتستضيف الولايات المتحدة زعماء من المعارضة الفنزويلية وفي مقدمتهم رئيس البرلمان الفنزويلي ومرشح الرئاسة السابق خوان غوايدو الذي اعترفت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون بفوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2020. أما مرشح الرئاسة زعيم المعارضة الأخير الذي اعترفت واشنطن وحلفاؤها مرة أخرى بفوزهم في الانتخابات الرئاسية عام 2024، إدموندو غونزاليس، فيعيش حاليا في منفاه بأسبانيا بعد فراره من البلاد بسبب اتهامات بالخيانة.  

ما كشفه ترمب عن تخويله المخابرات المركزية تنفيذ عمليات سرية في فنزويلا ينفي سرية هذه العمليات. فضلا عن تحذير خبراء من أن مثل هذه العمليات سبق أن باءت بالفشل في أميركا اللاتينية

وقد أعلنت الولايات المتحدة في أغسطس/آب الماضي مضاعفة المكافأة التي رصدتها مقابل الإدلاء بأي معلومات تفضي إلى إلقاء القبض على الرئيس الفنزويلي إلى 50 مليون دولار باعتباره زعيم أكبر عصابة لتهريب المخدرات في العالم. ورغم امتعاضه من عدم منحه جائزة نوبل للسلام، هنأ الرئيس الأميركي زعيمة المعارضة الفنزويلية ومرشحة الرئاسة السابقة ماريا كورينا ماشادو بفوزها بها فيما أكدت هي استحقاقه لها وأشادت بدعمه القوي من أجل الإطاحة بمادورو.   

ولا يوحي استخدام الفرقاطات العسكرية وقاذفات القنابل الضخمة "بي-52" التي يمكنها إطلاق صواريخ دقيقة التصويت، وتحليق طائرات من قوات العمليات الخاصة العسكرية بالقرب من سواحل فنزويلا،  وأوامر ترمب للاستخبارات المركزية بالبدء في تنفيذ عمليات سرية هناك بأن الأمر يقتصر على مكافحة المخدرات. وقد صرح ترمب نفسه بأنه يدرس توجيه ضربات داخل أراضي فنزويلا.

وثمة جدال يدور في واشنطن بشأن قانونية عمليات القتل المباشرة التي تنفذها القوات الأميركية في الكاريبي. ففي حين يدفع البيت الأبيض بأن ترمب يعتقد الآن أن بلاده في صراع رسمي مسلح مع عصابات المخدرات، فإنه يرفض تقديم تحليل أو أدلة قانونية تدعم مزاعمه بأن هناك مثل هذا الصراع، أو بأنه يرقى إلى مستوى العداء المسلح الذي يستدعي استخدام القوات العسكرية دون موافقة مسبقة من الكونغرس. فطالما كانت مكافحة المخدرات تتم تحت مظلة سلطات إنفاذ القانون. لكن وزارات العدل بكلتا الإدارتين الديمقراطية والجمهورية دفعت بأن للرئيس بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، أن يخول بتوجيه ضربات محدودة دون الرجوع إلى الكونغرس ما لم تصل هذه العمليات إلى مستوى الحرب حسب تعريف الدستور.

كما يسوق ترمب سببين لحملته على فنزويلا، أولهما، حسب تصريحاته، أن نظامها دفع بالعناصر الإجرامية المحتجزة في سجونه إلى الولايات المتحدة. وثانيها أن حكومتها متورطة في تجارة وتهريب المخدرات، مما يشكل تهديدا للأمن القومي الأميركي.

بيد أن ما كشفه ترمب عن تخويله المخابرات المركزية تنفيذ عمليات سرية في فنزويلا ينفي سرية هذه العمليات. فضلا عن تحذير خبراء من أن مثل هذه العمليات سبق أن باءت بالفشل في أميركا اللاتينية وأتت بنتائج عكسية، ومنها محاولات الإطاحة بنظام فيدل كاسترو في كوبا والذي استطاع أن يبقى على قيد الحياة مع رحيل الكثير من الرؤساء والإدارات الأميركية التي استهدفته. كما أن نجاح مثل هذه العمليات في غواتيمالا، على سبيل المثال، جاء بأنظمة ديكتاتورية وتسبب في وفاة الآلاف من مواطنيها.

