فنزويلا وغويانا... صراع النفط أو السياسة؟

هل ينجح الرئيس البرازيلي في إخراج تسوية تحيّد الملف؟

AFP
AFP
أحد أعضاء الميليشيات البوليفارية في مركز اقتراع خلال الاستفتاء على سيادة فنزويلا على منطقة إيسكويبو، في كاراكاس في 3 ديسمبر

فنزويلا وغويانا... صراع النفط أو السياسة؟

عام 2004 في زيارة لدولة غويانا، طمأن الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز مستضيفيه- والأرجح بنصيحة من "معلمه" فيديل كاسترو- قائلا لهم إن الصراع التاريخي على أرض "الإيسكويبو" (Essquibo) المتنارع عليها منذ عقود لا بل منذ قرون قد انتهى وصار من الماضي. لماذا استفاق الآن هذا الخلاف وعاد إلى البروز اليوم، وما هي احتمالات تحوله إلى حرب مفتوحة؟

عودة إلى بوليفار والإنكليز

نتكلم عن جمهورية غويانا التعاونية بتسميتها الرسمية. إنها دولة صغيرة في أعلى شمال خريطة أميركا الجنوبية لها حدود مع البرازيل وفنزويلا وسورينام. هي جزء من منطقة غويانا (العبارة هندية وتعني أرض مُفعمة بالماء بسبب كثرة الأنهار وغزارتها) الموجودة في حوض الأمازون وتنقسم إلى عدة مناطق ودول تلخص تاريخ الاستعمار في القرون الماضية: هناك الإسبانية التي هي جزء من فنزويلا، والبرتغالية التي تحمل اسم ولاية رورايما في البرازيل، والهولندية التي استقلت في أواسط السبعينات وصار اسمها سورينام، والفرنسية وهي مقاطعة تحمل اسم غويان، وأخيرا البريطانية التي استقلت أواسط الستينات وتحمل اسم غويانا.

منظر جوي لمنطقة إيسكويبو في غويانا تم التقاطه في 10 ديسمبر

وهذه الأخيرة التي تعنينا هنا هي ثالث أصغر بلد في أميركا الجنوبية بمساحتها (214 ألف كلم مربع) وثاني أصغر دولة من حيث عدد السكان أي حوالي ثمانمئة ألف نسمة. إنها البلد الوحيد في أميركا الجنوبية الذي يتكلم الإنكليزية، ولذلك ينتمي ثقافيا على الأقل إلى جزر الكاريبي التي تنطق مثله بالإنكليزية كجامايكا وغيرها. أرض غويانا كانت مسكونة من عدة شعوب أصلية قبلية، وأول مستعمرين غربيين أتوا إليها هم الهولنديون في بداية القرن السابع عشر قبل أن يتركوها للإنكليز في نهاية القرن الثامن عشر.

المجموعة الأكبر من الغويانيين اليوم من أصل هندي، تليها المجموعة الزنجية التي تمثل حوالي ثلث السكان

اقتصادها كان قائما على مزارع السكر حيث عمل عبيد جيء بهم من أفريقيا. وبعد إلغاء العبودية عام 1834، بدأت بريطانيا استيراد يد عاملة جديدة خصوصا من مستعمراتها الهندية، ولم تتوقف هذه الظاهرة إلا في بداية القرن التاسع عشر. وهذا ما يفسر أن المجموعة الأكبر من الغويانيين اليوم من أصل هندي (43 في المئة من السكان) تليها المجموعة الزنجية التي تمثل حوالي ثلث السكان. تقليديا، يسكن الغويانيون من أصل هندي أكثر في المناطق الريفية فيما يسكن الأفريقيون الأصل أكثر في المناطق الساحلية. 
حصلت غويانا على استقلالها أواسط الستينات من القرن العشرين بعد نضال خاضه "الحزب الشعبي التقدمي"، وقد انشق عنه "مؤتمر الشعب الوطني". وقد تداول الحزبان السلطة بواسطة انتخابات لم تكن دائما نموذجية. على سبيل المثال لا الحصر، عام 2020، لم ينجح عرفان علي– وهو من عائلة مسلمة من أصل هندي– إلا بعد أن فرض المراقبون الدوليون إلغاء النتائج المعلنة المزورة وإعادة عدّ الأصوات.

REUTERS
الشرطة البرازيلية تقوم بتفتيش السيارات على الحدود مع فنزويلا في 8 ديسمبر

لا بد من التذكير هنا بأن "المحرر" سيمون بوليفار وضع فور استقلال فنزويلا عام 1824 رسالة موجهة للإنكليز طالب فيها بالأراضي الموجودة غرب نهر الإسكيبو. عام 1899، جرى تحكيم دولي من قضاة روس وإنكليز وأميركيين أعطوا هذه الأراضي لبريطانيا، وقد وافقت فنزويلا آنذاك على التحكيم. مع مرور الوقت وشهادات بعض القضاة، تبين أن التحكيم كان خدعة غير منصفة. وعام 1966 عشية استقلال غويانا عقد اتفاق في جنيف بين بريطانيا وفنزويلا ألغى تحكيم عام 1899 ووضع آلية لحل النزاع بين طموحات الطرفين قائمة على مرحلة انتقالية من التفاوض من أربع سنوات لم تؤد إلى نتيحة. وبقيت فنزويلا تطالب بهذه الأراضي "المتنازع عليها" كوريثة للحدود الاستعمارية الإسبانية وتتمسك باتفاقية جنيف فيما غويانا تمدد الأمر الواقع كوريثة بريطانية لتحكيم عام 1899.

منذ أن حاولت غويانا التنقيب على النفط في الأراضي "المتنازع عليها"، ازداد التوتر بينها وبين فنزويلا

النفط عصب الحرب

يبدو أن اكتشاف حقول نفطية واسعة عام 2015 من قبل العملاق النفطي "إكسون موبيل" عاد ليؤجج الخلاف القديم حول نهر الإسكيبو والمنطقة المحيطة به الممتدة على مساحة 160 ألف كيلومتر مربع ما يشكل أكثر من ثلثي دولة غويانا (!) وحيث يسكن أقل من سدس سكانها. وقد تمت اكتشافات جديدة قبل شهر حولت الدولة الصغيرة إلى دولة تحظى بأكبر احتياط نفطي (11 مليار برميل) بالنسبة لعدد سكانها، متخطية المركز الذي كانت تحتله الكويت. وقد طورت "إكسون موبيل" 63 مشروع تنقيب، مما رفع إنتاج غويانا إلى 600 ألف برميل في اليوم وقد يصل إنتاجها إلى مليون ومئتي ألف برميل يوميا حتى نهاية عام 2027. أما فنزويلا، فلديها أكبر احتياط نفطي محقق في العالم أي 300 مليار برميل، ولكن صناعتها النفطية تمر حاليا بأزمة عميقة نتيجة العقوبات المفروضة عليها من قبل الولايات المتحدة وأيضا بسبب الفساد وسوء الإدارة. وقد انهار إنتاجها خلال عقد من الزمن من 3 ملايين برميل في اليوم إلى أقل من 400 ألف، وتستعيد الآن تدريجيا قدرتها الإنتاجية التي تقدر بنحو 750 ألف برميل يوميا.

EPA
نيكولاس مادورو خلال نشاط حكومي بكراكاس في 7 ديسمبر

لنتوقف عند اللحظة التي يمر بها كل من البلدين: 
كانت غويانا من أفقر دول العالم، وأعادت ترتيب أوضاعها وتنقية اقتصادها في نهاية الثمانينات وتحقق الآن أرقاما قياسية عالمية في النمو منذ اكتشاف النفط. وقد نما ناتجها القومي هذا العام حوالي 38 في المئة. في المقابل، يغرق الاقتصاد الفنزويلي المرهون للنفط في أعمق أزمة عرفها في تاريخه؛ إذ تراجع ناتجه القومي حوالي 80 في المئة خلال العقد الأخير فيما وصل التضخم إلى 200 ألف في المئة عام 2019 وهو رقم قياسي عالمي سيكون من الصعب تخطيه في أي بلد، مما أدى إلى هجرة أكثر من سبعة ملايين من مواطنيه وانتشارهم في كل أنحاء العالم وخصوصا في أميركا الجنوبية. ومن القعر الذي وصلت إليه تعيش الآن الدولة المنهارة بداية استعادة متواضعة وبطيئة لعافيتها، جزئيا بسبب دولرة اقتصادها.