ثمة أسباب جيوسياسية أخرى تحتم هذه الحملة العسكرية المفاجئة على فنزويلا، في مقدمتها تحول فنزويلا وبعض دول أميركا اللاتينية إلى بوابات لتسلل النفوذ الصيني والروسي إلى الفناء الخلفي للولايات المتحدة في القارة

في المقابل يستدعي مؤيدو التدخل العسكري الأميركي في فنزويلا، وخاصة المعارضة، غزو بنما كمثال على نجاح مثل هذه العمليات. فقد قامت القوات الأميركية بغزو بنما عام 1989 لإلقاء القبض على زعيمها مانويل نورييغا بعد اتهامه بتهريب المخدرات وارتكاب جرائم تمثل تهديدا للمصالح الأميركية، والسعي إلى حماية الجاليات الأميركية في بنما. وتم القبض على نورييغا وأودع السجون الأميركية بعد الحكم عليه إلى أن تم ترحيله إلى فرنسا عام 2010. لكن الدوافع لذلك كانت قوية بسبب المصالح الحيوية للولايات المتحدة هناك، خاصة في قناة بنما. كما كانت واشنطن تحتفظ بقاعدة عسكرية كبيرة هناك إبان ذلك الوقت، بينما تعدم مثل هذا التموضع في فنزويلا. وكان نورييغا أيضا أحد المدرجين على قائمة عملاء المخابرات المركزية الأميركية، وهو ما شوّه الغاية من هذا التدخل، إضافة إلى الدمار الهائل الذي نجم عنه وسقوط مئات القتلى من المدنيين تحت القصف الأميركي.

أ ف ب
امرأة تمشي بجوار جدارية مرسومة على جدار منزل من قبل أعضاء مجموعة لا بييدريتا الداعمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتن في مجتمع لا بييدريتا في حي 23 دي إنرو في كاراكاس، في 7 سبتمبر 2023

علاوة على ذلك، فإن فنزويلا تتمتع بأكبر احتياطيات للنفط في العالم، وأكبر مخزون من احتياطيات الذهب في أميركا اللاتينية، ما ينفي حاجتها للإتجار في المخدرات. ويحذر خبراء من أن جماعات مسلحة، ومنها عصابات، تسيطر على مناطق شتى من فنزويلا، مما يمكن أن يعقد أي عمليات للإطاحة بالنظام قد تمتد تداعياتها إلى دول أخرى مجاورة.

وأكد الرئيس ترمب أن مادورو عرض عليه تنازلات كبيرة لتهدئة حملته على نظامه لأنه "لا يريد أن يلعب مع الولايات المتحدة".

كما كشفت صحيفة "ميامي هيرالد" أن مسؤولين من حكومة فنزويلا اقترحوا خطة تتضمن تخلي مادورو عن السلطة في النهاية. وأشارت إلى أن نائبة الرئيس ديلسي رودريجز وشقيقها خورخي الذي يرأس البرلمان سلموا اقتراحا عبر وسطاء قطريين يقدمون فيه أنفسهم لواشنطن كبديل مقبول. لكن لم يشأ البيت الأبيض التطرق إلى مثل هذا الاقتراح.       

ويعتقد البعض أن نشر الآلاف من القوات والبوارج والطائرات الأميركية في الكاريبي والضربات الموجهة للقوارب قد يكون من قبيل الحرب النفسية لإحداث انشقاقات في صفوف القوات الفنزويلية أو للضغط على مادورو من أجل التنحي عن السلطة. ويدعم هذا القول الغموض الذي يكتنف تصريحات ترمب بشأن ما إذا كان سينفذ عملية عسكرية واسعة. وفي الوقت ذاته قد يكون إدراج مادورو على رأس عصابات تجارة المخدرات ورصد هذه المكافأة الضخمة للقبض عليه قد دفع بواشنطن إلى نقطة اللاعودة ما لم يتنح عن السلطة. فإذا كانت غاية هذه العمليات العسكرية في الكاريبي هي القضاء على عصابات المخدرات، فمن باب أولى القضاء على زعيمها.