تفاقم التوتر

منذ أن حاولت غويانا التنقيب على النفط في الأراضي المتنازع عليها، أخذ التوتر يزداد بين الطرفين، وكلما ساء وضعها الداخلي، أخذت فنزويلا مواقف أكثر عدوانية وقد تم إحصاء عدد من الحوادث الأمنية بدءا من عام 2013 ما جعل غويانا ترفع الخلاف أمام محكمة العدل الدولية عام 2018. قررت هذه الأخيرة في أبريل/نيسان 2023 أنها مؤهلة لإعطاء حكم في الملف، فيما دعت فنزويلا لتنظيم استفتاء استشاري حول وضعية هذه الأراضي في الخامس من الشهر الجاري. تضمن الاستفتاء خمسة أسئلة تبدأ برفض تحكيم عام 1899 وصلاحية المحكمة الدولية، وتمر بضم الأراضي المتنازع عليها وصولا إلى إعطاء الجنسية لسكانها. ولجأت غويانا إلى محكمة العدل في لاهاي في محاولة لمنع الاستفتاء. اكتفت هذه الأخيرة بمطالبة فنزويلا بعدم أخذ خطوات تمس بالواقع الحالي على الأرض.

AFP
رئيس "اللجنة الخاصة للدفاع عن غويانا" خلال الإعلان في كراكاس عن خريطة فنزويلا الجديدة التي تشمل إقليم إيسكويبو، في 8 ديسمبر

استفتت فنزويلا ما طلبه منها مادورو بمواليها ومعارضيها بنسبة تفوق 95 في المئة، مع أن هناك شكوكا حول مستوى المشاركة. يومان بعد الاستفتاء، أقر مادورو خطة عمل من تسع نقاط تحرّم على الشركات النفطية التنقيب في البقعة المعنية وتعطيها ثلاثة أشهر للتوقف تحت طائلة مقاطعتها، وبموازاة ذلك، طلب من الشركة الفنزويلية إعطاء رخص للتنقيب فيها. وأعلن تأسيس ولاية جديدة وطبع خرائط جديدة للبلد تشمل مقاطعة إيسكويبو وإجراء إحصاء سكاني فيها كما أقر بتغطية صحية وتربوية لسكانها، وبمشاريع تنموية وبيئية فيها، وأسس فرقة عسكرية جديدة وأرسلها إلى المنطقة المحاذية. 
في المقابل، أعلنت غويانا- التي اعتبرت نفسها مهددة بخطر "وجودي"- استنفار جيشها وقيامها بمناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة، مضيفة أن كل الاحتمالات متاحة لديها، بما فيها فتح قواعد عسكرية على أراضيها. وارتفعت اللهجة بين الطرفين وكل واحد يتهم الآخر بـ"استفزازات متهورة".

الرئيس البرازيلي لا يستطيع أن يفشل في غويانا فيما لم ينجح في محاولاته لإيقاف حرب أوكرانيا ولا في وقف حرب الإبادة على غزة

التسوية التي يهندسها لولا

 تسرع بعض المحللين ورأوا في الخلاف حول الإيسكويبو نسخة جديدة من الصراعات التي تعيد صياغة العالم الجديد على نمط حرب أوكرانيا وروسيا أو حتى إلى حد ما حرب إسرائيل و"حماس"، حيث يعلو منسوب العنف على كل ما عداه وحيث ينقسم العالم بين محور دول الغرب تحت قيادة الولايات المتحدة والمحور الروسي الصيني الذي يميل نحوه ما صار يعرف بـ"الجنوب الكوني". نسوا أننا في أميركا الجنوبية حيث عادة لا معركة تعلو فوق صوتها، وخصوصا بضيافة الجملة "الثورية" التشافيزية. كما نسوا على سبيل المثال أن للصين مصالح ومشاركة في المشاريع النفطية في البلدين. لفت الانتباه في ذروة هذا الضجيج الكلامي الاتصال الهاتفي بين وزيري خارجية الصراع يوم الأربعاء أي بعد الاستفتاء، حيث اتفقا على ترك "قنوات الاتصال مفتوحة بينهما".
دليلنا لهذه الطمأنينة هو الرئيس البرازيلي لولا الذي لا يستطيع أن يفشل في غويانا فيما لم ينجح في محاولاته لإيقاف حرب أوكرانيا ولا في وقف حرب الإبادة على غزة؛ سرعان ما تدخل لولا وقال من دبي: "إن كنا لا نريد شيئا ولا نحتاج إليه، فهي حرب إضافية وتحديدا في أميركا الجنوبية". يدرك لولا أن الموضوع ليس بالمواجهة العسكرية المستبعدة بل بخطوة غير محسوبة تدحرج الوضع إلى مأزق. ويدرك أن أي تحرك عسكري لكاراكاس عليه أن يعرج حتما من الأراضي البرازيلية بسبب الطبيعة الوعرة بين الطرفين المتنازعين، فرفع من مستوى الوجود والمراقبة على الحدود. وسرعان ما اتصل بالرئيسين، وخطّ بيده الكلمة "المفتاحية" التي ما برح يرددها والرافضة للتصرفات "الأحادية"، فضمّنها في بيان مشترك لكل دول أميركا الجنوبية وكذلك في موقف روسيا التي تعتبر بحق حليفة مادورو.