لكن ثمة أسباب جيوسياسية أخرى تحتم هذه الحملة العسكرية المفاجئة على فنزويلا، في مقدمتها تحول فنزويلا وبعض دول أميركا اللاتينية إلى بوابات لتسلل النفوذ الصيني والروسي إلى الفناء الخلفي للولايات المتحدة في القارة. فقد دأب مادورو على تنمية التعاون العسكري والاقتصادي مع بكين وموسكو ومنحهما مزايا تجارية وعسكرية متزايدة وإن كانت لم تصل بعد إلى حد التحالف الصريح. وتمثلت أدوات التسلل الروسي والصيني في برامج ناعمة للتدريبات والمنح الدراسية العسكرية، وزيادة مبيعات الأسلحة، والزيارات المتبادلة لمسؤولين رفيعي المستوى، ومناورات مشتركة. وتعد الصين أكبر مشتر للنفط من كاراكاس.  

انسجاما مع دبلوماسية الصفقات التي ينتهجها ترمب، لا يستبعد أن يقبل الأخير بعرض مادورو بالحصول على نصيب كبير في ثروات بلاده من النفط والحديد والبوكسايت والذهب والغاز الطبيعي

ويبدو أن ترمب يرغب في تقليص، إذا لم يكن وأد، هذه العلاقة بين فنزويلا والدولتين، خاصة الصين التي ترتبط بعلاقات قوية مع فنزويلا منذ تولي الرئيس الراحل هوغو شافيز عام 1999. ويحذر مراقبون من خطورة استمرار هذا التعاون وتطوره لاسيما في ظل تنامي الطموحات الصينية بالتغلغل إلى مناطق النفوذ الأميركي ومنافسته في عقر داره. وقد عجل بهذا التحرك تكرار التضامن، وأحيانا التآزر، بين فنزويلا وأعداء واشنطن، من روسيا إلى الصين وإيران وكوبا.

ولا تقف كل أركان الإدارة الأميركية على وفاق بشأن التدخل في فنزويلا أو حتى مواصلة توجيه الضربات للقوارب في الكاريبي. ومصداقا لذلك، قدم الأدميرال ألفين هولسي، قائد القيادة الأميركية الجنوبية التي تعمل في منطقة الكاريبي استقالته على إثر مساجلات بينه وبين وزير الدفاع بيت هيغسيث الذي اتهمه بتلكؤ القوات الأميركية الواقعة تحت قيادته في التصدي لعصابات المخدرات وعدم إطلاعه على المعلومات التي يطلبها بشأن العمليات. ونقلت وسائل إعلام أميركية أن القيادة الجنوبية تشعر بالقلق إزاء عدم قانونية هذه الضربات. 

كما يعرب بعض الجمهوريين عن قلقهم إزاء التعتيم الذي تفرضه الإدارة على العمليات العسكرية في الكاريبي وتجاهل الكونغرس. وطلب السيناتور الجمهوري تود يونغ، رئيس لجنة الأمن القومي المعنية بالتكنولوجيا الحيوية الناشئة، اجتماعا مع كل من وزيري الدفاع هيغسيث والخارجية ماركو روبيو لمناقشة تداعيات هذه الحملة وشرعيتها. أما الديمقراطيون فنددوا بالعمليات واعتبروها غير قانونية.

وانسجاما مع دبلوماسية الصفقات التي ينتهجها ترمب، لا يستبعد أن يقبل الأخير بعرض مادورو بالحصول على نصيب كبير في ثروات بلاده من النفط والحديد والبوكسايت والذهب والغاز الطبيعي على أن يقوم الزعيم الفنزويلي ببعض الإصلاحات التي ترضي غرور اليمين الأميركي الذي يرمي أيضا إلى أن يجعل من فنزويلا عبرة لباقي دول القارة المتمردة على الهيمنة الأميركية.

font change