AFP
الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا

أخيرا ليس آخرا، اقترح لولا على رئيس سان فيسينتي وغراناديناس– وهي دولة وجزيرة صغيرة تترأس حاليا مجموعة دول أميركا اللاتينية والكاريبي– أخذ المبادرة مع الطرفين واعدا بدعمها وباستضافة الاجتماعات في برازيليا عند الحاجة. وهذا ما بدأ يتحقق إذ ستعقد قمة بين الرئيسين المتنازعين نهار الخميس في كينغز تاون، عاصمة سان فيسينتي.
إذن لماذا كل هذا الضجيج؟ قالها مادورو بعد الاستفتاء: "عاجلا أم آجلا، سنجلس وجها لوجه مع حكام غويانا وإكسون موبيل". إنه يدري أن التنقيب جار وأنه لا يستطيع أن يمنعه ولا أن يوزع رخصا ولا أن يحتل جارته ولا أن يضم 70 في المئة من أراضيها. إنها حرب مبرمجة مع وقف التنفيذ، ريثما ينجح مادورو في إرباك الوضع وربط النزاع خلال فترة الثلاثة أشهر التي حددها للشركات. ونجاحه قد يعني وجوده على طاولة المفاوضات لتحديد مستقبل هذه الأراضي وشروط التنقيب فيها على ضوء اتفاقية جنيف.

أبعد من الصراع المحلي، فإن بايدن ومادورو يتحركان وفي أفقهما "السياسي" انتخاباتهما الرئاسية السنة القادمة

أما غويانا التي تحاول أن تقفز فوق هذه الاتفاقية باللجوء إلى المحكمة الدولية، فهي تجمّع حلفاء– وأولهم الولايات المتحدة، وتساير البرازيل– لأنها تدرك أن المواجهة العسكرية- وإن لم تحصل- غير متكافئة،  وميزان القوى سيجد ترجمة ما له في التفاوض، فجيشها مؤلف من ثلاثة آلاف جندي وهو ما لا يقارن بجيش فنزويلا ومعداته. ولكنها تدرك أيضا أن الولايات المتحدة ستجدد بعد أشهر قليلة اتفاق تخفيف العقوبات عن فنزويلا، وهو تدبير قد ينفع في تقوية موقفها. هذه هي حدود اللعبة: بين التفاوض المباشر تحت إشراف إقليمي ليأخذ في الحسبان مصلحة غويانا أو المحكمة الدولية على أن تستوعب مغزى اتفاق جنيف والمصلحة الفنزويلية، أو مزيج من الاثنين معا.
أبعد من الصراع المحلي، إذا جاز التعبير، بايدن ومادورو يتحركان وفي أفقهما "السياسي" انتخاباتهما الرئاسية المعقود إجراؤها السنة القادمة: من جهة بايدن، خطته دفاعية: لا يستطيع أن ينكشف أمام خطوة غير محسوبة يتخذها مادورو في مسألة تزويده بالطاقة في حديقته الخلفية، ما قد يفتح جادة أمام ترمب للمزايدة عليه، فيشارك بمناورات عسكرية وفي الوقت ذاته، يطلب من لولا أخذ التدابير الكفيلة بتحييد الملف. من جهة مادورو، الخطة حتما هجومية: نجح من خلال إثارة مسألة الأراضي المتنازع عليها في رص الصفوف بمسألة تتعلق بالوحدة الوطنية أكثر منها بالأجندة "الثورية"، مما أدى إلى تقسيم المعارضة وإرباكها وجعلها ترص الصفوف حول زعامته لأول مرة منذ وصوله للسلطة، ولن يتنازل عن هذا "الإنجاز" قبل ترجمته في الصناديق.

font change